ارشيف من :تحقيقات

لبنان السادس عربياً في مؤشر الجريمة.. الأسباب والدوافع

لبنان السادس عربياً في مؤشر الجريمة.. الأسباب والدوافع

لم تكن الجريمة يوماً فعلاً طارئاً على المجتمع اللبناني، أو حتى على البشرية. أولى الجرائم التي شهدتها الانسانية كانت حين قتل قابيل أخاه هابيل. إلا أنّ حدة الجرائم، تصاعدت بشكل مطّرد خلال السنوات الماضية، وبشكل لا يقدر العقل البشري على استيعابه. فغالباً ما كان يتم الحديث عن جريمة ما، وكأنها فعل خارج عن البيئة. وأحياناً كان يجري الحديث عنها بصوت منخفض وباستهجان وتحسر كبيرين بين الجيران والأقارب، وكأنها آخر الدنيا. هذا في القديم، أما اليوم، فقد انقلبت المعادلة. باتت الصورة مألوفة جداً على المجتمع اللبناني، لتتحول الجريمة الى "شربة مياه"، كما يُقال، تعيدنا الى عصر الجاهلية. وما أكثر جرائم القتل المتنقلة لأتفه الأسباب. فقد تسمع بجريمة على أفضلية مرور، أو على ركن سيارة. وأحياناً، يكون السبب جرائم ثأرية، أو بقصد سلب الأموال، أو تعديات بناء، أو حتى ممارسة هواية إطلاق النار. أكثر من ذلك، فقد وصلت الأمور بالبعض الى حد تنفيذ فعل القتل بحق مشجع فريق رياضي آخر. لتسجّل أرقام فظيعة سنوياً تتعدى المئة، وهو رقم لافت إذا ما جرت مقارنته بلبنان الصغير. آخر تقارير واحصائيات موقع "نامبيو" لمنتصف العام 2018 بينت أن لبنان حلّ في المرتبة السادسة عربياً في مؤشر الجريمة، والخمسين عالمياً. ما يطرح العديد من التساؤلات حول الأسباب التي حوّلت المجتمع اللبناني الى بيئة متخمة بالجرائم؟

الجريمة والمجتمع

قبل الحديث عن الأسباب، لا بد من التطرق الى الجريمة بمفهومها الاجتماعي. أستاذ علم الاجتماع التربوي وعلم النفس الاجتماعي في الجامعة اللبنانية طلال عتريسي، يعرّف الجريمة من منظارين: البيئة، والحالة الفردية. وفق قناعاته، لا نستطيع عزل الجريمة عن الحالة الفردية للشخص نفسه الذي ارتكبها، وهنا يلعب المستوى الاجتماعي دوراً كبيراً في هذا الصدد. إذ يجري التساؤل -وفق عتريسي- عن البيئة التي حصلت فيها الجريمة ومكوناتها، والضغوطات الموجودة فيها، وكذلك العوامل التي أدت الى ارتكابها. فقد تحيط بهذه البيئة الضغوطات على كافة المستويات. المستوى الاقتصادي مثلاً الذي قد يولّد حالة من الضغط، كانتشار البطالة والفقر. طبعاً هنا لا يبرّر المتحدّث الفعل الشائن، لكنّه يسلط الضوء على الأسباب التي قد تشكل محفزاً للاسراع في ارتكاب الجرائم. البيئة الخارجية أيضاً، قد تلعب دوراً كبيراً في هذا الصدد. التلوث، الضوضاء، الطرقات غير المؤهلة، زحمة السير، والاكتظاظ السكاني. وبالتالي، عندما تفتقد البيئة الخارجية المحيطة لأبسط مقومات العيش يصبح من السهل استفزاز أي شخص، ما يحدث توتراً قد يولّد "مشكلاً" عادياً، ليتطور الأخير بدوره الى جريمة.

ويتطرّق عتريسي الى الطرق التي من خلالها قد نستطيع معالجة الجريمة. وفق قناعاته، العلاج لا يكون فقط بسجن القاتل، لأن وظيفة العقاب ليست كفيلة وحدها للحد من ارتكاب الجرائم. صحيح أنها تجعله عبرة لمن اعتبر، لكنها ليست كافية. المطلوب، معالجة الجذور والأسباب المحفزة لارتكابها. كأن يتم مثلاً، تغيير البيئة، وتحسين أوضاعها، معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها. وهنا تلعب العديد من الجهات دورها في هذا المجال بدءاً من الدولة، مروراً بالبلديات، والهيئات المعنية، والأمكنة، والجمعيات، وصولاً الى كل فرد منا.

