ارشيف من :آراء وتحليلات

لبنان والإصلاح الإداري وأهمية تعزيز مفهوم الدولة

لبنان والإصلاح الإداري وأهمية تعزيز مفهوم الدولة

عندما ظهر مفهوم إدارة الدولة عام 1989 في التقاريرالخاصة بالتنمية الإقتصادية، حُصر توصيفه بالربط بين الكفاءة الإدارية للأجهزة الحكومية والنمو الإقتصادي للدولة.
تطور المفهوم ليشمل قدرة الدولة على قيادة المجتمع ضمن إطار سيادة القانون. فالدولة كمفهوم تعني تمكين النخبة الحاكمة من السيطرة على الحكم، ما يجعل المفهوم بحاجة الى تطوير لتحديد آلية تنظيم إدارة النخبة الحاكمة للمصالح الوطنية مع عدم اعتبارها مصالح خاصة. خلال تسعينات القرن الماضي، تطور المفهوم ليشمل الأبعاد الديمقراطية للدولة القائمة شرعيتها على تمثيلها للمواطن وهو ما ربط الدولة بالمواطنة، وبالتالي ليس فقط ممارسة إدارة الحكم. اليوم، يمكن تعريف مفهوم إدارة الدولة على أنها تنظيم العلاقة بين الحكومة والمواطنين كأفراد أو كجهات متنوعة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ما يُفعِّل المشاركة والتعاون بين المواطن والدولة ويُعزز من دور المجتمع المدني. وهو ما يحتوي الإدارة السياسية والتي تُعرف بأنها إدارة الدولة من خلال أدوات وسلطات سياسية (تنفيذية، تشريعية، قضائية) وتيارات (أحزاب). تضع الدولة السياسات العامة، وتمثل الحكومة الجانب التنظيمي للدولة الذي يشمل الإدارات العامة والمؤسسات المدنية والعسكرية والاستراتيجية المعنية بتنفيذ السياسات العامة ووضع الخطط.

في لبنان، لا كفاءة في إدارة الأجهزة الحكومية، ولا نمو اقتصادي ولا تنظيم للعلاقة بين الحكومة والمواطن. بإختصار لا دولة ولا إدارة للدولة. النخبة الحاكمة هي في الحقيقية مجموعة من الممثلين للتيارات السياسية والتي تُعنى بجانب من جوانب الإدارة السياسية للدولة، في حين يغيب دور السلطات، لتَشكُّلها أيضاً من التيارات السياسية. لتكون النتيجة أن وصف الدولة الذي ينطبق على لبنان هو دولة أحزاب سياسية.

اليوم يُطرح ملف مكافحة الفساد بشكلٍ جديٍ. وهو الأمر الذي يُعتبر بحد ذاته إنجازاً كونه سيؤثر على عقلية الحكم السائدة منذ سنوات وسيؤدي بالتالي الى المساهمة في بناء ثقافة التحول نحو الإصلاح الإداري. وهنا فإن معالجة إدارة الحكم في لبنان يجب أن تنطلق من الواقع الذي تتصف به الدولة اللبنانية والذي يطغى عليه دور الأحزاب وتأثيرها. ما يطرح إشكالية الدور الفعَّال للتيارات السياسية في تطوير النظم الإدارية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية للدولة اللبنانية. فما هي المنطلقات الخاصة بالواقع اللبناني والتي يجب الإلتفات إليها؟ وكيف يمكن للأحزاب أن تُمارس دوراً في تحقيق بناء الدولة؟

الواقع والمنطلقات

عدة أمور يجب الإنطلاق منها يتصف بها الواقع اللبناني نُشير لأهمها فيما يلي:

أولاً: يُشكل واقع التركيبة الطائفية التي يتصف بها الكيان اللبناني عائقاً أمام بناء الدولة. في حين أن الموقع الجيوسياسي للبنان في المنطقة الموصوفة بالصراعات عزَّز بآثاره الإختلافات الداخلية والعُقد البنيوية على صعيد النظرة للدولة وآليات الحكم. هذه المسائل مجتمعة، وبقائها ضمن المسار الموجود، ستُساهم في تعزيز معوقات بناء الدولة.

