ارشيف من :ترجمات ودراسات

الوقف الأرثوذكسي في فلسطين: حكاية تستعيد تاريخ التواطؤ والخيانة

الوقف الأرثوذكسي في فلسطين: حكاية تستعيد تاريخ التواطؤ والخيانة

" إن لم تستطع ان تحمل عن الناس متاعابهم ، فعلى الأقل لا تكن سبباً في اتعابهم " ـ  البابا شنودة الثالث

 " إنهم يسربون أوقاف الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين إلى الصهاينة "!! .
عبارة تتكرر كل مرة وعند انكشاف أية عملية بيع أو تأجير لتلك الأوقاف للصهاينة ، يقوم بها احد البطاركة اليونانين وهم القيمون عليها . لكن هذا من الأسباب، وتظل العبرة في "تسريب"! الكنيسة المقدسية بامها وابيها لرجال دين من اليونانين ! . جاء هذا قبل قرون على يد السلطنة العثمانية!، وثبته (أولي الأمر!) من العرب ممن أتى فيما بعد بالسكوت او بالأحرى بالتواطؤ !!.
   
لمحـة تاريخية

لقد كانت هذه الكنيسة في فلسطين مشرقيةً على مدى التاريخ، وعليه شهدت بطاركة بين سريان وعرب تناوبوا عليها. منهم على سبيل المثال البطريرك إيليا النجدي الذي رأس الكرسي البطريركي عام 494م والبطريرك صفرونيوس الدمشقي الذي رأس الكرسي البطريركي عام 634م وهو الذي استقبل الخليفة عمر بن الخطاب، والبطريرك يوحنا الذي رأس الكرسي البطريركي عام 705م ، وقد منع الصلاة في الكنائس بغير اللغة العربية.
هذا بالإضافة إلى كل من البطريرك إيليا الثاني عام 750م والبطريرك الطبيب توما عام 786م . وهكذا حتى عام 1516 الذي فيه رُسِم البطريرك عطالله وهو عربي وأخر المشرقين الذين تناوبوا على هذه الكنيسة.  
بعد وقوع فلسطين بيد العثمانين تعمد هؤلاء وضع الكنيسة المقدسية تحت وصاية الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية من باب تعزيز مكانة هذه الأخيرة تزلفاً لها نظراً لنفوذها في اليونان الذي بات أحد الولايات العثمانية ،لاسيما وأن أهله قد استعظموا ان يكون حاكمهم "خليفة المسلمين!"، بحسب التسمية التي اطلقها أولئك السلاطين الترك على انفسهم ! .غير أن هذه الرشوة نجم عنها ظلم تاريخي يخالف ما هو معمول به في الكنائس الأرثوذكسية الأساسية : موسكو، اليونان، انطاكية وسائر المشرق، والقبطية في مصر ، حيث رعايتها كلها تقع على عاتق رجالات من نسيج اتباعها وبيئتها ، وهم في فلسطين والأردن عرب اقحاح بنسبة 99% تعود انسابهم إلى الغساسنة والمناذرة والتغالبة .
كان عام 1534 أخر عهد البطاركة العرب في البطريركية الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين حيث جاء البطريرك جرمانوس اليوناني خلفا لعطالله - لكرسي القدس وظل عليها لحوالي 45 عاماً، وفي عهده حصل الأنقلاب الكبير عبر جملة قوانين حصرت الرئاسة الروحية بالعنصر اليوناني، فيما كان يحل اسقف يوناني بدلاَ عن كل أسقف عربي يتوفى مما حولها إلى كنيسة يونانية بالتمام!. بعد تقدم جرمانوس بالعمر، قام برسم البطريرك اليوناني الشاب صفرونيوس عام 1579 خليفة له والذي حاول الرجالات العرب الأرثوذكس الحيلولة دون تنصيبه وباءت محاولاتهم بالفشل . خلف الأخير بطريركاً يونانياً آخر هو ثيوفانس عام 1608م، وعاد الكهنة وأبناء الرعية العرب للأحتجاج ولكن السلطان العثماني إبراهيم دعم البطريرك الجديد فسجن بعض المحتجين ونفى آخرين. وقد وضع ثيوفانس هذا قانوناً ظالماً استمراراً لنهج جرمانوس وصفرونيوس لا يسمح لأي من أبناء الكنيسة المقدسية الأرثوذكسية الوطنية بالوصول إلى أية درجة من الدرجات الأكليروسية أو الرهبانية ! . وقد بات هذا حالة نمطية، حاول الارثوذكس العرب كسرها خلال الحقبة العثمانية ثم الانتداب البريطاني دون جدوى تذكر، وكل ما استجد كان في إطار الشكليات التي لم تلغ الجوهر، وهو ان الكنيسة ظلت واقعة في القبضة يونانية !!.
خلال الحقبة الأردنية انعقد المؤتمر العربي الأرثوذكسي الرابع وانبثق عنه لجنة تنفيذية جديدة فُوضت بالسعي لإصدار تشريع يحل محل التشريعات السابقة العثمانية والبريطانية وكان لها ما ارادت في البداية حين نجحت بالتعاون مع حكومة الأردن برئاسة سليمان النابلسي في إصدار " قانون البطريركية الأرثوذكسية" ، ومما جاء في اسبابه الموجبة:
" تعتبر الحكومة الأردنية أن الوقت قد حان لوضع حد لهذا النزاع الطويل ومنح الطائفة العربية حقوقها الطبيعية العادلة " .
لم تلبث أشهر على تصديق مجلسي النواب والأعيان على هذا القانون حتى تحركت الأيدي الخفية ! فجرى سحبه قبل ان يدخل حيز التنفيذ من قبل حكومة سمير الرفاعي ! ، واستبدل بقانون أخر كان موضع اعتراض الرعية الأرثوذكسية العربية. وبعيدا عن التفاصيل نكتفي بالقول بان حتى هذا الأخير على علاته لم ينفذ بأمانة. ومما لاشك فيه أن السلطات الأردنية قد (أدت قسطها للعلى)! موفرة كافة الظروف لإبقاء السيطرة اليونانية ، وفي هذا الصدد التفت على القانون الأردني بالذات والذي يقضي بان يكون البطريرك أردنياً ذلك بمنحها الرهبان اليونانين الجنسية الأردنية ! .. لكن أمر البيع والتأجير استفحل اكثر مع احتلال الضفة عام 67 حيث وجدها البطريرك فرصة سانحة لتجميد نشاط المجلس المختلط والمجالس المحلية ليجري تسريب المزيد من الأراضي إلى الصهاينة .  

