ارشيف من :ترجمات ودراسات

يوميات زائر في الأربعين


يوميات زائر في الأربعين

   كانت عقارب الساعة تشير الى الخامسة وثلاثين دقائق صباحا، حينما خرج احمد ذي العشرين ربيعا من منزله في منطقة بغداد الجديدة شرق العاصمة العراقية بغداد، حاملا راية حمراء كتب عليها بخط واضح وكبير "ياحسين"، متوجها الى كربلاء المقدسة سيرا على الاقدام.

   لم يأبه احمد لزخات المطر التي كانت غزيرة في باديء الامر، فما كان يشغل باله، هو ان يصل الى كربلاء المقدسة، حيث ضريح الامام الحسين واخيه العباس عليهما السلام، فقد كانت تلك هي المرة الاولى التي يقرر فيها التوجه سيرا الى كربلاء.

    وعلى امتداد ثلاثة ايام، قطع احمد اكثر من مئة كيلو مترا حتى وصل الى كربلاء، تخللتها ساعات نوم في الليل، واوقات قصيرة لاداء الصلاة وتناول الغذاء والاستراحة في مواكب الخدمة المنتشرة على طول الطريق.

رغم وصوله منهك الجسد، بيد انه كان قد اكتسب طاقة معنوية وروحية هائلة، جعلته يذرف دموعا غزيرة وهو يجلس متأملا في مرقد الامام الحسين عليه السلام، ومستمعا لاحد الرواديد الحسينيين، وهو يقرأ قصيدة حزينة باللهجة الشعبية، بينما عشرات الزوار يلطمون على صدروهم، ويبكون بأصوات عالية.

   لم يكن احمد، الطالب في المرحلة الثانية في قسم ادارة الاعمال بكلية الادارة والاقتصاد، يحمل في ذهنه حاجات معينة يريد من الله سبحانه وتعالى قضائها له ببركة الامام الحسين عليه السلام، الا انه في ذات الوقت كان طيلة مسيره الطويل يتمتم بأدعية وابتهالات، يتوسل ويتضرع فيها الى الباري وعز وجل ان ينصر الاسلام والمسلمين، وان يحفظ بلده وان يوفق والديه وارحامه واصدقائه ومعارفه، وهو على يقين كامل بأن ذهابه الى الحسين عليه السلام وتوسله به كفيل بأستجابة دعواته وابتهالاته.

   في مذكراته اليومية التي دونها عن مسيرته الراجلة نحو كربلاء الحسين، توقف احمد عند مشاهد ملفتة ومعبرة له، ليس لانه يخوض تلك التجربة للمرة الاولى، بل لان تلك المشاهد تحمل من المعاني والدلالات ما يجعل المرء يقف عندها طويلا ويتعمق في جوهرها، لانه ربما لايجد لها مثيلا او شبيها في اي ظروف ومواقف اخرى.

    يقول احمد في مذكراته "عجيب امر ذلك الرجل الذي فقد كلتي يديه وهو يسير بأندفاع وحماس، وكأنه موعود بمكافأة ثمينة، وهو كذلك بالفعل، فزيارة الحسين هي افضل واعظم مكافأة".

   وبالفعل فأن من يسير الى كربلاء ، من اي نقطة ينطلق، لابد ان يشاهد العشرات من المعاقين جسديا، مثل ذلك الرجل الذي رأه احمد، وانبهر بحماسه ومعنوياته واندفاعه وولائه الحسيني.

   وفي موضع اخر يكتب احمد "شعرت بالذنب، لانني في الاعوام السابقة لم اوفق للسير نحو كربلاء في اربعينية الامام الحسين عليه السلام، بينما الشيوخ والعجائز الطاعنين في السن يسيرون اضعاف المسافة التي قطعتها، ومعهم الاطفال الصغار والفتيات اليافعات، يسيرون وكأنهم شبانا في مقتبل العمر بكامل طاقتهم وحيويتهم.. بصراحة لايمكنني التفكير بالتخلف عن المشاركة في السير الى الامام الحسين في العام المقبل والاعوام اللاحقة، ولن يمنعني من ذلك الا الموت".

