ارشيف من :تحقيقات

فاتورة الدواء بين العرض الإيراني ومافيا الاحتكار في لبنان..المواطن يدفع الثمن

فاتورة الدواء بين العرض الإيراني ومافيا الاحتكار في لبنان..المواطن يدفع الثمن

تحمل "أم محمد" همّ توفير سعر فاتورة الدواء التي أثقلت كاهلها. هذا الهم يتجدّد مع قرب انتهاء الكبسولات من علب الأدوية المتنوعة. المرأة الستينية تعاني أمراضاً جمة، يتقدمها الضغط والسكري. الهم الذي يراود أم محمد يكاد يكون رفيق يوميات غالبية اللبنانيين، خصوصاً في ظل تفشي الأوبئة والأمراض بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وعلى رأسها السرطان. هذا المرض الذي يُجبر اللبناني على دفع كل ما "فوقه وتحته" كما يقولون، في رحلته العلاجية. ولا نُفشي سراً لدى قولنا بأنّ أسعار الدواء في لبنان تكاد تكون الأغلى في العالم. أرقامها صادمة مقارنة بدول المنشأ، إذ تصل كلفة الإنفاق الى أعتاب المليار ونصف مليون دولار، وهو سعر خيالي، بإمكان الدولة تفاديه، وتخفيض الفاتورة الى 300 مليون دولار، إذا ما وضع أصحاب الشأن مصلحة الوطن والمواطنين فوق أطماعهم ومصالحهم. فكيف يكون ذلك؟.

تجيب قصة العرض الإيراني للبنان بموضوع الأدوية عن كل الأسئلة التي تراود المواطنين عن حال الدواء في لبنان، والسياسة العوجاء التي اتبعتها العديد من الحكومات. وهي بذلك تختصر قصة حيتان المال والمحتكرين الذين نهبوا جيوب المواطنين، واستغلوا سلطتهم وحاجة المواطنين للدواء ليعبثوا فساداً بهذا السوق، ويقطعوا الطريق أمام أي بدائل تُنقذ جيوب المواطنين وربما أرواحهم، فكم من مواطن فارق الحياة نتيجة عدم مقدرته على العلاج. وللتذكير، فإن العرض الإيراني ليس جديداً، بل عمره سنوات، وهو عرض يبدأ بتصدير الأدوية الى لبنان بأسعار تكاد تكون مجانية، وينتهي بنقل التقنيات والتكنولوجيا الايرانية وكل ما يلزم لتحويل لبنان من بلد مستورد الى مصنّع للدواء. وفد الاعلام اللبناني الذي زار مصانع ومعامل الأدوية في إيران مؤخراً سمع من المسؤولين الايرانيين إصراراً وتأكيدا على ما طُرح سابقاً في هذا الصدد. إيران على استعداد لوضع كافة امكانياتها وقدراتها في السوق اللبناني. وعندما نتكلّم عن امكانيات إيران، فلا بد من الاشارة الى أن هذا البلد يُنتج ما يقارب 96 بالمئة من أدويته، أي نتحدّث عن اكتفاء ذاتي شبه مطلق في هذا المجال تعيشه طهران التي تُصدّر أدويتها الى العديد من البلدان حول العالم، وبأسعار أقل بحوالى 90 بالمئة  من أسعار الادوية في دول المنشأ. فما قصّة العرض الايراني بملف الأدوية؟ وما الذي يُعرقل استفادة لبنان من هذه "الفرصة الذهبية" التي توفّر الكثير على خزينة الدولة؟

العرض الايراني.. كلفة دواء شبه مجانية

منذ خمس سنوات تقريباً، استقبل عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب علي المقداد ـ وهو من أوائل المتابعين لملف الأدوية ـ مبعوثاً إيرانياً قدّم عرضاً للدولة اللبنانية يقضي  بتصدير أدوية السرطان والتصلّب اللويحي الى لبنان وبأسعار خيالية.

