ارشيف من :صحافة عربية وعالمية

وودوارد والمنطقة: ’خوف’ من حزب الله... والحرب المقبلة

وودوارد والمنطقة: ’خوف’ من حزب الله... والحرب المقبلة

 ملاك حمود - صحيفة الأخبار

في كتابه الجديد، وعلى امتداد مئات الصفحات، يتناول الصحافي الأميركي بوب وودوارد، رئاسة دونالد ترامب وما يعتري «البلدة المجنونة» (البيت الأبيض) وفق وصفه من انقسامات وفوضى كان يمكن أن تهدّد الرئاسة بأكملها لو كنّا أمام شخص مختلف. لكن، واقعاً، هذا جلّ ما يميز إدارة ترامب، المعادي لكل ما هو تقليدي. سعى وودوارد في كتاب «خوف: ترامب في البيت الأبيض»، الذي صدر يوم الثلاثاء الماضي، إلى تناول جوانب الإدارة كافة، ولكنه أبقى تركيزه منصبّاً على النمائم داخل البيت الأبيض والعداوات بين كبار موظّفيه. الصحافي الشهير استند في كتابه إلى شهادات مصادر «رفيعة المستوى» في الإدارة. وفي مقابل «النميمة»، أهمل بعض أهم الملفات الضالعة فيها إدارة ترامب، فلم يأتِ على ذكر أيّ شيء يتعلق بفلسطين حتى بجملة واحدة، كما لم يذكر حرب اليمن أو الأزمة الخليجية. في المقابل، ركّز على العدوان على مطار الشعيرات السوري في ربيع 2017. وتحدّث بإسهاب عن العلاقة مع السعودية، مبيناً الدور المحوري لمستشار الرئيس، صهره، جاريد كوشنر. كما يحضر حزب الله على طاولة صناع القرار في البيت الأبيض كـ«تهديد وجودي» لإسرائيل.

مرّ أسبوع على انتخاب دونالد ترامب رئيساً. إنه تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، استدعى الرئيس المنتخب الجنرال المتقاعد، جاك كين، إلى «برج ترامب» لمقابلة عمَل. بعد قليل، سيعرض ترامب على ضيفه منصب وزير الدفاع، لكن كين - الحاضر دائماً على شبكة «فوكس» الإخبارية، وهي للمناسبة قناة ترامب المفضّلة - الذي عمل مستشاراً لديك شيني سيرفض العرض. مع ذلك، أخذ الجنرال المتقاعد وضعية الوعظ، وقال لمضيفه: «ما نفعله أو لا نفعله، يمكنه أن يزعزع استقرار جزء من العالم، ويتسبب في مشكلات هائلة». كان ذلك مجرّد تحذير من صديق ترامب، قبل أن ينصحه باختيار جيمس ماتيس، جنرال البحرية المتقاعد، لمنصب الدفاع. لم تكن المرة الأولى التي يسمع فيها ترامب باسم الجنرال المعروف بأسماء كثيرة، منها «الكلب المسعور». سأل ترامب كين: «جيّد هذا الماتيس، أليس كذلك؟». من حسناته الكثيرة، وفق كين، أنّ «لديه خبرة كبيرة، لاسيما في... الشرق الأوسط. وهو من قدامى المحاربين ذوي الخبرة العالية في كل من أفغانستان والعراق».

