ارشيف من :عيد المقاومة والتحرير

عن 25 أيار فنياً: هل ’حكينا’ الانتصار كما يكفي؟

عن 25 أيار فنياً: هل ’حكينا’ الانتصار كما يكفي؟
تعرف الشعوب بفنونها قبل أي شيء، فالفنون تعيش أكثر من حضارةٍ بأكملها، حتى إن أي حدثٍ تاريخي لا يخلّد بعملٍ فني يفقد حتى مقتضاه التاريخي وقيمته. مثلاً لا ينسى الناس أبداً سيف الدولة الحمداني ولا معاركه الشهيرة مع الرومان لا لأن الرجل كان "مقاتلاً" صنديداً أو أنّ معاركه كانت الأهمّ بل لأن شاعراً كبيراً بحجم المتنبي أرّخ لتلك المرحلة وأعطاها "خلوداً" فنياً من نوعٍ ما. إذاً، باختصار، إنَّ أي حدثٍ تاريخي "جلل" لا بد من أن يحظى برسمٍ فني/تاريخي متناسب مع قيمته الحقيقية والفعلية. ولأن الموضوع الذي بين أيدينا "حدثٌ جلل" فإنه كان من المطلوب فتح "باب" المساءلة فيه: في العام 2000 حدث تحرير الجنوب اللبناني بعد سنين طوال من الاحتلال الصهيوني ووجود جيشٍ عميل (جيش العميل أنطوان لحد). كلّف ذلك التحرير دماءاً غزيرة، شهداء أعزاء، أحبة كثيرين، وفوق كل هذا ملايين من الدولارات صرفت على التدريب والعتاد والأسلحة، فضلاً عن دمارٍ هائلٍ وتخريبٍ حدث خلال سنين طوال. إذاً، باختصار، فإنَّ هذا التحرير كان واحداً من أهم الأحداث التي مرت في تاريخ لبنان، وما حوله من الدول العربية، خلال سنواتٍ خلت؛ ولربما  يمكننا القول إنه كان "أيقونةً" مضيئة في  عالمٍ عربي مضطرب  وحالك للغاية.

وإذا كان الحديث بهذا الوضوح، يكون السؤال أيضاً بنفس الوضوح تقريباً: هل قدّم المجتمع اللبناني/العربي حتى اللحظة ما يساوي تخليد ذكرى هذا الحدث؟ هل استطعنا حتى اللحظة –جميعنا- أن نجعل ذكرى ذلك التحرير مخلدةً في عقول من عرفها ومن لم يعرفها؟ لكن في البداية دعونا نلغِ سؤالاً مهماً كي نستطيع التقدّم للأمام. والسؤال الخلبي هذا هو: هل سنترك للأجيال القادمة قصيدةً في وصف ما حدث كقصائد المتنبي في سيف الدولة (أي قصائد تعيش آلاف السنين في وصف ما حدث، أو أي عمل فني من هذا القبيل)؟ هل تركنا/سنترك عملاً فنياً من طراز "لوحة غورنيكا" لبيكاسو والتي تخلّد ما حدث في المدينة المنكوبة؟  بالتأكيد سنترك هذا السؤال المنهك نفسياً ومعنوياً، ونعود إلى منطق مجتمعنا أكثر (وإن كان لا بد من الإشارة إلى أن معلم "مليتا" السياحي –لربما- هو أهم عمل "تخليدي" للمقاومة حتى اللحظة عربياً).

نجحت المقاومة في لبنان في تحقيق انتصارها "العظيم" على العدو الصهيوني في وقتٍ كان لا يتوقعه أحد، حتى أن هذه المقاومة نفسها كان ينظر إليها كثيرون على أنّها لن تحقق ذلك أبد الدهر، فالجيش الذي لا يقهر كسرته إرادة المقاومين الأبطال. لكن ما يجب الوقوف عنده وطرق السؤال حوله: لماذا لم تحصل تلك المقاومة على "الدفع" الكافي لتخليد ما فعلته؟ هل كان ما فعلته "قليلاً" حتى لا يتأثر به أحد، أو أن البيئة غير منتجةٍ للأدب والثقافة حتى لا نستطيع إنتاج أعمالٍ ذات قيمة أدبية زمانية ومكانية لا نهائية؟

