ارشيف من :ترجمات ودراسات

الأكراد... ونكسات الاستقلال المتلاحقة

الأكراد... ونكسات الاستقلال المتلاحقة

تداعيات الاستفتاء الكردي الذي جرى مؤخراً لم يبق في الإطار السياسي الدبلوماسي ولا في إطار إجراءات الحصار والتضييق على الإقليم الكردي. فقد تدحرجت الأزمة على الأرض وتجمعت غيومھا فوق سماء كركوك التي تختزن كل عناصر الانفجار.
ھذه المدينة المتنوعة في تركيبتھا الديمغرافية العرقية، والغنية جدا بالنفط، أصبحت مؤخراً مركزاً للصراع المحتدم بين أربيل التي تتمسك بـ"كركوك" وتعتبرھا "قدس كردستان"، وبغداد التي تريد كسر مشروع الانفصال الكردي انطلاقا من استعادة السيطرة على المناطق المتنازع عليھا وأھمھا كركوك، ھذه المناطق التي وضع الأكراد يدھم عليھا في فترة الحرب ضد "داعش" مشترطين البقاء في المناطق التي يحررونھا من "داعش".

الأكراد... ونكسات الاستقلال المتلاحقة
البارزاني يدفع الآن ثمن أخطائه


باختصار يقف الوضع في كركوك على أھبة الانفجار، ومن الممكن أن يتحول الى شرارة حرب جديدة في العراق. فإذا كانت مرحلة السنوات الثلاث الماضية مرحلة "داعش"، فإن مرحلة السنوات الثلاث الآتية ربما ستكون مرحلة كردستان، فمدينة كركوك ستشكل مركزاً للصراع بين بغداد والإقليم الكردي بعد إجراء الاستفتاء وإعلان خيار الاستقلال.
وفي هذا الوضع تتجه الأنظار الى موقف طھران التي تحض بغداد على التشدد في موقفھا وشروطھا التي تطالب بالسيطرة على المطارات والمنافذ الحدودية في كردستان، وعلى الحقول النفطية، وبعودة الجيش العراقي الى كل المناطق التي كان يتمركز فيھا قبل سيطرة "داعش" عليھا. كما تطالب بتسليم كل مسلحي "داعش" المعتقلين لدى البيشمركة وبإقالة محافظ كركوك من منصبه. فالاستراتيجية الإيرانية في العراق ھي "مؤثر استراتيجي"، لأنھا مرتكزة الى وجود سياسي وعسكري وأمني مباشر على الأرض. وھذه الاستراتيجية أزاحت من دربھا "المعارضة السنيّة" ليبرز في وجھھا كتحدٍ مباشر لمشروع الانفصال الكردي. وما زاد في خشية إيران من "الحالة الكردية" أنھا لاحظت وجود اتفاق كردي داخلي في مواجھتھا. فقد كانت تعتقد بأن نفوذھا وعلاقتھا مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني أمر استراتيجي، لكن "حزب طالباني" يخضع حساباته أولا للأمن القومي الكردي حسب تعبيره، وإجراء الإستفتاء يقع ضمن ھذه الاستراتيجية.
