ارشيف من :آراء وتحليلات

اقتصاد للبيع.. في مصر

اقتصاد للبيع.. في مصر

في قراءة إحباطات الماضي تمهيد لرؤية أوسع للمصير المنتظر، فالشعوب ما هي إلا جماعات بشرية، وبمقدور من يسيطر على مقدرات حياتها وإنتاجها أن يحدد طريقها. وكان نقل المجتمع المصري من بهاء مشروع ثورة 1952، إلى نموذج التبعية المقيت، والاقتصاد الدائر حول الريع، مثل دول الخليج، مع عدم توافر الفوائض المالية ذاتها، وترسيخ الانفصال النفسي بين مصر ومحيطها العربي، بعد أن تكفل الوجود الصهيوني بين مصر والشام في تحقيق القطيعة الجغرافية، قتلًا مع سبق الإصرار لشعب كامل، وسحقاً لمستقبل أيامه.

في 17 يناير 1977، وقف نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية آنذاك الدكتور عبد المنعم القيسوني، أمام مجلس الشعب، معلنًا اتخاذ إجراءات تقشفية لضبط الموازنة العامة، وضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة.

الكلام عينه الذي قاله "القيسوني" يقوله كل يوم رئيس وزراء مصر الحالي مصطفى مدبولي، وقاله سابقًا شريف إسماعيل، أحمد نظيف، عاطف عبيد، والقائمة تطول لأمثلة رؤساء الوزراء الذين يعملون كمستشارين للبنك والصندوق الدوليين في الحكومة المصرية، والإجراءات ذاتها يتم اعتمادها في مواجهة الرأي العام، مثل المباحثات والشروط السرية، التي يسربها الإعلام الأجنبي، ويفاجأ بها المصري، كأمر واقع لا راد له.

الحكومة المصرية اتفقت مع صندوق النقد الدولي، قبل دخوله المشؤوم الأخير، بحزمة قروض تبلغ 12 مليار دولار، على مجموعة إصلاحات، كشفت من خلال التسريبات، أو الأحداث، ولم يصارح مسؤول مصري، حتى اللحظة، الشعب المعني أساسًا بعملية الإصلاح، والذي يقع على كاهله تحمل إجراءاتها وفشلها، بفحوى الاتفاق كاملًا، وهو ما أدى إلى نفور شعبي، جعل الهوة بين الحكومة والناس واسعة وعميقة.

الحكومة المصرية اتفقت مع صندوق النقد الدولي على مجموعة إصلاحات

ما أعلنته الحكومة مؤخرًا من اتجاه لطرح 5 شركات عامة في البورصة المصرية، كغنيمة باردة للمستثمرين، تشمل هذه المرة شركات في قطاعات إستراتيجية، ورابحة، وتمتلك أصولًا مليارية، والشركات هي: الشرقية للدخان والإسكندرية للزيوت المعدنية في شهر أكتوبر/تشرين الأول، ثم شركتا أبو قير للأسمدة والإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع الشهر التالي، وأخيراٍ طرح حصة بشركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير في ديسمبر/كانون الأول، على أن يتم طرح باقي الشركات في 2019، ليصل إجمالي عدد الشركات المستهدفة بالطرح إلى 23 شركة.

الإعلان عن الطرح جاء على خلفية تعهدات من قبل الحكومة ببيع أسهم فى 20 شركة بالقطاع العام في البورصة المصرية، وتشير التوقعات إلى وصول مبيعات تلك الأسهم إلى 100 مليار جنيه، ستستخدم لتمويل العجز المتنامي في الموازنة العامة للدولة، والذي يبلغ العام الحالي 2018-2019 نحو 440 مليار جنيه.

استبقت الحكومة الإعلان عن الطروحات، وهي جزء من برنامج الخصخصة سيئ السمعة، بتأجيل فرض ضرائب رأسمالية على أرباح البورصة المصرية، في نهاية 2016، مقابل توسع غير مسبوق في فرض ضرائب على العقارات والسلع والجمارك –آخرها قرار رئاسي بزيادة الجمارك على عدد ضخم من السلع- والإجراءات كلها تصب في اتجاه جعل البورصة المصرية مرغوبة من الزبون الأجنبي المطلوب.

