ارشيف من :ترجمات ودراسات

التطهّر بالدم

التطهّر بالدم

شكّل ما سمي "بالربيع العربي" نقطة تحوّل في بنية الإنسان العربي، على المستويين الفكري والعملي، إلى حدّ اعتبار البعض أن هذا الربيع يمثل حدّاً فاصلاً، لكن الربيع ما لبث أن تحول الى خريف بفعل عوامل عدة منها ما يتعلق بالعامل الاميركي الذي سارع للدخول على خط هذا الحراك. ومنها ما يتعلق بالبنية المعرفية للانسان العربي. ففي اللحظة الأولى للحراك كان الإنسان العربي قد تموضع ذهنيّاً وفكرياً، بما فُرض عليه - كرهاً أو طوعاً - أن يُنمّط سلوكاته وفقاً لهذا التموضع.
من المعلوم أنّ الغالب على التكوين العقلي العربي  عموماً هو العنصر الديني، لا سيما في بُعده الإسلامي، ولذلك فقد كان الحضور الأكبر هو حضور الثقافة الدينية التي ساهمت بفاعلية في بناء تيار "لحظوي" مبني على التاريخ.
لا يمكننا بناء صورة واضحة مما جرى من دون الاشارة الى عنصرين أساسيين:
الأول: هو ارتباط الحراك وتعلقه بالثقافة الدينية، وهو تعلق تمثله الغالبية العظمى من الشعب العربي، على المستوى المعرفي والمستوى العملي الايديولوجي. وقد ظهر هذا العنصر بصفته تجسيداً كبيراً "لقيمة الإنسان العربي" في هذا العالم، الذي يضفي على نفسه  ميزة كبرى ومفارقة عن الآخر.
الثاني: مقاربة القضية مقاربة انفصالية إلى حدّ ما، سواء كان الانفصال عن طريق الرفض الجزئي المقتضي للمُراجعة الشاملة لهذه الثقافة، أو بالرفض الكلي الذي يرى ضرورة إحداث قطيعة معرفية وايديولوجية مع الثقافة الدينية، باعتبارها، عند البعض، تمثل استلاباً للإنسان العربي في حقّه في تقرير مصيره الوجودي. وهذا السياق الرفضي (جزئيّاً كان أم كليّاً) هو سياق "أقلوي" نخبوي في العالَم العربي، مقابل سياق "أكثري" شعبي.
وبناءً عليه، واستناداً الى البُعد الشعبي في الثقافة الدينية، فقد توغّلت هذه البنى المعرفية في أذهان الأكثرية، وفي تجلّيها الأكبر في الانحياز للثقافة الدينية. لقد تبنى العقل الشعبي هذه الثقافة "الانفصالية" بوصفها المُعبّر الأكبر عن روح الأمة، وتطلّعاتها الوجودية.
هذه الروح الشعبوية الدينية برزت للعيان يوم تفجرت السياقات العربية المختلفة، وبدأت سباقها الدموي. وقد تجلت أكثر ما تجلت يوم شرعت "الحالة الدينية" تأخذ حيزاً توسعيّاً في الاجتماع الإنساني العربي، ومع الوقت بدأت تطفو على السطح جماعات عنيفة، كانت إرهاصاتها قد ظهرت في وقت سابق، لا سيما من تلك اللحظة التي انهارت فيها منظومة الخلافة الإسلامية مُمثلّة بالدولة العثمانية، وانبثاق حركة الإخوان المسلمين بدايةً، ومن ثمّ حزب التحرير، وتنظيرات سيد قطب حول فكرة الحاكمية، ومن ثمّ تبنّي هذه الفكرة من قبل بعض الجماعات "الجهادية" في تسعينيات القرن الماضي، لا سيما تلك التي تبنّت خيار العنف، كخيار وحيد، لمحاولة استرجاع الزمن الغابر.
إذاً، لم تنبنِ هذه اللحظة على جدران ورقية، ولا على ارضٍ صلصاليه، بل هي تأسّست على أرض صلبة مستندة الى تاريخ عميق داخل الوجدان الشعبوي.
من هنا، يبدو من "السذاجة" ربط الحراك التونسي، على سبيل المثال، بحادثة إحراق "محمد البوعزيزي" لنفسه على أنه نقطة تحول انبثق منها فجأة سياقات عربية فرضت نفسها كحركة "صادمة"  للوعي الجمعي. وعليه فإنّ بانوراما الربيع العربي لم تكن نقطة ارتكاز لتحولات ذهنية، بل هي لحظة اشتعال لبرميل بارود آن له أن يتنفجر تِباعاً في الاجتماع العربي.