بدا أن الرئيس المنتخب قد عقد العزم على اختيار عسكري للوظيفة. لاحقاً، في الشهر نفسه (تشرين الثاني/ نوفمبر)، استدعي ماتيس الذي بدا حضوره لافتاً. عاجَله الرئيس: «علينا الاهتمام بداعش». كان التخلّص من التنظيم أحد الوعود التي قطعها ترامب لناخبيه خلال الحملة الانتخابية. نظر ماتيس إلى ترامب مباشرة، وقال له: «علينا أن نغيّر طريقة عملنا… لا يمكن أن تكون حرب استنزاف، يجب أن تكون حرب إبادة». كلمات ماتيس الموسيقية تلك لم تترك مجالاً للشكّ في أن «هذا الماتيس» هو ما يبحث عنه ترامب. «لقد حصلت على الوظيفة!». اتّفق الرجلان على تجنب إعلان اتفاقهما، لأنّ ستيف بانون، كبير الاستراتيجيين في البيت الأبيض، يرى في ماتيس ليبرالياً في ما يتعلّق بالسياسات الاجتماعية... ولاحقاً، سيطلق عليه بانون لقباً جديداً: «مركز الجاذبية الأخلاقي في الإدارة». «الأخلاقي في الإدارة» كان قد سبق له أن تسلّم منصب قائد القيادة المركزية في الشرق الأوسط «سنتكوم» بين عامي 2010 و2013، قبل أن يقيله باراك أوباما (2008-2016) بسبب تلهّفه لمواجهة إيران عسكرياً.

قائداً لـ«سنتكوم» كان ماتيس يعتقد أنّ إيران «لا تزال تشكل أكبر تهديد لمصالح أميركا في الشرق الأوسط»، وكان دائم القلق من احتمال أن تُقدِم إسرائيل على ضرب منشآت إيران النووية، ما يعني جرّ الولايات المتحدة إلى صراع آخر. كان ماتيس مقتنعاً بأن عديد العسكريين الأميركيين في المنطقة ليس كافياً، حتى أنه كتب مذكّرة لأوباما، عبر وزير دفاعه ليون بانيتا، يسعى فيها إلى الحصول على سلطات معزّزة تمكّنه من اتخاذ قرار للردّ على «الاستفزازات الإيرانية»، خصوصاً في المياه الدولية. تلقى ماتيس مذكّرة من توم دونيلون، وهو مستشار الأمن القومي في عهد أوباما، يردّ فيها بالرفض لطلب ماتيس توسيع صلاحياته، أو الرد على استفزازات إيران «تحت أي ظرف كان». ستصبح مذكّرة دونيلون واحدة من أولى الأوامر التي سيلغيها ماتيس حين يصبح وزيراً للدفاع.

لكنّ ماتيس لم يستسلم، فقد كتب مذكّرة أخرى لاذعة لرئيس العمليات البحرية يقول فيها إن «البحرية ليست في جاهزية تسمح لها بخوض صراع في الخليج الفارسي». حينذاك، تدخّل بانيتا وقال لماتيس إن موقفه من إيران وضعه في مأزق حقيقي مع البيت الأبيض. ماتيس الذي كان مصراً على رأيه قال: «إنني أتقاضى أجراً مقابل تقديم أفضل نصيحة عسكرية»، «إنهم يتّخذون القرارات المتعلقة بالسياسة. لن أغير قناعاتي لاسترضائهم. إذا لم يمنحوني ثقتهم، سأرحل». وهكذا تم إعفاء ماتيس في آذار/ مارس 2013، ليكتب بعدها «ذكريات كبيرة».

أرفق وزير الدفاع الحالي كتابه باستراتيجية من 15 صفحة لمواجهة إيران ركّزت خصوصاً على تجنب التسامح مع سلوك طهران المزعزع للاستقرار، عبر «حزب الله» و«قوة القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، فضلاً عن سلوكها في العراق لتقويض الولايات المتحدة. أما الجزء الثاني من الاستراتيجية، فركّز على خطّة لإعادة تشكيل الرأي العام الإيراني، على المدى الطويل.

مع طرد ماتيس من إدارة أوباما، لم يعد أحد يتنبّه إلى آرائه حول إيران. عندما عُيّن في منصب الدفاع، انتشرت فجأة استراتيجيته حول إيران. لكن سؤال وودوارد الأهمّ: هل كان تعيين ماتيس في منصب وزير الدفاع يعني صراعاً عسكرياً محتملاً مع إيران؟

حزب الله: الخطر الداهم

استظهر في فصول عدة من الكتاب شخصيّة محورية داخل مجلس الأمن القومي، وهي ليست إلا ديريك هارفي (كولونيل عسكري متقاعد)، مدير «وحدة الشرق الأوسط» في «مجلس الأمن القومي». كان قد عيّن في منصبه في شباط/ فبراير 2017، قبل أن يقيله مستشار الأمن القومي، اتش آر ماكماستر، في تموز/ يوليو من العام نفسه. كان هارفي على موعد مع جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي وكبير مستشاريه، في مكتبه في البيت الأبيض. استمع كوشنر باهتمام لقضية هارفي الذي بدا أن همّه الأساس في الشرق الأوسط كان «حزب الله».