من جھة أخرى، فإن إيران تخشى من أن الصراع العسكري فيما لو بدأ، فإنه قد يستجر تدخلا دوليا، ويؤدي الى "تدويل الأزمة" بدفع من الأميركيين الذين يمكن أن يفرضوا وقفا لإطلاق النار على الطرفين، والتفاوض على الأمر الواقع الراھن. ما يعني مباشرة بأن إقليم كردستان المسيطر حالياً على مساحة واسعة من المناطق المتنازع عليھا، والساعي للاستقلال عن العراق، فإنه سيغدو أمرا واقعا، ووقتھا سيكون على إيران أن تتعامل مع ھذا الواقع الجديد على حدودھا.
لكن، حكومة العبادي نجحت مؤخراً، وبدعم من إيران وفي ظل حياد أميركي، في تفكيك لغم كركوك الذي كان مرشحا للانفجار ونقل أزمة الاستفتاء الى الأرض والحرب. فقد سيطرت القوات العراقية على كركوك مقابل انسحاب قوات البيشمركة، وحصل ذلك من دون قتال ومقاومة وبناء على ترتيبات أعدھا قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني مع حزب طالباني، أي الجناح المنافس لـ"البارزاني" ومن وراء ظھر الأخير.
ما حصل بالتأكيد شكل الانتكاسة الفعلية الأولى لمشروع البارزاني في الانفصال والاستقلال، وأدى الى تقويض نتائج الاستفتاء على الأرض مع فصل كركوك عن الإقليم الكردي وإلحاقھا مجددا بسلطة بغداد، ما يعني عمليا أنھا لم تعد ضمن المناطق المتنازع عليھا بين أربيل وبغداد التي أوجدت حلا "عسكريا لھا".
فضلاً عن أن ھذا التطور يؤدي إلى إضعاف موقع البارزاني ويدفعه إما الى مراجعة حساباته، وإما الى إعداد طريقة للرد في ظل وضع يضيق عليه ويخنقه سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وسيؤدي الى زعزعة القاعدة الشعبية لبارزاني والثقة بقدراته لتنفيذ الاستفتاء، والى حصول انقسامات كردية داخلية وتبادل اتھامات بالخيانة في تسليم كركوك أو بارتكاب خطأ جسيم في إجراء استفتاء وخيم العواقب.
في أول تعليق لسياسي إيراني على ما حصل في كركوك، قال ولايتي "مثلما علمنا جميعاً، ھزيمة الكرد في كركوك قصمت ظھر مؤامرة بارزاني ضد أمن المنطقة". واتھم ولايتي رئيس إقليم كردستان بإبرام اتفاق "سري" مع "إسرائيل" لـ"مصادرة حقول النفط  في كركوك لصالح تل أبيب".
اللواء المتقاعد في وزارة البيشمركة والخبير العسكري، صلاح فيلي يؤكد أن المعركة التي شھدتھا كركوك مؤخراً بين الكرد والحشد الشعبي كانت تفتقد للتوازن، وأضاف: "حالياً ليس ھناك وجود للقوات الكردية داخل كركوك، لكن تتمركز في المناطق الغربية والشمالية لكركوك".