   ويبدو ان الاعداد الهائلة لمواكب الخدمة الحسينية الممتدة على طول الطرقات الرئيسية والفرعية بأتجاه كربلاء، التي تعرض وتقدم كل انواع الطعام والشراب، ومختلف وسائل الراحة للزائرين على مدار الاربعة وعشرين ساعة، ادهشت احمد، رغم انه شاهد الكثير منها عبر شاشات التلفاز، وقد كتب في يومياته عن ذلك "احترت اين اجلس ومن اين اكل، وماذا اكل، والكل يلحّ ويتوسل، وبدلا من ان يتدافع الزوار بأعدادهم الغفيرة على الطعام، فأنهم يجدونه مهيأ لهم اينما التفتوا، وعدد المواكب لايعد ويحصى، وكميات الطعام لايمكن تصورها، وكل ما يخطر على بال المرء لابد ان يجده في هذا الموكب او ذاك، ومواكب الخدمة لاتقتصر على الطعام والشراب، وانما هناك مواكب خدمة طبية، وهناك مواكب خدمة ارشادية، وحتى ان هناك مواكب خدمة لاصلاح الاحذية والملابس".  

   ويشير احمد بالقول "الشيء الاخر العجيب، ان تلك الملايين التي تسير جنبا الى جنبا في مختلف الظروف، لاتتشاجر ولاتتعارك ولاتتجادل فيما بينها، على العكس تماما من الحياة العادية اليومية التي تعج بالكثير من الخلافات والمشاكل والصراعات.. نكران الذات والايثار، هي سمات  مسيرة الاربعين، فكل واحد من الزائرين يؤثر على نفسه الطعام والمكان وغير ذلك للزائر الاخر عن طيب خاطر، وفي نفس الوقت تغيب وتختفي الوجاهات والشأنيات والعناوين السياسية والاجتماعية والدينية، فقد لاحظت رجال دين كبار، وضباط برتب عالية، ومسؤولين وسياسيين مهمين، ووجهاء عشائر، يخدمون زوار الامام الحسين بكل بساطة واريحية وتواضع".

   وما لفت انتباه احمد ودوّنه في مذكراته اليومية هو "ان الزائرين كانوا من جنسيات مختلفة، ويتكلمون لغات شتى، فمنهم الاتراك، ومنهم الايرانيين، ومنهم الخليجيين، والاروبيين والاسيويين والافارقة، وقد استعنت بمعرفتي البسيطة باللغتين الانكليزية والفارسية لاتبادل الاحاديث مع بعض الزائرين الاجانب".

   وفي كل عام تنشر الجهات الرسمية ارقاما عن اعداد الزائرين، واعداد المواكب، واعداد العناصر الامنية التي تتولى مهمة حماية الزائرين، واعداد الزائرين الاجانب، وما الى ذلك، ويفترض احمد "ان الواقع اكبر مما يذكر من ارقام واحصائيات، فلايمكن لجهة مهما امتلكت من امكانيات فنية وتقنية وادارية ان تحصي الزائرين، ولا تحدد اعداد المواكب.. كيف يمكن ان يحصل ذلك وفي كل شبر وفي كل زاوية وفي كل زقاق، في الريف والمدينة، نجد مواكب منصوبة، وموائد عامرة، واناس يسيرون".

   والشيء الجميل هو ان أحمد يختم مذكراته اليومية المقتضبة بعبارات جميلة ومعبرة هي، "لايمكن لاي كان أن يشعر ويستشعر بعمق واهمية زيارة ومسيرة الاربعين  من دون ان يشارك فيها ويرى بأم عينيه ما لايبهر الابصار ويحير العقول، وحتى الذين يستهزأون ويسخرون وينتقدون، لو جاءوا وشاهدوا عن كثب لكان لهم كلام اخر".

 

 

2017-11-09