الخيانة

تملك الكنيسة الأرثوذكسية المقدسية اكبر اوقاف مسيحية وظلت محفوظة بموجب "العهدة العمرية" على مدى القرون، وهي تشكل 7% من اراضي فلسطين وربع اراضي القدس . وهذه تعرضت للتأكل بفعل البيع والأيجار، وما أُجَّر معرض للضياع مع قانون سيقدم للكنيسة تأول بموجبه العقارات المؤجرة لمدة 99عام إلى أملاك للدولة . فيما يلي عينة وعلى سبيل المثال مما جرى التفريط به .وكل يوم تتكشف أمور منه .

ايام البطريرك تيموثاوس 1935- 1955 بيعت أراضي عديدة تملكها الكنيسة لجهات صهيونية، كان منها الأراضي التي بُني عليها الكنيست وعدد من الدوائر الحكومية وبيت رئيس الوزراء. ومع خلفه البطريرك بندكتوس عقدت صفقات بيع وتأجير طويلة الأمد مع مؤسسات صهيونية، ثمّ البطريرك ثيوذوروس عام 1981 الذي بيعت في عهده أراضي جبل أبو غنيم، وأُقيمت عليها مستوطنة "هارحوماه"، وعُقدت صفقات أخرى مشبوهة في كل من أراضي قصر المطران في الناصرة، ومقبرة يافا، والخان الأحمر، ومنطقة الخضر، وفندق مار يوحنا الموجود في حارة النصارى، والممتد من دير العذراء إلى كنيسة القديس يوحنا، ثمّ تنازلت الكنيسة عن أراضٍ تابعة لكنيسة مار إلياس، بحجة مبادلتها بفندق مار يوحنا، إلّا أنّ الأرض بيعت ولم يُعاد الفندق.
في العام 2001، جاء البطريرك إيرينيوس، ومنح وكالته لشخص يدعى باباديماس (أو باباذيموس) تبين انه عميل للموساد ، وقام هذا بموجب التوكيل ببيع ساحة عمر بن الخطاب بمنطقة باب الخليل في البلدة القديمة بالقدس والتي يقوم عليها فندق إمبريال وفندق البترا و27 محلا تجاريا . وعقد اتفاق مع الحكومة الإسرائيلية، يقضي بتمديد إيجار الأرض الواقعة على طريق القدس ـ بيت لحم، والتي أقام عليها الاحتلال حاجز 300، واتفاق آخر مع جمعية عطريت كوهانيم حول أراضٍ في منطقة سلوان.
وفي عام 2005 انتُخب البطريرك الحالي ثيوفيلوس، ليتابع ما بدأه سابقوه، ولتُتوّج في عهده سلسلة التفريطات تلك بتوقيع الكنيسة على بيع جميع أراضي البطريركية في صفقتي التأجير التي عقدت في الخمسينات والمقدرة 550 دونم هذا غير 834 دونم في قيساريا ، وسوق الدير المركزي بجانب دوار الساعة في يافا. يقول عضو المجلس الأرثوذوكسي في الأراضي المقدسة، عدي بجالي، أن ما تقوم به الكنيسة الأرثوذكسية يأتي ضمن "مخطط خطير لتسليم المدينة المقدسة لإسرائيل" ، يقابله صمت عربي مريب وفلسطيني رسـمي بالأخص ، فيما يواجه مسيحيو فلسطين الأمر من غير سند .
هل كتب على فلسطين أن تدفع ثمن العاب الأخرين، شلال دماء، وأجزاءً من لحمها. في وعد بلفور جاء حل "المسألة اليهودية" التي شغلت اوربا كان على حسابها، ومن قبل انغرس في كنيستها المشرقية الأرثوذكسية رمح يوناني زرعه الأحتلال التركي العثماني في سياق حساباته الأمبراطورية كما سبق وذكرنا . ووجده الأنتداب البريطاني وربيبته "اسرائيل" جسراً للعبور لقضم المزيد من الأراضي العربية، ولكن يبقى اخطر الرماح هو رمح الخيانة العربية. الذي اخرس الجميع حيال هذه الجريمة . ولا جديد تحت الشمس العربية !!!.
(*) كاتب من لبنان

2018-01-16