التنازل الحكومي، على مدى سنوات، كان يدور حول هدف واحد، وهو طمأنة المستثمرين على الوضع الاقتصادي، وجعل مغامرة الاستثمار في شركات، لا في أوراق دين، خيارًا جيدًا لهم.

لكن ولأن آفة حارتنا الطمع، وهو يعمي العيون والقلوب، فإن قرارين تم اتخاذهما خلال ساعات قليلة، نسفا كل تخطيط الحكومة، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي.

البورصة المصرية تشهد خلال أيام متعاقبة أكبر هبوط يومي لرأسمالها منذ تعويم الجنيه في نوفمبر 2016

البورصة المصرية تشهد، خلال أيام متعاقبة، أكبر هبوط يومي لرأسمالها، منذ تعويم الجنيه، في نوفمبر 2016، الهبوط هو رد فعل السوق على قرار التحفظ على علاء وجمال مبارك، في قضية التلاعب الشهيرة، التي فتحت فجأة، لتشمل شركتين من أكبر الشركات العاملة في السوق المصرية، ثم قرار التحفظ على أموال متهمين بالانضمام إلى جماعة الإخوان ونقلها إلى الخزانة العامة، وهو ما يوصف بعملية تأميم.

مصر ومنذ العام 1974، تسير على نهج النظام الرأسمالي، الذي يترك الحرية للقطاع الخاص، ويغل يد التدخل الحكومي عامًا بعد آخر في السوق المحلية، وبالتالي فإن تهديد الاستثمار يعني مباشرة قتل فرص المشروعات الجديدة، ويلقي بظلال كثيفة من الشك حول استقلال القضاء ذاته، كعامل مهم لأي مستثمر يقرر ضخ أمواله في دولة ما.

تأميم الأموال عن طريق لجنة إدارية، يكنس في طريقه أي حديث عن ضمانات دستورية للأموال الخاصة، وينص الدستور المصري في المادة 40 على أن "المصادرة العامة للأموال محظورة، ولا تجوز المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي"، وهو ما تجاوزته الحكومة المصرية، تحت لافتة قانون الكيانات والمنظمات الإرهابية.

النظام المصري ينسى - أو يتناسى - أن محور إصلاحاته الاقتصادية قائم على هدف وحيد، وهو جذب الاستثمارات الأجنبية، ورغم أن الاستثمارات الأجنبية تركزت فقط في أذون وسندات الخزانة المصرية، إلا أنها شهدت تراجعًا كبيرًا خلال الشهرين الماضيين، من 23.5 إلى 17 مليار دولار، وهي ما تعرف بـ "الأموال الساخنة"، إذ إنها تدخل وتخرج من الاقتصاد دون خلق فرص عمل أو تشغيل حقيقي.

استثمار الأجانب في أدوات الدين المصرية له سبب واحد، وهو الاستفادة من الفوائد الهائلة التي تدفعها مصر، وتضعها في المرتبة التاسعة من حيث أكثر الدول دفعًا للفوائد على ديونها - سعر الفائدة نحو 16.75% - بفارق طفيف خلف تركيا وأوكرانيا وغانا.

أما عن الاستثمارات الصناعية، فحالها لا يسر إلا عدوًا، فما جرى إنشاؤه في مصر من مصانع خلال السنوات الخمس الأخيرة يقترب من الصفر، وأرقام البنك المركزي المصري تكشف بجلاء يصفع الأعمى أن ثلثي الزيادة المعلنة في الاستثمارات الأجنبية في قطاعات الاقتصاد خلاف أذون وسندات الخزانة، كان ضخ دولارات من شركات البترول الإيطالية والبريطانية، وهو ما تسترده الشركات آجلًا، وتقاسم الدولة في عائدات البترول أو الغاز.

مزيد من السقوط بمرور الوقت، تنزلق إليه الدولة المصرية، بفعل غياب التخطيط أو المنطقية عن قراراتها، بعد أن باعت كل شيء ورهنت كل حصاد عمليات الإصلاح على هدف جذب الاستثمار الأجنبي، رغم بخس قيمة الشركات والأصول، المقومة أصلًا بنصف قيمتها، بعد تخفيض قيمة الجنيه، في عملية التعويم سيئة السمعة.

2018-09-21