يورد الكتاب أن «المعطيات الاستخباريّة الحسّاسة» أظهرت أن للحزب 48 ألف عسكري متفرّغين في لبنان يشكّلون تهديداً وجودياً على إسرائيل، كما أنّ له 8 آلاف مقاتل يتوزّعون بين سوريا واليمن، فضلاً عن وحدات كوماندوس موزّعة على مستوى المنطقة. وتشير تلك المعطيات إلى أن الحزب ينشر مقاتلين في أنحاء العالم، بين 30 و50 عنصراً في كلّ من: كولومبيا، فنزويلا، جنوب أفريقيا، موزامبيق، كينيا.

كوشنر: القمة الأميركية - السعودية ستعود بالفائدة على إسرائيل

أيضاً، يملك الحزب 150 ألف صاروخ مقارنة بـ4500 كان يملكها خلال «عدوان تموز» 2006. وتبلغ فاتورته السنوية التي تدفعها إيران مليار دولار، أضف إليها ما يجنيه من غسيل الأموال، والاتجار بالبشر، وتجارة الكوكايين والأفيون، وبيع أنياب العاج من موزامبيق، دائماً وفق الوثائق الاستخبارية. بدا هارفي قلقاً من إمكان اندلاع حرب كارثيّة ستكون عواقبها الإنسانية والاقتصادية والاستراتيجية هائلة. اعتبر أيضاً أن الصراع الإيراني - الإسرائيلي سيجتذب الولايات المتحدة، ما يعني أن لا استقرار إقليمياً في الأفق.

حصل ترامب على نسخة من الإحاطة الاستخبارية حول حزب الله. شرحها له كل من مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية دان كوتس، ومدير «وكالة الاستخبارات المركزية» (حينذاك) مايك بومبيو. لكن هارفي «شعر أن الآخرين لم يقدّروا درجة تحوّل ميزان القوى الأساسي»، وقال لكوشنر إنّ «حرباً عربية - إسرائيلية أخرى لن تشبه أيّ حرب سبقتها على الإطلاق، هذا يمكن أن يؤثّر في قدرات إسرائيل القتالية». كما شدّد على أنّ «إدارة ترامب الجديدة لم تكن مستعدة لما يمكن أن يحدث»، وحثّه على متابعة الاتفاقات التي سيبرمها ترامب خلال اللقاء الذي سيجمعه برئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في شباط/ فبراير 2017. وتحدّث بإسهاب عن أهميّة الحوار الاستراتيجي لمواجهة الحقائق الجديدة على الأرض. جلّ ما أراده هارفي هو تعزيز العلاقات الأميركية - الإسرائيلية التي تدهورت في عهد إدارة أوباما.

لاحقاً في الصيف، سعى السفير الإسرائيلي في واشنطن ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي لدعوة هارفي إلى إسرائيل. لكن الطلب/ المسعى اصطدم برفض ماكماستر، على رغم أنّه لم يقدّم أيّ سبب. في بداية تموز/ يوليو 2017، رتّب هارفي لقاء مع كبار مسؤولي «الموساد»، والاستخبارات العسكرية، وممثلين عن القوات الجوية الإسرائيلية، والجيش. حين علم ماكماستر بمساعي هارفي، غضب ولم يسمح له بعقد اللقاء.

