ارشيف من :آراء وتحليلات

خطاب أردوغان: رسالة ’ناعمة’ وباب موارب

خطاب أردوغان: رسالة ’ناعمة’ وباب موارب

انتظر السعوديون بقلق خطاب الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان. القلق السعودي يبرّره الطريقة "الاستعراضية" التي أعلن فيها الإعلام التركي عن خطاب مرتقب لأردوغان.
وأيضاً يقين السعوديين بأن في جعبة الرئيس التركي الكثير من الأدلة والبراهين التي تثبت أن "فكرة" جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، قد مرّت في الدوائر الضيقة المقرّبة من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

التوتر السعودي بلغ مداه قُبيل ساعات على خطاب أردوغان. انعكس هذا التوتر في كلمة لوزير الخارجية السعودية عادل الجبير، الذي بعث برسالة عاجلة من العاصمة الإندونيسية جاكرتا، على شكل مؤتمر صحافي، تعهّد فيه بأن بلاده "لن تكرر ما حدث مع خاشقجي مرة ثانية".

في هذه الأثناء، خرج الرئيس التركي في أول خطاب تناول فيه قضية خاشقجي، منذ الثاني من الشهر الجاري. صحيح أن أردوغان لم يأتِ بأكثر ممّا عكفت "الجزيرة" و"رويترز" و"واشنطن بوست" على تسريبه من معلومات عن حادثة قتل الصحافي السعودية، لكن الصحيح أيضاً أن خطاب أردوغان كان بمثابة نقل لكل هذه المعلومات التي تم الترويج لها على مدار أسبوعين من خانة "التسريبات الإعلامية" إلى خانة "الرواية الرسمية التركية".

هدَم أردوغان بموجب هذه الرواية كل المنطق الذي تجهد السعودية منذ أسبوعين لنشره
هدَم أردوغان بموجب هذه الرواية كل المنطق الذي تجهد السعودية منذ أسبوعين لنشره عبر إعلامها وإعلامييها، والقائل بأنها "ضحية"، وبأن القتلة "ذئاب منفردة" لا علاقة للعائلة الحاكمة بهم، وبأن قتل خاشقجي تم عن طريق "الخطأ".

وسّع أردوغان زاوية النظر في القضية، حيّد ابن سلمان باعتباره غير موثوق فيه، وكرّس الملك سلمان مرجعاً وحيداً في هذه القضية. أراد أردوغان إعطاء الزخم للتيار الذي بدأ يتشكل حول العالم، والمنادي بإيجاد بديل عن ولي العهد الحالي المتهوّر.

توسيع زاوية النظر لا يقتصر، من وجهة نظر الأتراك، على إعادة توجيه الأضواء إلى الملك، دوناً عن ولي عهده، بل أيضاً عبر فتح مسارات أخرى للقضية تتجاوز الحدود تركيا، كأرض حصلت فيها الجريمة، والحدود السعودية، كجهة ينتمي المنفذون إليها. اعتبار أن مقتل خاشقجي جريمة سياسية، والكلام وجود متورطين بها من دول أخرى، يجب إشراكهم في التحقيقات، مسار يفتح الباب أمام احتمالات متعدّدة ومراحل تعقيد وحلَّ متفاوتة المستويات. غير أن أردوغان لم يُقفل الباب أمام الملك السعودي، بل قدّم له اقتراح بأن تتم محاكمة المتورطين بالقضية في تركيا.

ثمة في تركيا مَن رأى في موقف أردوغان "تواطؤاً" مع السعوديين في جريمة قتل خاشقجي
ثمة في تركيا مَن رأى في موقف أردوغان "تواطؤاً" مع السعوديين في جريمة قتل خاشقجي. حزب "الشعب" المعارض مثلاً، كان يطالب بخطوات من قبيل اعتقال السفير السعودي في تركيا، وقطع العلاقات مع السعودية. طبعاً، السقف العالي لحزب "الشعب" نابع من كونه في موقف المعارض لحزب "العدالة والتنمية"، وبالتالي المترّقب لاستثمار أي فرصة في سياق معارضة آداء الحزب الحاكم. لكن "الأردوغانيون" ينظرون إلى القضية برمّتها من زاوية أخرى. زاوية تسمح لهم بتوسيع أفق "استثمار الجريمة" و"تعدّد مساراتها". وفي هذا السياق، يمكن وضع حديث أردوغان عن تورط دول أخرى في الجريمة. وهو حديث يمكن فهمه أكثر إذا ما صحّت التسريبات التي تحدّثت عن "حزمة شروط" وضعها أردوغان لتسوية ملف خاشقجي. أهم هذه الشروط الإفراج عن العشرات من قيادات "الأخوان المسلمين" المعتقلين في مصر، وعلى رأسهم الرئيس السابق محمد مرسي، إضافة إلى عدد من الشخصيات المجتمعية ورجال الدين الموقوفين في السعودية.

ينظر أردوغان إلى قضية خاشقجي بوصفها "فرصة" لإثبات أحقية تركيا وفرادة تجربتها كـ "دولة سلامية معتدلة رائدة". هذا بالضبط ما دفع أردوغان إلى القول في كلمة بتاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، أي بعد أسبوعين على مقتل خاشقجي، إن "تركيا الدولة الوحيدة القادرة على ريادة وقيادة العالم الإسلامي بأسره، بإرثها التاريخي وموقعها الجغرافي وثرائها الثقافي الذي ضمن أن تعيش المعتقدات المختلفة بسلام، على مر العصور".

لا يبدو أن أردوغان بصدد إضاعة "الجريمة – الفرصة"
لا يبدو أن أردوغان بصدد إضاعة "الجريمة – الفرصة". ملفات كثيرة مفتوحة في العالم والإقليم، تتشارك السعودية وتركيا شدّ الحبال فيها، بدءً من سوريا والعراق مروراً بليبيا واليمن وصولاً إلى دول عدة في القرن الأفريقي. اليوم، ردّ الرئيس التركي الطابة إلى الملعب السعودي، إلى الملك تحديداً، الذي يجد نفسه، تحت ضغط الردّ على خطاب أردوغان، أمام عدّة خيارات. فهل يُقدم على تقديم رواية رابعة تنسف الروايات الثلاث السابقة. أم يُكذّب أردوغان الذي أعلن أن في جعبته الكثير من المعلومات وأن ملف القضية لم يُقفل بعد؟ أم يقرّ بمستوى متقدّم من الاعتراف بالذنب؟

على كل حال، يبدو أن قضية خاشقجي أمام مستوى جديد، وأن الملك السعودي أدرك حجم الخطوة المطلوب اتخاذها للصمود أمامه. فبعد ساعات على رسائل أردوغان، جاء ردّ الملك السعودي على شكل بيان صادر عن مجلس الوزراء السعودي، فأكّد على عزم المملكة على محاسبة المقصّر في حادثة خاشقجي "كائناً من كان"، وعزمها كذلك على "اعتماد إجراءات تصحيحية لن تقف عند محاسبة المسؤولين المباشرين عن حادث خاشقجي".

2018-10-23