رسّام الكاريكاتور محمود كحيل
سيرة تضجّ بالصمت


قبل أكثر من سنة رحل عن هذه الدنيا فنان مكتنز بالسخرية والصمت والنقد.

لبناني انطلق من هنا وانتقل الى لندن في رحلة جوية هي الأولى والأخيرة! بسبب فوبيا (رُهاب) الأماكن المرتفعة.

حتى ميتاً لم يعد الى تجربة السفر، فدُفن في لندن حيث ووري مبدع آخر هو ناجي العلي.

محمود كحيل نمط وخط في فن الكاريكاتور، أثَّر بالكثيرين من خلال مناخه الخاص في بناء الفكرة وتشكيل الخطوط والألوان.

محمود كحيل تجربة فائقة النضج والاكتمال تستأهل البحث والدراسة، علماً بأن كحيل نفسه يتجنب هذه "الفذلكات" ويفضّل السكون والابتعاد قدر المستطاع عن الضوضاء والأضواء.

من خلال بحث مضنٍ وتنقيب شاقّ استطعنا لملمة ووصل ما يشبه السيرة لهذا الفنان الذي لم يطلّ الى عالم الصحافة إلا في ما ندر.

 

الولادة

وُلد محمود كحيل في طرابلس سنة 1936، وتلقى فيها علومه الى أن انتقل الى بيروت ليتابع فيها دراسته في الجامعة الأميركية. ثم بعد تخرجه علّم مادة الإخراج الصحافي في "معهد الإعلام" في الجامعة اللبنانية، وقبلها عمل رسّاماً في شركة إعلانات.

في منتصف الستينيات عندما كانت مجلة "الأسبوع العربي" تفتح أبوابها للمتدربين على الصحافة وتحديداً من الطلاب العرب الذين كانوا يدرسون في الجامعة الأميركية في بيروت خلال عطلتهم الصيفية، كان محمود كحيل واحداً منهم، لكنه كان يمتلك بوصلة مختلفة، فاختار الالتحاق بالقسم الفني الذي كان يحتاج الى جهوده.

عن تلك المرحلة يقول ياسر هواري رئيس تحرير "الأسبوع العربي" آنذاك: "وصول محمود كحيل جاء لنا عملية إنقاذ خلال فترة الصيف ثم بعد تخرجه من الجامعة، وكان ركيزة ثابتة أرست استقراراً مطمئناً، وطعّم القسم بنكهة فنية جديدة".

في تلك الفترة وقبلها كان لكحيل من المحاولات الكاريكاتورية الكثير من دون أن تأخذ طريقها الى النشر، ثم راحت بعض رسومه بالتسلل الى صفحات "الأسبوع العربي" وإلى غلافها أيضاً.. وكذلك ظهرت أعماله في مجلة "شهرزاد" التي كانت تصدر في محلة الخندق الغميق في بيروت. ثم تنقل بين عدة مؤسسات كـ"الحسناء" و"المونداي مورننغ" و"الديلي ستار" و"الصياد" و"لسان الحال" و"ماغازين" وغيرها..

 

الاحتراف

عن عمل كحيل في "الديلي ستار" يقول رئيس تحريرها في تلك المرحلة جهاد الخازن: "سبقني محمود كحيل الى الدراسة في الجامعة الأميركية وتبعته في الستينيات، ثم تخرج محمود قبلنا فأحزننا غيابه عن حرم الجامعة.. بحثت عنه وقد تذكرت أنه كان يسلي نفسه في الصفوف التي لا تعجبه بالرسم، وسألته ان كان فكر أن يرسم محترفاً، واقترحت أن يجرب نفسه معنا.. وقبل محمود كحيل العرض، ولعله فوجئ بحجم موهبته كما فوجئنا، فقد اكتسب بسرعة شعبية هائلة".

 

فرادة

ثمة فرادة تسجل لمحمود كحيل حينما اختير في الستينيات ليعلق بالكاريكاتور على الأحداث. والفرادة هنا تكمن في الميدان الذي رسم فيه وهو السينما.

لقد اختارت "وكالة الأنباء اللبنانية" كحيل ليرسم أمام عدسة الكاميرا، ثم يُبث الشريط في عدة صالات بيروتية، وقد ساهم هذا في تعزيز نجومية كحيل. علماً بأن الوكالة كانت تقدم قبيل الكاريكاتور أخباراً يشرف فريد سلمان على تحريرها.

كانت بيروت في تلك الحقبة مركز ثقل للمثقفين وأرضاً خصبة للأفكار والأيديولوجيات، وكانت صحافتها محط أنظار الجميع.

