ارشيف من :آراء وتحليلات

العلاقات الأمريكية - التركية: المساكنة المستحيلة

العلاقات الأمريكية - التركية: المساكنة المستحيلة

ليست إيران وحدھا المستھدفة أميركياً بعقوبات وحرب اقتصادية. ھناك روسيا وتركيا أيضاً، ويمكن إضافة الصين ولكن من ضمن إطار آخر. فقد دخلت العلاقات التركية - الأميركية مرحلة غير مسبوقة من التوتر والتصعيد، على خلفية تھديد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض عقوبات واسعة على تركيا إذا لم تطلق سراح القس الأميركي المحتجز لديھا أندرو برونسون المتھم بالتجسس ودعم الإرھاب. قضية احتجاز برونسون ليست سوى رأس جبل الجليد الذي يخفي كمّاً ھائلا من التباينات والخلافات بين الولايات المتحدة وتركيا، ومن أبرزھا:

- المحاولة الانقلابية الفاشلة على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 15 تموز 2016، وتحمّل أنقرة الداعية الإسلامي فتح لله غولن المقيم في أميركا تبعة المحاولة وتطالب واشنطن باسترداده، الأمر الذي يلقى رفضا أميركيا.

- العلاقة الأميركية الوثيقة مع "وحدات حماية الشعب" الكردية السورية التي تعتبرھا أنقرة النسخة السورية لحزب العمال الكردستاني.

- عودة الدفء في العلاقات التركية - الروسية، بعد الانفتاح التركي على روسيا والتنسيق المشترك معھا في سوريا بعيدا عن الولايات المتحدة، والتي كانت من نتائجھا عقد صفقة بين الطرفين تبيع موسكو بموجبھا تركيا منظومة صواريخ أرض جو من طراز "إس  400 " المتطورة، فضلا عن التعاقد مع موسكو لبناء مفاعل نووي لتوليد الطاقة.

الحرب الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا، خطفت الأضواء، وذھبت الأمور سريعا الى تداعيات سياسية مع ظھور بوادر إعادة تموضع تركيا في الشرق الأوسط ومراجعة لسياسة مؤيدة للغرب، فالضغوط الأميركية على تركيا ھدفھا المعلن إطلاق القس الإنجيلي أندرو برانسون . والرئيس ترامب، الذي يخوض معركة قاسية ضد الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية المقررة في تشرين الثاني المقبل، أراد الإفراج عن برانسون كي يحظى حزبه الجمھوري بمزيد من التأييد في أوساط الناخبين الإنجيليين، وتاليا كي لا يخسر أيًا من مجلسي الكونغرس، لما يمكن أن يترتب على ذلك من تفعيل للتحقيق في مسألة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.

في البداية، كان يدور في خلد إردوغان، المنتشي بانتصاراته الانتخابية في الداخل وبتسلمه الرئاسة بصلاحيات تنفيذية واسعة، أن في إمكانه أن يفرض على ترامب عملية مبادلة بين القس برانسون والداعية فتح لله غولن المقيم في بنسلفانيا الأميركية منذ أكثر من 20 عاما.

لذلك عمد ترامب إلى رفع التحدي مع تركيا الى مستوى فرض عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين، ورغم رمزية الخطوة، لم يتحمل الوضع الھش لليرة التركية القرار الأميركي الذي تبعه قرار بزيادة الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم من تركيا، مما جعل العملة تفقد 20% من قيمتھا.

أخطأ أردوغان في الحسابات عندما اعتقد أن في إمكانه ترويض ترامب بالتھديد بطرح مسألة شراكة أنقرة في حلف شمال الأطلسي، في وقت كان عليه أن يدرك أن ترامب نفسه غير مؤمن بھذا الحلف، بل يعتبره عبئا على الولايات المتحدة. وبذلك دفعت الليرة التركية الثمن، علما أن أسباب تدھورھا لا يقتصر على مواقف ترامب، وإنما أيضا هناك عوامل داخلية أھمھا إخفاق وزير المال بريات البيرق، صھر أردوغان، في طرح خطة اقتصادية تحظى بثقة الأسواق والمستثمرين. والسبب الأهم في تدھور الاقتصاد التركي يعود إلى الاستبعاد التدريجي للاقتصاديين والخبراء الذين يعرفون حركة الأسواق وسياسة المراقبة المالية، وھنا تكمن جذور المشكلة.