الأكراد... ونكسات الاستقلال المتلاحقة
عبّر الكرد عن خيبة أملھم بعد ثلاثة أسابيع على احتفالھم بتنظيم استفتاء على الانفصال عن العراق


يسود شعور بالخسارة والانكسار لدى الكرد، وتحت وطأة ھذا الشعور بدأت الانتقادات تكال لـ"مسعود البارزاني"، بأنه ارتكب خطأ جسيما وقراره بإجراء الاستفتاء كان كارثيا ولم يفكر في العواقب، معرّضا المكاسب التي حققھا الكرد في السنوات الماضية الى خطر الضياع. فالكرد في شمال العراق وقعوا تحت الصدمة نتيجة الضربة المبكرة والموجعة التي تلقاھا مشروعھم الانفصالي مع خسارتھم لـ"كركوك" واضطرارھم الى الانسحاب من كل المناطق المتنازع عليھا والعودة الى خط ما قبل العام 2014 الذي تجاوزته قوات البيشمركة لملء الفراغ الذي حدث بفعل انھيار الجيش العراقي أمام تقدم "داعش".
 
وعبّر الكرد عن خيبة أملھم بعد ثلاثة أسابيع على احتفالھم بتنظيم استفتاء على الانفصال عن العراق، وقالوا إن "قادتنا جعلونا نحلم بدولة كردية وتخلوا عنا، وأن الدول الإقليمية تضطھد الكرد دائما كيلا يحققوا طموحھم في الاستقلال". وھناك من يضيف ويعبّر عن سخطه على الأميركيين بالقول:"قبل أيام كانوا حلفاء لأنھم كانوا يحتاجون إلينا ليقفوا في وجه زحف "داعش"، لكنھم اليوم أداروا ظھرھم لنا".
البارزاني راھن بالتأكيد على علاقاته التاريخية مع الأميركيين المنتشرين في قاعدة قرب كركوك، والذين قد لا يسمحون بشن حرب على الإقليم بعد مساھمته الكبيرة في التصدي لـ"تداعش". ولكن تبين لاحقاً أنھم لم يحركوا ساكناً وھم يشاھدون تقدم الجيش و"الحشد" نحو المدينة ومناطق أخرى. التزم الرئيس دونالد ترامب كلامه. التزم الحياد في الصراع. يقول السفير الأميركي السابق روبرت فورد الذي عمل في سوريا والعراق:"لقد جازف مسعود البارزاني عندما أصر على الاستفتاء من غير أن يتوقع طبيعة ومدى الضغوط والتھديدات التي سيتعرض لھا من إيران وتركيا والحكومة العراقية. إن أوراق البارزاني ضعيفة، ولم يلعبھا بالحكمة المتوقعة منه".
البارزاني يدفع الآن ثمن أخطائه، أخطاء التقدير والحساب، فقد اعتقد أنه يستطيع اللعب على التناقضات وسط الفوضى التي تضرب الشرق الأوسط ويقظة العصبيات القومية والطائفية، والمستعمرين القدماء والجدد الجاھزين لإعادة رسم الخرائط بالحديد والنار. واعتقد أن أصدقاءه الدوليين، خصوصاً الأميركيين والفرنسيين، سيھبون للدفاع عنه ويدوّلون قضيته ويدافعون عنه، وأنه يستطيع تحييد أردوغان الذي لديه مصالح اقتصادية كبيرة في كردستان، وأن إيران المعزولة في محيطھا لن تستطيع نجدة العبادي. واعتقد أن الغلبة التي حققھا بالقوة في الإقليم وتحجيم معارضيه، فضلاً عن ضعف بغداد، تتيح له الانفصال وإعلان دولته ووضْع الجميع أمام الأمر الواقع. لكن تبين أنه كان متوھماً، وأن قراءته للأحداث كانت خطأ. أصدقاؤه تخلوا عنه، عدا" إسرائيل".
مراقبون يرون أن إيران ھي المستفيدة الأولى، وخرجت رابحة من ھذه الجولة، وأن مشروع تقسيم العراق الى دويلات ضربت إحدى أھم ركائزه وصارت الفدرالية سقفا أعلى لنظام العراق ومستقبله، كما أن سوريا معنية بھذا التطور، فمع تقويض المشروع الانفصالي في العراق تتراجع فرص واحتمالات قيام مشروع مماثل في سوريا.
الكرد عموماً أصيبوا بنكسة كبيرة لن يطويھا النسيان، وبمرارة عميقة مما ألحقتها بھم إيران. "حلم الاستقلال" سيظل يراودھم، فھذه لم تكن التجربة الأولى ولن تكون الأخيرة. سيحملون مرارات وضغائن حيال زعمائھم وحيال القوى الإقليمية والدولية التي شعروا بأنھا لم ترحمھم أو تقيھم ھذه الھزيمة المذلة.  لن يوفروا أحداً من المسؤولية عما آل إليه الوضع. فأحداث كردستان أثبتت أن الوقت لم يحن لتغيير الخريطة الإقليمية التي رسمتھا "اتفاقية سايكس  بيكو"، وأن ثمة إجماع للدول الكبرى والدول الإقليمية الفاعلة على التمسك بالحدود القائمة. وأن أقصى ما تطمح إليه المكوّنات المتصارعة في أكثر من بلد عربي ھو القبول بتغيير حدود داخلية في إطار فيديرالية أو مركزية موسعة أو صيغة اتحادية، وممنوع التغيير في حدود الدول وفي خريطة المنطقة.

2017-11-07