في هذه الفترة كان كحيل منصهراً في مقاهي بيروت وأرصفتها ودردشاتها وعالمها الإعلامي، وبقي كذلك حتى بعد اندلاع الحرب في 13/4/1975، لكن المساحة راحت تضيق شيئاً فشيئاً، لدرجة أن توقفت إطلالات كحيل الكاريكاتورية، فبقي مدة بلا عمل، الى أن اتصل به جهاد الخازن وسأله الانضمام الى صحيفة يساهم في تأسيسها في لندن ـ لم يكونوا قد اختاروا اسماً لها ـ فقبل محمود كحيل العرض من دون أن يسأل عن المرتب أو أي تفاصيل أخرى. وكان الانتقال الى لندن سنة 1979 للعمل في "الشرق الأوسط" رسام كاريكاتور ومخرجاً فنياً. ثم كان انضمامه أيضاً الى إصدار آخر عن المؤسسة ذاتها هو مجلة "المجلة".

ربما كانت هذه الرحلة هي الأولى والأخيرة له في "طائرة"، فقد كان كحيل مصاباً بـ"فوبيا" ركوب الطائرات.

في غوف اسكوير ـ فليت استريت في لندن حيث مقر "الشرق الأوسط" و"المجلة" و"سيدتي"، بدأ كحيل رحلة جديدة مع الكاريكاتور، حيث التركيز على المواضيع العربية والعالمية من دون الغوص في الخصوصيات المحلية كالتي كان يتابعها ويرسمها في بيروت.

 

رؤساء التحرير

"لقد نهج محمود كحيل نهجاً في علاقاته برؤساء التحرير.. ودرّبهم على فن التعامل معه، إذ اعتبر منطقته خارج سلطة رئيس التحرير، وكانت هذه كالخط الأحمر غير مقبول تجاوزه مدة ربع قرن".. بهذه الكلمات لخص عثمان العمير رئيس تحرير "الشرق الأوسط" علاقة كحيل برؤساء التحرير، ويضيف: "كنا كرؤساء تحرير نشعر بالضعف تجاه محمود كحيل، لقد لقي دلالاً خاصاً، والحق أنه بشخصيته يفرض عليك تدليله. وكنت أرى ـ وأنا صادق ـ أنه بالإمكان استبدال رئيس تحرير بآخر، لكنك لن تجد عوضاً لمحمود كحيل".

 

دروع

في مرسمه في الدور الأول من مبنى الجريدة حيث طاولة المكتب البنية الميّالة الى الحمرة، كان يجلس محمود كحيل يومياً بين أكوام من الأوراق والمجلات والصور الفوتوغرافية مع ألوان مائية هنا وصينية هناك وأقلام من كل الأنواع والأحجام والأرقام..

كان كحيل يتعامل مع هذا "المحيط" كدروع له تحميه من احتمال مرعب يراود كل رسّام كاريكاتور أو مفكر أو شاعر، ألا وهو عدم مجيء الفكرة المتوهجة، فكان يستعمل الأوراق والألوان والأقلام كتعاويذ يستدعي من خلالها جِنِّيَّ الإبداع ليلهمه فكرة تكون خلاصه، ليبدأ في رحلة البلورة أو المخاض.. وكان يكسرها أحياناً بجولة بسيطة بين الأروقة ليشرب كأس ماء أو يأخذ كيساً صغيراً من رقائق البطاطا، ثم يبدأ الرسم الذي تتخلله عدة زيارات الى آلة "الفوتوكوبي"، حيث يقوم بعملية المونتاج التي برع وعُرف فيها كحيل، فيقصّ وجه هذا ليضعه على جسم ذاك.. ثم يرسم خلفية المشهد مع دراسة نظرية للتوازن في توزيع العناصر، ليولد الرسم بعد فترة من الجدية. وهذه عملية قلما يتبعها أو يحترمها رسامو الكاريكاتور، فكحيل معروف بإعطاء كل حلقة من سلسلة الكاريكاتور حقها من متابعة الأخبار بدقة الى جوجلتها الى بلوغ الفكرة ثم الدقة الشديدة في التنفيذ.