عن 25 أيار فنياً: هل ’حكينا’ الانتصار كما يكفي؟
هل تم تخليد ذكرى التحرير فنيا ؟

في هذا الإطار، يحضر للبعض أن يستذكر بعض الأعمال التي تم "تأريخ" هذا النصر المدوي عبرها كبعض الأعمال التلفزيونية التي أنتجتها بيئات/مؤسسات قريبة من المقاومة كمسلسل "الغالبون" مثلاً (بجزأيه). لا شك في أنَّ العمل كان ناجحاً شعبياً إلى حدٍ ما، لكن ماذا عن القيمة الفنية الفعلية للعمل؟ بالتأكيد لا يمكن "تمحيص" العمل ودراسته بشكلٍ كامل في هذا المقال، لكن ما يمكن أن يقال عنه إن فيه كثيراً من الأخطاء التاريخية/الأدائية/العملية تجعله عملاً جيداً، جميلاً، شعبياً بامتياز وإن فاتته تماماً فكرة "البقاء" في عقول المشاهدين، أي باختصار: لا يمكن عرضه (وإعادة عرضه) عند كل "زاوية" حدث لخلق التأثير المنشود. وكي لا يبقى الحديث مفتوحاً إلى حدٍ كبير، يمكن العودة إلى كتب المرحلة السوفياتية وخصوصاً في مرحلة الانتصار على "النازية" خصوصاً في مراحل "ستالينغراد" وحصار المدينة الشهيرة لفهم ما أعنيه. كتب السوفيات في تلك المراحل أعظم ما لديهم، وظلت تلك الروايات والقصص (كرواية حين سقينا الفولاذ لنيكولاي أوسترفسكي مثلاً والتي ترجمت لأكثر من 52 لغة، وصنع منها أكثر من 60 نسخة فيلم ومسلسل محلياً وعالمياً) لا نوعاً من التأريخ فحسب، بل كمنارة إرشاد (Beacon) لكل من يرغب في الحديث/التعرّف إلى الصمود/الصلابة السوفياتية في القتال. ولايزال الكتاب حتى اللحظة يحظى بالقيمة ذاتها لدى المؤرخين والمؤرشفين وبالتأكيد المحبين لتلك المرحلة من التاريخ حتى ولو اندثرت الشيوعية من تلك البقعة الجغرافية.  في حالتنا نحنُ ليس من المنطق أنه لا توجد حتى اللحظة "روايةٌ" واحدةٌ ذات قيمة فنية وأدبية مرتفعة للغاية تجسّد تلك المرحلة "الثقافية/الاجتماعية/الثورية" بشكلٍ "حقيقي" ومهم.

الحلول
يعرف الجميع أنَّ العمل الفني هو جزءٌ من منظومة المعركة القادمة في العالم، وإن كان أصلاً جزءاً من المعركة منذ زمن بعيد، لكنّ توسع العالم فجأة، وتحوله إلى قرية صغيرة، وتطور وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ كبير، أضف إلى ذلك قدرة الناس على الولوج إلى عالم الميديا أكثر، ومتابعتهم ما يحدث، يجعل أهمية العمل الفني تقفز من المركز 20 إلى المركز الثالث أو الرابع في  أي معركة مرتقبة. فأن تقدّم أبطالك وأحباءك بشكلهم الحقيقي والطبيعي هو "المطلوب" وأكثر من ذلك، أن تقدّم رموزك بشكلٍ يتناسب مع "حجمهم" وقيمتهم الحقيقية لديك هو ليس المطلوب، بل المفرو ض!
السؤال هنا ماذا تستطيعه المقاومة أو الجهات القريبة منها أن تفعل؟ بعيداً عن الكلام الخلبي، واقتراباً من التطبيق الفعلي على الأرض: من المفروض بدايةً أن تجري دراسة "حقيقية" لأهم عشر أو 20 كاتب عربي موجود في الوطن العربي أو الغرب حالياً، يمكن التواصل معهم بسهولة في عالمٍ صغير للغاية هذه الأيام. المثال الآخر أو الاقتراح الآخر: ماذا عن "مسابقةٍ" كبرى عربية/عالمية "للهواة" للكتابة عن المقاومة.
باختصار شديد، تستحق الدماء الزكية التي أريقت على مذبح هذا الانتصار الكبير والعظيم أن تخلّد وتبقى في الذاكرة للأبد من خلال أعمالٍ فنية تحاكي وتناسب ما حدث، كي لا ينسى أحدٌ أننا ما كنا لنكون هنا لولا عظيم فعلهم، وكي تبقى الذكرى حاضرة، لا كخيالٍ فحسب، بل كعملٍ متجسدٍ على الأرض.
2015-05-23