ارشيف من :آراء وتحليلات

اختلال توازن الهوية والخطاب عند المثقف العربي

اختلال توازن الهوية والخطاب عند المثقف العربي

يعيش "المثقف العربي" أزمة التعبير عن ذاته، ولم يعد بإمكان لغة الضاد التي ينطق بها التعبير عن ذاته. كما لم يعد قادراً على تحديد الأولويات التي يمكن أن يسير عليها. ولا بد من الإلتفات إلى الشرخ الكبير الذي أحدثته الحركات المتطرفة المحسوبة على الإسلام في الوسط العروبي، والتي أدت إلى تعثر كل من المثقف المسيحي والمثقف المسلم على حد سواء في التعبير عن هويتهما. اذ إنه اليوم لا يمكن تحديد الهوية، وتبدلت أولويات المثقفين العرب التي كانت تجمعهم ما قبل كامب ديفيد واوسلو واحتلال العراق وما بعد "الربيع العربي". هناك اختلال في التوازن، يمكن قراءته من خلال المحادثات التي تجري واللقاءات التي تقدم على الشاشات وفي مختلف الكتابات التي تقرأ في كل يوم.

 

تتعدد هويات مثقفي اليوم، اذ لم يعودوا ضائعين ما بين الهويتين العربية والإسلامية أو السورية في الشرق، بل بات اليوم أن تكون لبنانيا أو سوريا أو مصرياً أو فلسطينياً أمراً ضرورياَ بغض النظر عن الديانة التي تنتمي إليها، ولكن الهوية الأزمة باتت الهوية العربية، والتي ارتبطت اليوم بالأزمات التي اختلقتها الدول "العربية" المختلفة في سوريا وليبيا والعراق، والتي جعلت البعض من السوريين، على سبيل المثال، يرفض نسبه إلى العرب والعروبة بأي شكل من الأشكال، والعودة للحديث عن الأمة السورية والحضارة السورية وما أضفته هذه الحضارة على الفاتحين القادمين للجزيرة العربية، والذين يعتبرون أن العرب الفاتحين لا فضل لهم في بناء الحضارة بل هم أخذوا عن أهل بلاد الشام العلم والمعرفة ولم يأتوها بشيء. هذا النوع من الخطاب يكشف في الحقيقة حالة من العداء تجاه مفهوم العروبة، وهذا ما يحدث اليوم في أماكن محتلفة ليس من لبنان فقط بل في سوريا أيضاً.

غير أن بعض المثقفين العرب يحاولون التنبيه إلى الدور الذي لعبته الدول الإستعمارية المتمثلة بالدول الغربية وأميركا، في زرع العداء للقومية العربية مذكرين بقول ديغول، بعد أن قامت فرنسا بجمع المفكرين العرب في باريس في العام 1913، "إن الحركة العربية قد انقلبت علينا، ادعموها في السر واقتلوها في العلن". أي أن فرنسا كانت تعتبر أن الحركة العربية هي سبيل للسيطرة على العرب، وأن هذا التوجه العام في المنطقة العربية هو لخدمة مصالحها الإستعمارية. لم تكن فرنسا لتسمح بإقامة مؤتمر باريس في ذلك العام لو أنها تيقنت أن العرب كانوا يرغبون ويعملون للإستقلال عن جميع أنواع الإستعمار. وما تزال هذه الدول تقوم بالعمل ذاته من خلال "مثقفين" يعملون على تزكية النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية وحتى إذكاء الهويات المناطقية مثل الهوية الفينيقية والفرعونية والسريانيه.

