ارشيف من :آراء وتحليلات

التحول في الصراع والحاجة الى استراتيجيات المواجهة

التحول في الصراع والحاجة الى استراتيجيات المواجهة

تعيش المنطقة اليوم مرحلة من التحول في الصراع، قليلاً ما يتم الإلتفات الى مضامينه، لإختلافها عن السياق المُعتاد للصراع التقليدي. فيما يمكن ملاحظة التشديد على أهمية هذا التحول، من خلال خطابات قيادات محور المقاومة لا سيما الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. في خطاباته الأخيرة أكد السيد على ضرورة الإلتفات الى حرب الشائعات وتشويه السمعة ووجَّه تعليماته لجمهور المقاومة في لبنان الى ضرورة الحذر. كلمات مختصرة أشار اليها الأمين العام لحزب الله، تتضمَّن تحديداً واضحاً لحربٍ جديدة على محور المقاومة، بأدواتٍ مختلفة. وهو ما يستلزم مواجهتها بأساليب وسبل مختلفة.

 

من الحرب الصلبة الى الحرب الناعمة، باتت الأدوات الإقتصادية والسياسية والإعلامية السُبل الأهم في صراع اليوم. ولعل الخطر الكامن في الأدوات الصامتة لهذه الحرب، بات يستدعي استنفاراً لإيجاد سُبل المواجهة الضرورية، كي لا تنجرَّ شعوب المنطقة الى ساحة جديدة من الصراع، مختلفة عن الساحة السابقة، دون امتلاكها الوعي اللازم للمواجهة. فعلى الرغم من أن هذه الحرب تُدار من نفس الأعداء، لكنها تٌدار بعقلٍ مُختلف. هو العقل الناعم الذي يعرف التسلل الى داخل المجتمعات، مُستخدماً كافة إنتاجات وأدوات التكنولوجيا الحديثة، القادرة على استهداف الجميع في أي زمانٍ ومكان.

 

في السابق، كانت التحديات وأولويات الصراع، تُحتِّم علينا الإحتكام للقوة العسكرية (الصلبة)، حيث كانت المعركة وجودية. اليوم، أصبحنا بحاجة إلى مواءمة الإنجازات العسكرية والسياسية لمحور المقاومة مع التخطيط للمستقبل الذي يحفظ هذه الإنجازات، ويجعلها نقطة قوة لتحقيق التقدم على الصُعد الناعمة كافة (الإقتصادية، الإجتماعية، الثقافية، الإعلامية، العلمية و.. الخ). فما هي قصة هذا التحوُّل نحو الحرب الناعمة؟

لم تكن الحرب الناعمة بعيدة عن التحديات التي تطال شعوب منطقتنا تحت مُسميات عديدة من الغزو الثقافي الى الحرب السياسية والنفسية

لم تكن الحرب الناعمة بعيدة عن التحديات التي تطال شعوب منطقتنا. تحت مُسميات عديدة من الغزو الثقافي الى الحرب السياسية والنفسية، كلها تحديات ناعمة واكبت التحديات الصلبة (الحروب) التي واجهتها شعوب المنطقة.  في العام 1990، خرج جوزيف ناي عميد كلية العلوم الحكومية في جامعة "هارفرد" ليَبتكر مصطلح "القوة الناعمة" في كتابه الأول حول الحرب الناعمة، "وثبة نحو القيادة". لم تكن صدفة، بل تزامن ذلك مع التحول نحو واقع عالمي جديد بعد انهيار الإتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة وصعود النجم الأمريكي. بعد سنوات وتحديداً في العام 2004، خرجت نظرية القوة الناعمة ضمن كتاب حمل نفس العنوان لنفس الكاتب. سعى جوزيف ناي من خلال نظريته الجديدة لرسم استراتيجية جديدة للولايات المتحدة، يُمكن أن تكون خارطة طريق للسياسة الأميركية في عالمٍ مُتغير قد تتعرض فيه مصالح واشنطن للخطر. اليوم بات هذا الطرح أداة أمريكا في سياستها الدولية. لكن العودة الى تاريخ الصراع تُظهر أن مضامين هذه الحرب وأساليبها ليست بجديدة، حيث أن ما قام به جوزيف ناي هو أنه أعاد جمع السياسات الناعمة تحت إطارٍ ومفهومٍ جديد. خلال ثمانينات القرن الماضي، أفصح نعوم تشومسكي عن "الإستراتيجيات العشر للتأثير الإعلامي" والتي إن تمَّت مراجعتها سيتبين أنها تُشكل مضمون الحرب الناعمة. (يمكن معرفة تفاصيل أكثر حول الموضوع في مقال لنفس الكاتب في جريدة الأخبار: الحرب الناعمة والحاجة إلى استراتيجيات المواجهة).

اليوم يبدو واضحاً ومن خلال مقاربة الواقع الحالي ودراسة حجم اللاعبين على الصعيدين الإقليمي والدولي، النتائج التالية:
 

أولاً: أدركت واشنطن أنها أمام جبهة جديدة (محور المقاومة) متماسكة قادرة على إدارة الصراع بتناغمٍ كبير مع حفظ الجميع لمصالحهم الخاصة. يربط أطراف هذه الجبهة أيديولجيات مشتركة، في حين تجمعهم تحديات واحدة، ما ساهم في تعزيز قوة هذه الجبهة وتماسكها بشكل أكبر.

ثانياً: انتقل العقل الأمريكي (والغربي) من مرحلة التخطيط العسكري والأمني المحض، الى بناء غرف عمليات ناعمة قادرة على مواجهة انتصارات شعوب المنطقة عبر التأثير في المجتمعات وبث الشائعات والتضليل بهدف التغطية على الهزائم والتشويه وضرب السمعة وإدخال الجميع في حروب إلهاء محلية.

ثالثاً: يواكب ذلك استخدام أداة العقوبات الإقتصادية لتأجيج المعاناة الإجتماعية والإقتصادية لشعوب المنطقة وبالتالي رفع منسوب التحدي في ظل نتائج اقتصادية وإجتماعية صعبة ولَّدتها حروب المنطقة. ما قد يخلق تناقضاً في المصالح بين الحلفاء ومشكلات بين القيادات وجمهورها.

من خلال هذه المقاربة، يبدو واضحاً أن المنطقة تعيش تحولاً يحتاج الى استراتيجية خاصة. استراتيجية تضع كافة التحديات التي تعاني منها شعوب المنطقة ضمن إطارٍ جديٍ ورؤية شاملة. ولم يعد يكفي توصيف المشكلات دون وضع الحلول. اليوم ندخل مرحلة تحتاج الى عقول قادرة على هندسة وتصميم الحلول التي تجعل شعوب المنطقة التي قدمت الكثير من التضحيات، قادرة على الحفاظ عليها. المعركة المُلحّة اليوم باتت "معركة بناء الوعي والرشد السياسي". ما يجعلنا بحاجة لجنود مُفكرين قادرين على مقارعة أدمغة واضعي استراتيجيات التدمير الذاتي للشعوب.

 

2018-09-28