السوبّر مستشار... السعودية وإسرائيل

بدأت جهود كوشنر خلال الأشهر الأولى لرئاسة ترامب، إذ اقترح إجراء ترامب رحلة تتضمّن محطتين: السعودية وإسرائيل. في لقاءٍ آخر جمع هارفي وكوشنر، سأله الأخير: «ما رأيك في أن تكون الرياض أول رحلة رئاسيّة لنا؟»، أجابه هارفي من دون تردّد أنّ اختيار الرياض كأول عاصمة أجنبية يزورها ترامب «ستتلاءم تماماً مع ما نحاول فعله. سنؤكد من جديد دعمنا للسعوديين، وأهدافنا الاستراتيجية في المنطقة... موقفنا تدهور كثيراً خلال سنوات حكم أوباما».

كان هارفي يعتقد أنّ أوباما أمضى كثيراً من الوقت في صياغة اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، بينما أهمل العلاقات مع السعودية وإسرائيل. لذا، إن «التفكير في جعل السعودية أول رحلة رئاسية يمكن أن يقطع شوطاً طويلاً للإشارة إلى أن لإدارة ترامب أولويات جديدة»، طبقاً لهارفي الذي جمعته علاقات جيدة بالاستخبارات الإسرائيلية. كذلك، فإن قمّة أميركية -سعودية في الرياض ستعود بالفائدة على إسرائيل، خصوصاً أن لدى الجانبين «علاقات مفتوحة ومهمّة في القنوات الخلفية». ولم يكن اقتراح كوشنر، كما يبدو، من دون علم الرئيس، بل ربما كان بتشجيع منه. فقد أكّد كوشنر لهارفي أن لديه معلومات استخبارية موثوقة تفيد بأنّ مفتاح السعودية كان ولي ولي العهد (آنذاك) محمد بن سلمان.

حين علم ماكماستر بأمر القمّة الأميركية - السعودية، سأل هارفي بغضب: «من يدفع في هذا الاتجاه؟ من أين تأتي تلك الأوامر؟». بدا واضحاً أن أسلوب الالتفاف لم يرُق لمستشار الأمن القومي، لكنّه بدا عاجزاً عن فعل شيء. ومع تقييد ماكماستر، تابع هارفي مهمته وعقد سلسلة اجتماعات مع وكالات الاستخبارات، بما فيها «الاستخبارات المركزية» (سي آي أي). كانت رسالة مجمع الاستخبارات واضحة: على كوشنر أن يكون حذراً.

برعاية كوشنر، بدأ هارفي، بسلطة غير عاديّة، التحضير للقمّة المرتقبة. في آذار/ مارس 2017، ترأّس ماكماستر اجتماعاً رئيسياً حول احتمال عقد قمة أميركية -سعودية. خلال الاجتماع، قال وزير الخارجية (آنذاك) ريكس تيلرسون، ملوحاً بيده باستخفاف: «بحسب خبرتي في «إكسون موبيل»، السعوديون يتكلمون دائماً كلاماً كبيراً. تذهب لتفاوضهم، لكن حين تريد وضع تلك الاتفاقات على ورقة لتوقيعها، لن يحدث ذلك».

رأى ماتيس أنّ على الإدارة الجديدة أن تتمهّل حتى العام المقبل، وأن تكون «حذرة ومتعقلة». لكن، وزير الطاقة، ريك بيري، قال إن «هناك الكثير لإنجازه (التحضير للقمة) في وقت قصير جداً». لم يكن أحد موافقاً على عقد قمّة بعد شهرين كما تفضّل كوشنر واقترح. جلس المستشار الممتاز، كوشنر، على الجهة المقابلة لماكماستر، وقال للحضور: «أنا أتفهّم مخاوفكم، لكنّي أعتقد أن لنا فرصة حقيقية هنا، علينا التنبه إليها. أتفهم أنه علينا الحذر. علينا أن نعمل على ذلك (القمة) بجد كأنها ستحدث فعلاً… هذه فرصة علينا اقتناصها».