ترامب في البداية أعطى أردوغان علامات مرتفعة جداً من الإعجاب لكن الأزمة بين مؤسسات البلدين قديمة وتدھورت لأن ترامب اعتقد أنه توصل إلى اتفاق مع اردوغان على ھامش قمة الدول السبع مؤخراً، حين طلب أردوغان أن يستغل ترامب نفوذه لدى بنيامين نتنياھو كي يطلق سراح سيدة تركية، "ابرو أوزكان"، سجنتھا" إسرائيل" لعملھا مع حركة "حماس". حصل ما أراده أردوغان، وانتظر ترامب أن يفي أردوغان بوعده ويطلق سراح القس الأميركي المسجون منذ عام 2016، فما كان من أردوغان إلا أن أودعه في الإقامة الجبرية.

ھذا ما دفع ترامب إلى التصويب على أردوغان، ووضع ملف القس أندرو برانسون والعلاقة الأميركية - التركية بين يديه. حيث تم الإفراج عنه موخراً، الأمر الذي أوقف التدھور في العلاقات الثنائية الأمريكية – التركية، وكرر ترامب نفيه لتقرير أوردته شبكة "إن بي سي" الأميركية يفيد بأن أنقرة وواشنطن توصلتا الى اتفاق سري ينص على إطلاق سراح القس برانسون مقابل تخفيف الضغوط الأميركية على تركيا.

 قبل ثلاثة أشھر، كان اردوغان يشدد على أن لا تراجع أمام العقوبات الأميركية، وأن لا صفقة مع واشنطن لإطلاق الرجل، لكنه تراجع وأطلق القس برانسون، ودفع الاقتصاد التركي ثمناً باھظاً بسبب العقوبات التي فرضھا الرئيس دونالد ترامب على مسؤولين في أنقرة، لكن إطلاق القس برانسون سيساعد الرئيس ترامب ليسجل إنجازاً سيوظفه بلا شك في معركة الانتخابات النصفية للكونغرس. شكر الرئيس أردوغان ووعد بعلاقات ممتازة مع أنقرة. ولا شك في أن ترجمة ذلك ستكون برفع العقوبات عن مسؤولين أتراك والتراجع عن فرض الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألومينيوم من تركيا. وتجلى ذلك في بدء تعافي الليرة. وليس مستبعداً أن تعيد واشنطن تفعيل خريطة الطريق في منبج لإخراج "وحدات حماية الشعب" الكردية من ھذه المدينة.

ومثلما يشكل إطلاق القس رافعة تعين الرئيس ترامب في الانتخابات الشھر المقبل، فإن إعادة الحرارة إلى علاقات ممتازة مع أنقرة تتيح للرئيس أردوغان تعزيز موقفه حيال موسكو التي عانى الكثير في علاقاته معھا، لذا يمكنه الآن أن يلوّح بعلاقته المتجددة مع الولايات المتحدة ومع أوروبا أيضاً للتخفيف من الضغوط الروسية عليه، خصوصاً أنه يلتقي مع الغرب عموماً في رؤيته للتسوية في سوريا.

لكن السؤال هنا: ھل الإفراج التركي عن القس الأميركي يؤدي فقط الى وقف التدھور في العلاقات الثنائية أم ھو مدخل الى مرحلة جديدة تعود فيھا العلاقات الى وضعھا الطبيعي وسابق عھدھا ويحصل فيھا ابتعاد تركي عن أحضان روسيا؟! وھل يؤثر التطور الجديد في العلاقات الأميركية - التركية على مسألة التنسيق الروسي - التركي في سوريا، وتحديدا اتفاق إدلب وتنفيذ البنود الأھم فيه والتي لم تُنفذ بعد؟! لننتظر...ونرى.

2018-10-20