التطهّر بالدم


وبناءً على ما تقدم، من الطبيعي أن يكون الظهور الأبرز في هذا "الربيع" هو للجماعات الدينية.
وسواء كانت هذه الجماعات سلمية أم عنيفة، فانها ابرزت نزعة تبريرية بين الإنسان العربي وتكويناته الدينية، بحيث ان كل طرف من الأطراف كان يرتكز في تداخله مع الحدث انطلاقاً من النص الديني نفسه.
لقد كان النص الديني "العنفي" أحد أهم النصوص المعتمد عليها في هذا الحراك، ما سيجعلنا أمام جماعات "جهادية" تعتبر نفسها تنطلق في رؤيتها للعالم الذي تعيش فيه من منطلق الحاجة الدائمة للتطهر بالدم في اطار البقاء على صراط المحجة البيضاء.
لا يشكّ أحد بوجود أسباب كثيرة دفعت جماعات كهذه إلى الانبثاق إلى حيز الواقع العياني، منها ما هو متعلق بالجهل أو بالفقر أو بالظلم السياسي او الظلم الاقتصادي والاجتماعي، وربما الجرح النرجسي الذي أصاب المسلمين  بعد فترة ما بعد الاستعمار، والاحساس بضياع التضحيات التي بذلت في سبيل التحرر، وربما ايضا التحسس من مظاهر ضياع العاطفة تجاه الدين والمكونات الروحية للاسلام أمام مظاهر العلمنة والليبرالية. من هنا لا يصعب العثور على أدبيات تتعلق بفكرة الخلاص الأخروي، وأفكار الاستعلاء "بالايمان" أمام اجتياحات معرفية غربية للمجتمع.
ويمكن ملاحظة هذا الأمر بسهولة في أدبيات (داعش) حيث يعثر الباحث على بُعد ديني غائر في أعماق الذهن الجمعي. فإن إسباغ هالة دينية إسلامية على الدولة المنشودة، هو بحدّ ذاته محاولة تقارب الواقع مع ما هو مُتجذّر في هذا الذهن الجمعي، وإن تمت موضعته عبر جماعة بعينها. ففي الأدبيات "الجهادية" لهذه الحركة، لم يكن الدافع هو دفع الظلم أو الفقر أو تجاوزات أجهزة المخابرات والأجهزة الأمنية وسياسة البطش والتنكيل بحقّ المخالفين لها هو الغاية المنشودة من تأسيس مثل هذه الجماعات، والا لم نكن لنرى تعاوناً مع اجهزة الاستخبارات العالمية، لا سيما الاميركية، مباشراً أو غير مباشر، بل هي دأبت عمليّاً على حشد إمكاناتها للتأثير على اتّباع نهجها تكفيري بالاستناد الى مرجعيات النص الديني، وتبنّي خيار الفرقة الناجية مقابل الفرق الهالكة، ومعسكر الرحمن مقابل معسكر الشيطان، ومعسكر الحق مقابل الباطل الذي يمثله كل المخالفين.
صحيح أن الاستخبارات العربية والعالمية قد لعبت دوراً محورياً في بروز هذه الجماعات إن توظيفاً او تمويلاً أو توجيهاً، لكن لا أحد يستطيع إنكار الدور الديني الذي اعتمدته هذه الجماعات في سبيل نشر "رسالتها" و"دعوتها"، والذي عُمِّدَ في كثير من الأحيان بالدمّ.
لا ينبغي أن يفهم من هذه المقاربة أن الدين هو المسؤول عن عمليات الذبح والقتل بالنسبة إلى الجماعات الجهادية، لان الدين في مثل هذه الحالات يؤدي دوراً توظيفياً لا دوراً بنيوياً.
وفي الختام تنبغي الاشارة الى إنّ ما نحتاجه اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، هو إعادة النظر، بشكل جوهري، في تلك "الانزياحات" التي أوصلتنا إليها تلك الأنماط من التفكير الديني، والتي كان عنف الجماعات التكفيرية جزءاً من تجلياتها.

2018-01-30