يُكلّف مريض التصلّب اللويحي الدولة اللبنانية 12 الف دولار في السنة، بينما يقضي العرض الايراني بتخفيض تكلفة المريض الى 400 دولار للمدة نفسها

وفق المقداد يُكلّف مريض التصلّب اللويحي الدولة اللبنانية 12 الف دولار في السنة، بينما يقضي العرض الايراني بتخفيض تكلفة المريض الى 400 دولار للمدة نفسها. فإيران من أوائل الدول المصنعة لدواء التصلب اللويحي كونها تضم أكبر نسبة مرضى به، ما دفعها الى انتاج دواء "جنريك" للدواء المستعمل في أوروبا وأميركا، ما يعني تخفيض الكلفة أضعافاً مضاعفة. تلقّى المقداد العرض الايراني. حمله الى وزير الصحة آنذاك محمد جواد خليفة الذي رحّب بالطرح المذكور، وأبدى إعجابه به، لكنّه قال الأمور كما هي مخاطباً المقداد "يا علي العرض ممتاز، لكنه لن يلقى تجاوباً". وعندما نسأل المقداد لماذا؟. يعزي الأمر الى سببين: الأول، يأخذ طابعاً سياسياً، يكمن في رفض كل ما هو إيراني. بعض المتسلقين من أصحاب السياسة في لبنان يفضّلون الاستدانة لدفع فاتورة الدواء على أن "يربحوا جميلة" إيران. وبعضهم الآخر، لا يزال خاضعاً للسياسات الخارجية، يُنفّذ كل ما يطلب منه، وهنا ينبش المقداد من الذاكرة، قصة التدخل الأميركي حتى في الدواء اللبناني، فيوضح أنّ الوقاحة الأميركية دفعت بجيفري فيلتمان عندما كان سفيراً أميركياً في لبنان، الى التدخّل لدى وزارة الصحة اللبنانية وبعض الشركات العالمية لمنع تخفيض سعر بعض الأدوية في لبنان، كي لا تتضرّر الشركات الأميركية.
 
أما السبب الثاني، ـ بحسب المقداد ـ فيكمن في عدم استعداد مافيات الدواء في لبنان للتخلي عن المتاجرة بهذا القطاع، الذي يدر عليهم أموالاً طائلة، حتى ولو كان المواطنون رأس الحربة والضحية الأولى، فيبثون في سبيل ذلك شائعات تستهدف دواء الجنريك. وللتوضيح، فإنّ الأخير مثله مثل الدواء الأصلي لجهة التركيبة والنوعيّة والقدرة العلاجيّة، الا انه قد يختلف عنه في الحجم واللون والسعر، وهو ما يفسّر انخفاض أسعار الأدوية في ايران التي تعتمد على تصنيع أدوية الجنريك المنافسة بأسعارها للكثير من الأدوية.  

من المستفيد من العرقلة؟

وهنا يسأل المقداد، لماذا لا يستفيد لبنان من العروضات الايرانية؟. بالنسبة اليه، فإنّ قلة الثقة التي يبديها البعض بالمنتجات الايرانية من الادوية ما هي الا شماعة ذات دوافع سياسية ومادية. يوضح أنّ حوالى 75 مليون ايراني يتلقون العلاج من الأدوية المصنعة ايرانياً، ولا يشتكون من فعاليتها وقدرتها على العلاج. يستغرب المقداد هذه البرودة اللامبررة حيال العروضات الايرانية. فباستطاعة لبنان ليس فقط التوفير في فاتورة الدواء، بل الانتقال من بلد مستورد الى مصنّع إذا ما وضع المسؤولون "عقولهم في رؤوسهم". من المستفيد من هذه العرقلة؟. يؤكد المقداد أنّ المستفيد الأول هم تجار الأدوية الذين قد يكونون أطباء أو أصحاب شركات أدوية أو "سماسرة"، وهنا تقع مسؤولية كبرى على الأطباء الذين عليهم أن يقتنعوا بأنّ هناك أدوية بديلة ذات جودة عالية وفعالية ممتازة، تخفّف عن كاهل المواطن أعباء كبيرة. عليهم أن يقتنعوا ويُقنعوا المواطنين بها، على أمل أن نرى لبنان في ركب الدول المصنعة للدواء، ولو بعد حين"، يختم المقداد.

2018-09-17