كان هارفي يعلم أن أحداً لن يستطيع أن يرفض (عقد القمة)، وقرر أنّه يجب الحصول على أكثر من 100 مليار دولار من العقود العسكرية المتّفق عليها مسبقاً مع الرياض. أرسل محمد بن سلمان فريقاً من 30 شخصاً إلى واشنطن، وتم تشكيل مجموعات عمل من الأميركيين والسعوديين حول الإرهاب، وتمويل الإرهاب، والتطرف، والحملات الإعلامية. وعقد البنتاغون اجتماعات في شأن العقود والشراكات الأمنية بين الجانبين. يعلّق وودوارد بالقول: «لم يكن هارفي يريد أن يطلب الكثير من السعوديين، لأنه يعلم أن جيوبهم لم تعد عميقة كما كانت عليه سابقاً».

وبينما جُنّدت الإدارة الأميركية للتحضير للقمة، كان ماكماستر لا يزال غير متحمس لها. ولأنّ كوشنر أراد عقدها، قال إنه إذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تبقى منخرطة في المنطقة، فإنها تحتاج إلى مساعدة السعوديين والإسرائيليين. لم يكن الرئيس يريد أن يستمر في دفع فواتير الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، خصوصاً عندما تكون دول المنطقة هي المستفيدة، وفق كوشنر.

«اجعلوا السعوديين يشترون أكثر»، قال كوشنر، مضيفاً: «إذا اشتروا أنظمة أسلحة، ذلك سيساعد الاقتصاد الأميركي وسيخلق فرص عمل جديدة. سيشترون مخزونات كبيرة من الذخائر، فضلاً عن عقود صيانة ودعم لمدة 10 سنوات».

عاد الفريق السعودي إلى واشنطن في زيارة ثانية. وعلى مدى أربعة أيام، كانت الاجتماعات تمتدّ حتى الواحدة فجراً. وحين بدا أن الأمور تسير وفق المخطط لها، دعا كوشنر ابن سلمان إلى واشنطن. لبّى الأخير الدعوة سريعاً في 14 آذار/ مارس من ذلك العام، وتوجه إلى البيت الأبيض حيث كان ترامب في انتظاره على الغداء، في خرق واضح للبروتوكول لم يرق لمجمع الاستخبارات. ثم في 20 أيار/ مايو 2017، وصل ترامب إلى السعودية ومنها إلى فلسطين المحتلة. «جرت الأمور تماماً كما خطط لها كوشنر»، وفق الكاتب. وبعد نحو شهر من زيارة ترامب، عيّن الملك سلمان نجله محمد ولياً للعهد.

سوريا: الكيميائي والشعيرات

مع بداية الربيع، كانت قد مرّت ثلاثة أشهر على بدء ترامب ولايته الرئاسية. يوم الثلاثاء، الرابع من نيسان/ أبريل 2017، بينما كانت مشاعر ترامب تفيض، اتصل بوزير الدفاع ماتيس. كان الأخير في مكتبه في البنتاغون عندما بدأت الصور والمقاطع المصورة تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي حول هجوم كيميائي في خان شيخون. قال ترامب لماتيس: «فلنقتله (الأسد)، لنذهب إلى هناك ونقتل الكثير منهم». «نعم»، أجاب ماتيس، «سأتابع الموضوع». «لن نفعل أياً من هذا»، قال وزير الدفاع لأحد مساعديه، مضيفاً أنّ «الولايات المتحدة ستتّخذ خطوات مدروسة أكثر» ضد سوريا. ورأى ماتيس أن أمام الإدارة الأميركية فرصة نادرة لفعل شيء ما من دون عمل الكثير.

عقب الهجوم الكيميائي المفترض، بدأ ماكماستر وديريك هارفي العمل في البيت الأبيض لتحديد الخيارات. علم بانون بما يجري، وواجه هارفي في مدخل الجناح الغربي، سأله: what the fuck are you doing. [ما الذي تفعله؟]، «أطوّر الخيارات للرئيس» أجابه هارفي. «هو (الرئيس) طلب أن تكون أمامه خيارات، وهكذا تجري العملية». رأى بانون أن (العملية) التي يكرهها تميل نحو عمل عسكري.