 

حياء

عُرف كحيل بأناقته في اللباس، لكنه لم يهتم بارتداء البزة الرسمية وربطة العنق إلا نادراً. وهو بزيّه أو حركته أو تصرفاته لم يكن يشبه الشخصية النمطية المعروفة لرسّام الكاريكاتور أو لأي فنان أو مبدع عموماً، فلا ملامحه "هيبية" ولا عقليته حادّة فوضوية، ولا حياته بوهيمية.. ولم يُعرف كحيل بالمزاجية أو الغرور، بل على العكس يجمع أصدقاؤه ومعارفه على لطافته وهدوئه ودماثته ونبله وحكمته، وهي صفات امتلكها كحيل حقاً وليست كما يلاحظ الجميع بأنها تلصق بالراحلين على قاعدة "اذكروا محاسن موتاكم".

عُرف محمود كحيل بخجله وابتعاده عن الأضواء وتجنبه الأحاديث الصحافية، وكان يعتبر أن رسومه كفيلة بالتعريف عنه، وهي وحدها الوسيط بينه وبين الناس.

عندما أقامت له "الشركة السعودية للأبحاث والتسويق" التي رسم لأكثر مطبوعاتها حفلاً تكريمياً، وكان ذلك بعد إصرار طويل، وقف محمود كحيل بين المحتفين به وكأنه الغريب بينهم.. كان يبدو كمن يفضل الاختفاء خلف الجدران أو خلف اللوحات. وقبلها في أواسط السبعينيات حينما عُقدت ندوة في مجلة "الحوادث" التي كان يترأس تحريرها الصحافي سليم اللوزي حول فن الكاريكاتور في لبنان بمشاركة كحيل وزملائه في هذا الفن: بيار صادق، جان مشعلاني، ملحم عماد، ستافرو جبرا.. في هذه الندوة سعى كحيل الى أن يتكلم أحد غيره عن تجربته، فهو لم يكن يرغب في أن يتحدث عن نفسه! وقبل أسابيع من رحيله قال رئيس مجلس الإدارة: "إننا نحتاج الى أن نعرف القراء بمحمود كحيل في جانبه الإنساني والإبداعي"، ثم أسند الأمر الى مجلة "الرجل" لكونها تحمل أبواباً متخصصة في تقديم الشخصيات المتميزة.

ثم كان الاتفاق على حوار من عدة جلسات، وقبل الموعد المحدد بساعات اعتذر كحيل.. ثم كان موعد آخر وأجّله كحيل.. ثم أفصح كحيل أن سبب التأجيل يعود الى عدم استعداده بسبب عملية حساسة سيجريها في القلب، وأنه لم يكن مستعداً للحوار.

 

آخر اللحظات

قبل أيام من العملية الجراحية دخل كحيل الى مكتبه وراح يقلب بعض رسوماته القديمة لاختيار بعض الكاريكاتورات لتُنشر أثناء غيابه، ثم قال له رئيس التحرير: "لا تجهد نفسك، هناك من يقوم عنك بهذا العمل".. فابتسم كحيل وقال: "لا أستطيع أن أترك هذا للاجتهاد".

ليلة إجراء العملية الجراحية ـ لتغيير عدّة القلب على حدّ تعبيره ـ كان آخر اتصال من بعض زملائه، وقد وافقت الممرضة على هذا الاتصال بعد إلحاح كبير، وقد كان كعادته ضحوكاً منشرح النفس، وراح يسأل عن أزمة العراق وخطاب باول وموقف شيراك وبوتين، ثم راح يحدثهما عن فكرة لكاريكاتور جديد!.. وأثناء العملية لم يستطع قلب محمود كحيل الصمود، فرحل في مساء 11/2/2003 عن عمر يناهز ستة وستين عاماً.

وفي 13/2/2003 كان وداعه الى مثواه الأخير بعد أن صُلي على جثمانه في مسجد ريجنت بارك في لندن. وبعدها نُقل الجثمان الى المقبرة الإسلامية في مدفن بروكوود في محافظة ساري الى الجنوب من لندن، حيث ووري الثرى.

بعد ناجي العلي ها هي بريطانيا تحتضن فناناً آخر اختزن في داخله حرارة قضايا الشرق، ليقطرها في سنوات لندن الباردة.

 

متاهة جديدة

محمود كحيل ليس آخر الفرسان، بل أشجعهم وأكثرهم وضوحاً ودقة وتصويباً.

برحيله يدخل الكاريكاتور العربي في متاهة جديدة بعد متاهات عدة خلَّفها رحيل صلاح جاهين وصلاح الليثي وناجي العلي وحسن حاكم وبهجت عثمان ونبيل السلمي وآخرين كثر حملوا لواء فن الكاريكاتور كل على طريقته لتمرير رسائل بالحبر السري الى كل الجهات بانتظار الرد..

عبد الحليم حمود