ثانياً: كنتيجة للنقطة الأولى، فقد ساهمت الحرب اللبنانية وما تفرّع عنها من صراعات محلية، في فرض الأولويات العسكرية والأمنية على الأطراف السياسية اللبنانية كافة، ما أدى لبناء واقع لم تختبر فيه الأحزاب المسائل الإجتماعية والإقتصادية للمواطن، وهو ما أفرز غياباً تاماً للقضايا المعيشية عن اهتمامات الطبقة السياسية.

المطلوب عملياً

تُحدد هذه المنطلقات بالإضافة الى أخرى عديدة، التوصيف الحالي للواقع اللبناني والذي يجب الإنطلاق منه لتفعيل المساعي نحو بناء الدولة وتعزيز دورها. فكيف يمكن أن تساهم التيارات السياسية في ذلك؟

أولاً: إن الإيمان بالتغيير نحو بناء الدولة وتعزيز دورها يجب أن ينتج عنه إدراك التيارات السياسية أهمية النقد الذاتي لسلوكها التنظيمي، حيث لا يمكن إدارة تحديات الحاضر والمستقبل بعقل الماضي. ما يستوجب تجديد النخب الفكرية والسياسية بهدف تطوير الأداء مع ما يتماشى مع التطور العلمي والتكنولوجي ويساهم في تحسين النظرة للمشكلات الحقيقية للمواطن والحلول المناسبة لها.
 
ثانياً: أثبتت التجربة اللبنانية بُعد الأحزاب عن الهم المعيشي للمواطن. ما أدخلها خلال مسيرتها في ازدواجية العمل السياسي، لعدم قيامها بتحقيق أغلب وعودها لا سيما الإصلاحية والتنموية وتغليبها المصالح الخاصة على المصلحة العامة. وهو ما يمكن لحاظه اليوم من خلال الواقع الذي يعيشه المجتمع اللبناني بكافة مكوناته، والذي يُعتبر نتيجة لهذا النهج المُعتمد في الحكم والقائم على المحسوبية والمحاصصة. على التيارات السياسية إعادة النظر في نهجها تجاه المواطن وقيامها بقراءة دقيقة للتحديات التي تواجهه.

ثالثاً: يُمكن اعتبار العمل لرفع الهموم المعيشية للمواطنين مسألة تُساهم في تحصين الواقع اللبناني. فهي الهم المُشترك بين الجميع، الأمر الذي يستلزم تأسيس لجان متخصصة عابرة للمذاهب والطوائف والإنتماءات الحزبية، تُساهم في تقييم الواقع الحالي للمجتمع اللبناني بكل مكوناته ما ينقل الطبقة السياسية من موقعها البعيد عن الهم الحقيقي للمواطن، الى موقعها المُدرك للهموم اللبنانية الجامعة.

هذه النماذج القليلة من السياسات العامة يمكن أن تشكل بالإضافة الى عدة سياسات أخرى، خارطة طريق أمام التيارات السياسية اللبنانية للإنطلاق نحو تأسيس المسار الحقيقي لبناء الدولة. وهو ما يُعتبر المرحلة الأولى التي يجب أن تستكملها العديد من الخطوات اللاحقة. على الجميع إدارك التحديات المشتركة، والعمل على إزالتها من خلال الحوار والتعاون المشترك. بالإضافة الى ما تقدم، لا يمكن أن تدخل هذه الملفات ضمن لعبة الإبتزاز والمزايدة السياسية الداخلية حيث يجب استثمار التعدد والإختلاف وليس الإستفادة من هشاشة نتائجه. على الجميع الخروج من التوصيف للمشكلات والإنتقال نحو هندسة الحلول، والإقتناع بأن توصيف المشكلات وتقديم الأرقام الإحصائية لا يخدم المواطن اللبناني، بل كان سمة النخبة الحاكمة على مدى التاريخ السياسي اللبناني. لنقول أن الإنتقال نحو التعاون في إيجاد الحلول وهندستها ضمن سياسات تنفيذية، هو المطلوب، بل هو الخطوة الأولى في مسار بناء وتعزيز مفهوم الدولة.

2018-10-19