ديوان "السراب" للسيد عبد المحسن فضل الله
مناجاة تلوح بالإلفة والطهر


السيد عبد المحسن فضل الله شاعر من شعراء جبل عامل، ينتمي الى جيل الخمسينيات الشعري العربي، اللبناني تحديداً، والجنوبي منه بوجه أخصّ. وفي غمرة انهماكه بواجبه الديني، دوّن أشعاره في أوراقه الخاصة، وبعد وفاته جمعها السيد عبد الحليم فضل الله كمخطوطة ديوان صدر بعنوان "السراب" عن دار الهادي ـ بيروت 2003.

شكل الشعر أحد ملامح شخصيته الإنسانية، وهكذا يكون عالم الدِّين شاعراً، لكن ذا خصوصية شعرية قائمة على التقوى. ربما أراد لقصيدته أن تكون شعيرة من شعائر الله التي هي من تقوى القلوب. انها ابتهالية لما تتسم به من خشوع هاديء في صنيعها، بعيدة عن أجواء الخطابية المتذبذبة. سُكبت باتزان رصين على الورق. لذا أتت خالية من التزويق البياني/ اللفظي، أو اللعب اللغوي المُغلَّف بسحرٍ ظاهري أو بهرجة مصطنعة. واتضاح ذلك يظهر في هذه المناجاة التي ترفع بياض البراءة الصافية علماً عالياً يلوح بالإلفة والطهر:

إيه ربي فلست أعشق إلا

أن أناجيك بُكرةً وعشيا

وابتعادي إليك عن مورد البغي

والجور وما يُثير الأبيّا

ان هذا العشق الروحاني الصرف يمتد عمودياً من الأدنى الى الأعلى كانغلاق عمود النور من غسق الظلام، ليشعّ نور الله العظيم من الأعلى الى الأسفل وينشر اطمئنانه على النفس الحائرة، لاحتضان القلب المعذّب مسوِّغاً الارتحال الإنساني الجامح نحو الأروع والأنقى والأمثل والأكمل في فضاء الوجود للتحرر من ربقة قيود الأرضية وعبثيتها.

كما يأتي بثه شجياً هانئاً في تؤدة رائعة:

وما اتّزرت بما يُزري ولا رشحت

نفسي بعاهة هذا العالم الفاني

لذلك كانت العفة من شيمه، وغزله العفيف منغلق عن ترغيبات المجون وصخب الشهوة المبتذلة، إذ هو ينادي حبيبته نداء البراءة الطفولية بمستعذب من البث العاقل في التهاب الحنين:

تعالي فهذا القلب يحمل طهره

إليك ولم يجنح لشائبة الغدر

تعالي تري ما تبتغين وترتجي

عفاف فتىً لم يبغ منك ما يُزري

ان هذا النداء لا يحتمل الازدواجية لا في الخصوصية الحميمة ولا في الحياة عموماً في الاختلاط بالآخرين، فالأمانة والصدق من شيم الإنسان المؤمن بخالقه والمخلص لتعاليم دينه، لذا فإن من الطبيعي والمنطقي أن لا يُسلس لغير الحق قياده، ولم يعرف الغدر والسُباب الى نفسه سبيلاً لأن ذلك من شيم الجبناء، إذ هو يقول مجاهراً:

ولم أُسلم لغير الحق نفسي

ولم أرفع لغير الله شاني

وما حمّلت قلبي غدر قومٍ

ولم يقو على الفحشا لساني

"السراب" تجربة وجدانية فريدة تعمّقت وتأصلت بين حدّي غربتين: الحزن والأمل. فعلى قدر ما يتعاظم الحد الأول في النفس التواقة الى إشباع حنينها المتواصل الى الصفاء الروحي، بقدر ما يتعاظم الحد الثاني الى التحرر من السقطات الوجودية.

فللنفس إشعاعاتها الخاصة وللوجدان ذهنية التوحد بعوالمها الداخلية، فترتد غربة الشاعر الى مثواه الداخلي (خصوصية) وتغدو العوالم الخارجية بالنسبة إليه رافداً ثرّاً للحنين الأبدي الى خلاص ما، وليست انعكاساً لمآلات تزيينية، بل تصبح مسارح أثيرية لروايات خاصة عن لواعج نفسه واندياحات روحه المُضناة، أفرغها في قصائد قولبت حزنه كبرياء جليلاً من مادة دسمة الحروف والمعاني، تملك دلالاتها على رهافة الحسّ وصفاء الطوية ونبل العاطفة:

إيماض برقٍ من شعوري

في طيبه طيب الخمور

أرسلته كالنيّرات

بظلمة الشهب الكفور

وسكبت فيه عصارة

من قلبي الدامي الطهور

ونظمته أنشودة

تُتلى على صحف العصور

طير الأراك مفرداً

فيها على الغصن النضير

أودعت فيه عواطفي

عبّاقة بشذاالعبير

كلمات محسوبة، دقيقة المعنى، مقتصدة في البوح، مُشبعة باليقين الخيالي الذي يضيء الروح في البحث عن إجابات وجودية شافية يتلمسها الشاعر بإيمانه اليقيني بوحدانية الخالق وشفاعة الرسول وأهل بيته يتخذ صاحبها من الإيمان مركزاً ثابتاً يحمل النفس على شفائها من بواعث القلق التي تجعل من الصدمة الدنيوية مجرد عارضٍ عابر تمر به النفس مؤمنة بخلاصها من ربقة الدونية الوجودية. وهنا يكمن سرّ ديوان "السراب" للسيد عبد المحسن فضل الله.

أحمد ياسين