الجريمة وعلم النفس

لدى الحديث عن جريمة ما، فإنّ أول ما يتبادر الى الأذهان، العامل النفسي لدى مرتكبها. فلهذا العامل دور أساسي، في أي فعل جرمي يُرتكب. الاختصاصي النفسي نبيل خوري يتحدّث عن الجريمة بمفهومها النفسي، فيشير الى أنها وسيلة يُعبّر بها الانسان عما يختلج في نفسه من أحقاد وكراهية، يفجّر فيها كوابيس تكون نتيجتها انفعالاً آنياً في لحظة بلغ فيها السيل الزبى، ولم يعد باستطاعته تحمل أي ضغط أو استفزاز ما يجعله يُقدم على فعل نتيجة نية جرمية مبيتة لديه، ويدفعه الى تنفيذ الفعل عن سابق تصور وتصميم. برأي خوري، يسبق الجريمة حالة من الانفعال والغضب لا يتخللها أي رادع. وهنا يلفت المتحدّث الى أنّ منفذ الجريمة وفي حال كان صاحب ضمير، يعيش حالة من التوبيخ تحتم عليه أن يشعر بمرارة كبيرة، ولكن الواقع يبين أن تجارب الذين يمارسون هذا النوع من الجرائم بيّنت أن لديهم القابلية لتكرارها.

يتحدّث خوري عن أسباب نفسية عديدة تؤدي الى ارتكاب الفعل الجرمي، تبدأ بالتربية الخاطئة، ولا تنتهي بحالات الاكتئاب الحادة، الثنائية القطبية، العوامل الوراثية، والأمراض النفسية العديدة.

الجريمة والقانون

لا يخفى على أحد أنّ الأرقام المتزايدة للجرائم في لبنان، ما كانت لتبلغ هذه الحدة، لو لم تجمّد عقوبة الاعدام في لبنان. أستاذ القانون الجنائي في الجامعة اللبنانية وسام غياض، يتحدّث عن استسهال ارتكاب الجرائم، في ظل عدم إنزال أقصى العقوبات بحق المرتكبين، ما أدى الى ارتفاع نسبة الجرائم بشكل هائل ومخيف. يوضح المتحدث أنّ عقوبة الاعدام لا تزال سارية المفعول حتى اللحظة، علماً أنّ آخر تنفيذ لهذه العقوبة جرى عام 2004، لتجمّد بعدها، إثر الضغط الاوروبي وبعض الاتفاقيات. وهنا يعتبر المتحدّث أنه ما دام الهدف من العقوبة هو الزجر والردع، فإنّ مسألة عدم تنفيذ أحكام الاعدام فوراً في مسرح الجريمة، خلقت نوعاً من الاستهتار بأرواحنا.   

يشير غياض الى أنّ الجريمة في لبنان يرعاها قانون العقوبات الذي صدر عام 1943، وهو لا يزال ساري المفعول حتى اللحظة، مع بعض التعديلات التي أُدخلت عليه. أما فيما يتعلق بمفهوم الجريمة من الناحية القانونية فيعرفها غياض على أنها القيام بعمل أو عدم القيام بعمل من شأنه أن يؤدي الى خرق النظام العام، أو الى المس بالمصلحة العامة لبعض الأفراد، والأمثلة على ذلك كثيرة. يشدّد غياض على أنّ مبدأ النظام اللبناني يمس بمبدأ شرعية الجزاء والعقوبات، ومفاده بأن كل عمل لكي نسميه جريمة يجب أن يكون منصوصاً عليه في نصوص قانون العقوبات والقوانين المكملة له. فالقتل قصداً يخضع لأحكام المادة 547 من قانون العقوبات اللبناني، وهي أشغال شاقة مؤقتة تصل الى حد الخمسة عشر عاماً، والقتل العمدي يخضع لمادتي 548 و549، وفي الاثنين يحصل القتل عن سابق تصور وتصميم وتقصد".

2018-07-04