«افعل شيئاً»، باتت تعويذة البيت الأبيض. كل هذا، ولم يجب أحد ترامب ماذا يفعلون بكل هذا الوجود العسكري الضخم في الشرق الأوسط. شعر بانون بأيدي إيفانكا (ابنة الرئيس) الخفية في كل ما كان يحدث. لم يكن بانون يحب وجودهما، هي وزوجها جاريد، في البيت الأبيض. كان يرى أنهما عائق أمام الرئيس. موظفان يرفضان معاملتهما كموظَّفين، حتى أن بانون قال ذات مرة لإيفانكا :«أنت مجرّد موظفة لعينة»… صرخت في وجهه وقالت: «أنا الابنة الأولى». ما علينا، كانت إيفانكا تأخذ صور الأطفال الذين تنشقوا الغازات السامة إلى مكتب والدها. وعلى رغم أن بانون قال إن الهجوم مروّع، لكنه كان يعتقد أيضاً أن الردّ العسكري هو آخر ما تحتاجه إدارة ترامب.

بالنسبة إلى هارفي، كانت سوريا بمكانة دراسة حالة كلاسيكية للإجراءات غير المكتملة، أي أن الهدف لم يكن حلّ المشكلة. الخيار «المعتدل» على الطاولة كان توجيه ضربة بحوالى 60 صاروخ «توماهوك» على مطار واحد. جادل هارفي ماكماستر: «لدينا فرصة لفعل المزيد... علينا أن نفكر في ضرب العديد من المطارات لنقضي على قوة الأسد الجوية، هذه قوة مضاعفة للنظام. نحن نحاول رسم نهاية اللعبة للضغط على النظام للمشاركة في العملية السياسية». أسهب هارفي قائلاً: «دمّر قوّته الجوية، ليس 15 أو 20% منها. 80%»، وهو ما يعني إطلاق 200 صاروخ «توماهوك»... «ديريك، أنا أعلم»، أجابه ماكماستر، «لكن علينا أن نتعامل مع حقيقة أنّ ماتيس يرسم الاتجاه الذي نسلكه هنا». بدا ماتيس حذراً جداً، خصوصاً أن الروس يوجدون في المطارات السورية؛ «إن قتلنا الروس ستحدث كارثة».

خلال اجتماع «مجلس الأمن القومي» لمناقشة الخيارات، عرضت الخيارات الثلاثة: الساخن والمتوسط والبارد. الخيار الساخن: هجوم بـ200 صاروخ على جميع المطارات السورية الرئيسة، أما الخيار المتوسط: 50 صاروخاً، والأخير كان تقريباً لا شيء، أو لا شيء على الإطلاق. قرّر ماتيس أنّ الضربة ستكون بـ60 صاروخاً من طراز «توماهوك»، وستستهدف مطاراً واحداً هو «الشعيرات».

يوم الجمعة 7 نيسان/ أبريل 2017، عُقد اجتماع موسّع جمع كبار المسؤولين بالرئيس الأميركي، طلب الأخير رأي الجميع، وقال إن هذه فرصتهم ليقولوا رأيهم بصراحة. استقر الخيار عند توجيه ضربة محدودة، بعدما قدّم ماتيس ضمانات بأن الهدف لن يخطئ ولن يتسبّب في مقتل مدنيين، خصوصاً أن ترامب كان يطرح أسئلة من قبيل: ماذا لو أصبنا مستشفى؟ ماذا لو أصبنا مدرسة؟ الضربة ستحدث الليلة، عند الـ4:40 فجراً بتوقيت سوريا، هذا ما طلبه ترامب. كانت الدلالة واضحة من التوقيت، الضربة وقائية وليس الهدف منها قتل أي أحد. لذلك، قبل 15 دقيقة من توجيه الضربة، أرسل ماتيس تحذيراً إلى الروس في المطار لإخلائه.

كان ترامب في فلوريدا للقاء الرئيس الصيني، شي جين بينغ، حين حدثت الضربة. أخبر ترامب شي أنّه وجه للتو ضربة عسكرية إلى مطار الشعيرات بـ59 صاروخاً من طراز «توماهوك»، رداً على هجوم خان شيخون. أجابه شي: «إنه يستحق ذلك»، وفق ما ينقل الكاتب عن مصادره.

