ارشيف من :آراء وتحليلات

’لحظة’ التقاء روسية ـ سعودية جديدة: التاريخ يحكم

’لحظة’ التقاء روسية ـ سعودية جديدة: التاريخ يحكم

فيما كانت الأضواء متنقلة بين واشنطن وأنقرة والرياض لرصد الضجيج الصادر عن آخر التطورات في قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، كانت موسكو تراقب الحدث الذي يشغل المجتمع الدولي منذ قرابة الشهر، بصمت وهدوء.

وإزاء الارتباك الذي اعترى المواقف السعودية والأميركية من القضية، ومع تعدّد الروايات وردود الفعل الصادرة عن قصر اليمامة والبيت الأبيض، كان الكرملين هادئاً، ومتدرّجاً في الموقف "الثابت" تجاه الرياض، والبعيد عن أي ضغوط تحاكي الهمجة الدبلوماسية والإعلامية الهائلة وغير المسبوقة التي تعرّضت لها العائلة السعودية الحاكمة.

إيجابية روسية

وفي أول تعليق له، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال الاجتماع السنوي لمجموعة "فالداي"، الذي عُقد بعد نحو 8 أيام على الجريمة التي وقعت في الثاني من الشهر الجاري، إنه "من الضروري انتظار نتائج التحقيق قبل تخريب العلاقات مع السعودية"، ورفض "إفساد العلاقة مع السعودية ما لم تكن لدينا حقائق ملموسة". فتح بوتين مساراً جديداً من خارج السائد في "ملف" خاشقجي. قال إنه "توجد مسؤولية على عاتق الولايات المتحدة" فيها.

لاحقاً، بعد 5 أيام على موقف بوتين هذا، قال المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، إن موسكو سمعت موقف الرياض الرسمي بأن "العائلة المالكة لم تكن متورطة في حادث قتل خاشقجي، والأمر يتعلق الآن بالمحققين". وفي إشارة منه إلى أن بلاده تصدّق الرواية الرسمية السعودية وتصدّقها، قال بيسكوف: "أخذنا موقف الرياض في الحسبان".

اليوم، أي بعد ثلاثة أيام من تصريح بيسكوف، عاد المتحدث باسم الكرملين تأكيد الموقف بشكل أكثر وضوحاً إذ قال إنه لا يوجد سبب يدعو روسيا للتشكيك في تصريحات الملك السعودي وولي عهده عن أن العائلة المالكة ليست ضالعة في مقتل خاشقجي. ورأى أنه "ما من سبب يدعو أحداً لعدم تصديقهم". بدا الموقف الروسي من قضية خاشقجي إيجابياً تجاه الرياض، في حين كانت المواقف السعودية والأميركية تتبدّل سريعاً وباستمرار.

السقف الحامي

وضعت روسيا العائلة الحاكمة السعودية كـ "سقف أعلى" لأي موقف من القضية. كل ما تحت هذا، بالنسبة إلى روسيا، يمكن بلوغه. وتظهيراً لاستمرار العلاقة "بطبيعتها"، شارك رئيس صندوق الاستثمار المباشر الروسي كيريل ديميترييف، في مؤتمر "مستقبل الاستثمار" في الرياض الثلاثاء الماضي، على رأس وفد من 30 شخصاً، مع "هدية للمؤتمر" عبارة عن لوحات للرسام الروسي الشهير فاسيلي كاندينسكي.

من "دافوس الصحراء"، ردّ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، التحية بأفضل منها. التقى الرجل المثير للمشاكل، عدداً من رجال الأعمال الروس على هامش المؤتمر. نقل مدير متحف "الأرميتاج" الروسي ميخائيل بياتروفسكي، عن ابن سلمان قوله خلال اللقاء، إن السعودية "تعلم الآن من هم أصدقاؤها الأفضل ومن هم أعداؤها الألد".

يتماشى ما سرّبه بياتروفسكي، مع مضمون المحادثة الهاتفية التي سرّبتها صحيفة "وول ستريت جورنال" بين ولى العهد السعودي وكبير مستشاري الرئيس الأميركي وصهره جاريد كوشنير، في بداية أزمة خاشقجي. قالت الصحيفة الأميركية إن ابن سلمان اشتكى لكوشنير "انقلاب الغرب عليه"، وأكّد أنه لن ينسى هذا. هذا، يتماشى أيضاً "المقالة ـ الرسالة" لتركي الدخيل والتي لوّح فيها بـ"خيارات عديدة" أمام السعودية، منها "التوجّه شرقاً".

صراع تاريخي على السعودية

لكن بنظرة أخرى، يمكن التأكد من أن السعودية في ظل سلمان ونجله، تمثّل ركناً أساسياً من أركان الاستراتيجية الاقتصادية لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وهو ما يفسّر "غزوة الـ 400 مليار دولار" الشهيرة التي شنّها ترامب على الرياض في الشهر الخامس من العام الماضي. الاستراتيجية الاقتصادية "الترامبية" القائمة أيضاً على تسلّل واشنطن من جميع الالتزامات الدولية عبر سياسة الانسحاب من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

موسكو تتحضّر لمواجهة انسحاب واشنطن من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى التي وقعتها عام 1987 مع الاتحاد السوفياتي

ولمّا كان ترامب قد رفع شعار "أميركا أولاً"، كان يضع "الوظائف" نصب عينيه. وبالتالي، إضافة إلى الأسباب السياسية التي دفعته إلى الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو"، فهو انسحب مثلاً من اتفاقية "الشراكة عبر المحيط الهادي" التي وقعتها 11 دولة عام 2015 من منطقة آسيا والمحيط الهادي باستثناء الصين، وتمثل 40% من الاقتصاد العالمي، لأنه يريد إعادة الوظائف والصناعات إلى الأراضي الأميركية، من خلال معاهدات ثنائية مع كل دولة على حدة. ينطبق الأمر أيضاً على انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران.

بالعودة إلى "الودّ" السعودي ـ الروسي المتبادل، فلا شكّ أن توقيته أتى في لحظة يجدها الطرفان مناسبة لبعث الرسائل إلى الإدارة الأميركية. موسكو التي تتحضّر لمواجهة انسحاب واشنطن من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى التي وقعتها عام 1987 مع الاتحاد السوفياتي، تحاول الاقتراب قدر الإمكان من السعودية بوصفها "حديقة أميركا الخلفية" في المنطقة. محاولات روسيا "التاريخية" لإيجاد موطئ قدم لها في المنطقة تنفذ من خلالها إلى "المياه الدافئة"، تعود إلى أيام روسيا القيصرية، ودائماً ما كانت تبوء بالفشل، نتيجة إحباطها من قِبل الإمبراطورية البريطانية أولاً، والولايات المتحدة الأميركية لاحقاً، في ظل "تسليم" تامّ لمشايخ الخليج المتعاقبين، لـ"حُماة" مشيخاتهم.

عادت المحاولات الروسية في المنطقة من البوابة السورية. يحاول بوتين توفير ملاذ آمن لـ"المتجهين شرقاً" في لحظة التقاء مصالح. وإذا كان قد نجح في نسج تحالف متين نوعاً ما سورياً، قائم على أسس "تاريخية" متينة مع حكّام دمشق. إلا أنه لا بد أنه مدرك أن التجربة " التاريخية" ذاتها تقول إن العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة كالعلاقة بين السمكة والبحر. وتقول أيضاً، إن السمكة، ولو كانت "قرشاً" ليس بيدها قرار البقاء على قيد الحياة طويلاً في "أكواريوم" بدل البحر.

2018-10-27