في الوقت عينه، هناك من ينبه أن ما يحدث في الدول العربية لا يمكن فصله في دولة عن دولة أخرى. فما يحدث في لبنان وسوريا لا بد أن يكون متبادل التأثير. بينما يجد البعض أن مجرد الرفض الدائم لأي شيء هو السبيل للتعبير عن أراءهم، لأنهم من خلال الرفض والكراهية لكل ما هو موجود أو اعتبار أن الماضي أفضل من الحاضر، في محاولة لإستجلاب الماضي والتغني بإنجازات الأولين دون الإنتباه إلى أن الحاضر يحمل الكثير من الإيجابيات التي يجب استحضارها أيضاً، إذا ما كان المراد هو تحسين الواقع العربي. ولكن ما يجب تحديده أيضاً هو العدو: العدو الذي أصبح مسألة وجهة نظر. اذ مايزال بعض اللبنانيين حتى اليوم يعتبرون أن الحديث عن الإحتلال الإسرائيلي يجب أن يقابله أو يتلازم معه الحديث عن ما يسمى "الإحتلال السوري".

هناك البعض الذي يتحدث عن الفلسطينيين في لبنان وبؤس العيش في المخيمات، والتي يرون بأنها مذلة لأي مجموعة بشرية، وأن عليهم مغادرة أماكن سكنهم التي لا تطابق أية معايير صحية واجتماعية وإنسانية. ويضيفون أن على الفلسطينيين البحث عن أماكن جديدة لتربية أبناءهم، دون الإلتفات إلى قراءة موضوعية للحالة الفلسطينية الراهنة. فالفشل الذريع لإتفاق أوسلو، الذي لم يكن قادراً على استعادة اللاجئين إلى بلدهم؛ والقرار الذي صدر في زمن الرئيس رفيق الحريري والذي منع الفلسطيني من تملك بيت في لبنان صعد من أزمة واقع المخيمات. ثم هناك التضييق الذي يمارسه كيان العدو الإسرائيلي على أهل الضفة الغربية وقطاع غزة وفي المناطق التي احتلت من أجل دفعهم نحو مغادرة فلسطين. والدفع باتجاه تغيير الواقع الفلسطيني لا يتعلق بالعواطف أو المشاعر، بل بالعمل من أجل الدفع نحو تغيير ظروف هذا الواقع، من خلال سن القوانين التي تسمح  للفلسطينيين بالعمل. فالنظرة القاصرة لأوضاع الفلسطينيين لا يمكن أن تعبر إلا عن قصور رؤيا ممن يرون أنفسهم مثقفين.

الأمر الملفت، هو تحول المثقف العربي إلى مثقف ثنائي اللغة خلال النقاشات، والدمج ما بين اللغتين العربية والإنكليزية بشكل غالب، وأحياناً الفرنسية؛ وأما الأسوأ فهو عندما يقوم بشرح المفردات العربية باللغة الإنكليزية. بالطبع هناك تأثير واضح للغة التعليم، التي تسم الخطاب بمفرداتها. وفي هذا الإطار تحدث المقارنة المستمرة ما بين الحروب الدينية في أوروبا والحروب مع ما بين الدولة اليوم والجماعات الدينية في مختلف الدول العربية. كما حرب كل من العراق وسوريا ولبنان وغيرهم مع الجماعات المسلحة والإرهابية ومنها "النصرة" و"داعش" وغيرها. وهنا من حيث الوضعية التاريخية للحروب أو من حيث أسباب نشأة الحروب فلا مجال للمقارنة ما بين الحروب الدينية في أوروبا وبين ما يحدث في المنطقة العربية. فحروب أوروبا كانت صراعاً ما بين الكنائس فيها أو هي صراع ما بين الإقطاعيين الذين كانوا يحاولون بسط سيطرتهم على أملاك أوسع، أو الإستيلاء على أملاك الغير، وهي مقارنة سخيفة ما بين ماضي أوروبا وحاضر الدول العربية، التي تحولت إلى مسرح للصراع الدولي على خيرات هذه الدول وخصوصاً البترول والغاز والتي استخدم فيها الدين من خلال دعم الغرب للجماعات المتطرفة. هذا النوع من الخطاب، هو خطاب يرفض التعمق في رؤية ما يحدث في المنطقة وهو معلق ما بين إعجاب صاحبه بالغرب وما بين الخجل من الحالة العربية الراهنة.

2018-10-18