على رغم الثناء والمديح الذي تلقّاه ترامب بعد قصف مطار الشعيرات، كان في الأيام والأسابيع التي تلت الضربة يخبر مساعديه في الجناح الغربي أنه يعتقد أن الهجوم لم يكن كافياً. ألا يجب أن تفعل الولايات المتحدة المزيد؟ كانت فكرة إصدار أمر سرّي لاغتيال الأسد لا تزال تداعب مخيّلته.

ترامب «البراغماتي»

في بداية 2018، قرّر الرئيس الانتقام من بانون الذي كان تحدّث بوضوح إلى الصحافي مايكل وولف كمصدر رئيسي لكتابه «نار وغضب»، الذي وصفه وودوارد بـ«غير المرغوب». وبدلاً من كتابة تغريدة، قال ترامب في تصريح: «ستيف بانون ليس له علاقة بي أو برئاستي. عندما تم فصله، لم يفقد وظيفته فحسب، بل فقد عقله».

من وجهة نظره، اعتقد بانون أن ترامب فشل إلى حد كبير في أن يكون «عامل تغيير». يعتقد بانون أن النظام القديم في الأمن القومي قد ربح في السنة الأولى لرئاسة ترامب. ربما كان الاستثناء الوحيد، وفق بانون، موقف الرئيس الصارم من الصين ووعيه بأنها المنافس الحقيقي في الشؤون الدولية.

كان بانون مرعوباً من استراتيجية الأمن القومي: وثيقة مؤلفة من 55 صفحة نشرت في كانون الأول/ ديسمبر 2017. في قسم الشرق الأوسط، كانت السياسة مصممة لـ«الحفاظ على توازن إقليمي مواتٍ للقوة». وبالنسبة إلى بانون، ذلك يعدّ تجديداً للعالم القديم، وفق ترتيب كيسنجر، بهدف البحث عن الاستقرار السياسي. يؤكد أن الهدف من قمة الرياض كان تشكيل تحالف للحدّ من التوسع والهيمنة الإيرانية. «ميزان القوى»، في قاموس بانون، يعني أن الولايات المتحدة كانت مرتاحة للوضع الراهن واستراتيجية «اللاحرب» في إيران التي أخذت المواجهة إلى حافة الهاوية.

ما لم يرد في الكتاب

في الفصل الثاني والعشرين تمرّ قطر عرضاً - من دون الإشارة إلى الأزمة الخليجية المتواصلة منذ نيف وعام - حين يشير الكاتب إلى الخلافات المستفحلة بين جماعة «الأمن القومي» الممثلة بماكماستر، ووزيري الخارجية تيلرسون، والدفاع ماتيس. في هذا الفصل، يشتكي ماكماستر من أن الثنائي يجعلان من موقعه أضعف كل يوم، فهو مثلاً لم يكن على علم بأن تيلرسون توجّه إلى قطر لتوقيع اتفاقية حول مكافحة الإرهاب مع نظيره القطري، إلى حدّ أنه اتهم تيلرسون خلال أحد الاجتماعات أنه يسعى إلى تقويض عمل جهاز «الأمن القومي». كان ذلك بين 15 و18 تموز/ يوليو 2017.

تجدر الإشارة أيضاً إلى أن كلمة فلسطين أو فلسطيني لم ترد على الإطلاق في الكتاب على رغم مئات الصفحات، والإسهاب في الحديث عن كوشنر ودوره المحوري في إدارة ترامب. وهذا الأخير يعد عراب «صفقة السلام» الأميركية التي لم تبصر النور.

في الكتاب، عاد بنا الكاتب بإيجاز إلى عراق صدام من دون أن يأتي على المرحلة الراهنة التي يعيشها هذا البلد، كما اختار تجنب ذكر الحرب في اليمن إلا من باب الإنزال الأميركي في بداية عهد ترامب عام 2017 لقتل عنصر كبير في «القاعدة»، وهو ما أدى إلى مقتل عسكري أميركي، ووضع ترامب في موقف حرج.

2018-09-14