ارشيف من :آراء وتحليلات

البارزاني في بغداد.. وماذا بعد؟

البارزاني في بغداد.. وماذا بعد؟

 بعد مرور عام وشهرين على اجراء الاستفتاء الكردي لانفصال اقليم كردستان عن العراق (25 ايلول-سبتمبر 2017)، يأتي صاحب مشروع الاستفتاء، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني الى بغداد، ليلتقي كبار الساسة والمسؤولين، ويبحث معهم مختلف القضايا العالقة والملفات الشائكة بين الاقليم والمركز، وسط تساؤلات كثيرة وعميقة تتمحور حول مدى امكانية حلحلة الامور، والشروع بعهد جديد من العلاقات بين بغداد وأربيل، وحول طبيعة الظروف التي جاء فيها البارزاني الى بغداد، وما يمكن أن تتمخض عنهه زيارته الأخيرة، كرئيس حزب هذه المرة وليس رئيسا للاقليم، علماً أن آخر زيارة قام بها لبغداد، كانت في التاسع والعشرين من شهر ايلول-سبتمبر من عام 2016.

في واقع الأمر، جاء البارزاني الى بغداد هذه المرة، مثقلا بجملة قضايا، لا بد أنها كانت حاضرة في كل المحطات التي توقف عندها في بغداد والنجف، حتى وإن لم يتم طرحها والتطرق اليها مباشرة وصراحة.

ولاشك أن الاستفتاء الكردي وما ترتب عليه من تداعيات ونتائج، سواء في داخل الاقليم، أو خارجه، ألقى ببعض ظلاله على لقاءات البارزاني مع كبار الساسة، ولعل بعض التسريبات التي نقلت من داخل الكواليس، أكدت أن رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، سمع لوما وعتبا "هادئا وواضحا وصريحا" بشأن خطوة اجراء الاستفتاء، وأكدت أنه قدم تبريرات وتفسيرات لم تكن مقنعة بما فيه الكفاية لبعض مضيفيه في بغداد والنجف.

جاء البارزاني الى بغداد، وهو يتحدث باسم حزبه، الحزب الديمقراطي الكردستاني، وليس باسم الاكراد، لأن صورة المشهد الكردي اليوم اختلفت كثيراً عن الصورة التي كانت قائمة قبل عشرة أعوام، فحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يعد المنافس الرئيسي للديمقراطي، يمر بفترة قطيعة شبه كاملة مع الأخير، كرستها أزمة انتخاب رئيس الجمهورية، وحركة التغيير (كوران)، لاتترك مناسبة الا وتؤكد فيها أن البارزاني لايمثل الاكراد، وكان آخرها ما صرحت به القيادية في الحركة تافكة احمد، قائلة "ان جميع القرارات او الاتفاقات التي سيبرمها بارزاني مع القوى السياسية او الحكومية خلال زيارته، غير ملزمة لكردستان، وان الهدف الرئيس وراء زيارة بارزاني، هو لاستحصال المكاسب ونيل اكثر عددا من المناصب في الحكومة لحزبه".

قد لا تختلف كثيراً مواقف القوى الكردية الأخرى، مثل الجماعة الاسلامية، والاتحاد الاسلامي الكردستاني، وحراك الجيل الجديد، حيال زيارة البارزاني لبغداد وكذلك عموم مواقفه وتوجهاته، عن مواقف حزب الطالباني وكوران.

الى جانب ذلك، تثير المحاولات والمساعي الكردية، لاسترجاع كركوك وبسط السيطرة عليها مجددا، حفيظة أطراف عربية وتركمانية مختلفة، وهو ما جوبه به البارزاني من قبل بعض من التقاهم في بغداد والنجف.

ومعلوم أن الأطراف العربية والتركمانية، تعد عودة الهيمنة الكردية على كركوك خطا أحمر، لا يمكن بأي حال من الاحوال حتى النقاش والبحث فيها، ناهيك عن قبولها، وفي هذا السياق، أعلنت الهيئة التنسيقية العليا لتركمان العراق، قبل ايام قلائل، رفضها القاطع لعودة قوات "البيشمركة" و"الأسايش" الكردية إلى كركوك، مؤكدة بأن المؤسسات الأمنية الاتحادية هي المسؤولة عن إدارة الملف الأمني.

وفي وقت سابق، كان المجلس العربي في كركوك، قد أعلن رفضه القاطع لعودة قوات البيشمركه والاسايش الكردية مجددا الى المدينة، معتبراً أن مثل تلك الخطوة، يمكن أن تدفع من جديد المدينة الى دوامة الفوضى والاضطراب والعنف.  

وجاء البارزاني الى بغداد، وهو -باعتباره مازال يمثل الشخصية السياسية الكردية الاكثر تأثيرا وحضورا- مثقلاً بديون تقدر بمليارات الدولارات لشركات ومؤسسات اجنبية، ناهيك عن الاستحقاقات المالية الباهظة لمئات الآلاف من الموظفين والمتقاعدين، وكذلك العشرات من رجال الاعمال والمستثمرين، الى جانب عموم الأوضاع والظروف الاقتصادية المرتبكة في الاقليم منذ حوالي خمسة أعوام.

وطبيعي أن هناك عوامل وظروفا بعضها داخلية، وبعضها الآخر خارجية، ساهمت بنسب متفاوتة في رسم وصياغة الصورة المضطربة والقلقة الراهنة للمشهد الكردي، وهو ما يعني أن عملية الاصلاح والترميم، تتطلب تهيئة أرضيات ومناخات ملائمة، واتخاذ خطوات ومبادرات سليمة، وبالتالي خلق وايجاد أجواء وظروف ايجابية تمهد لتصحيح المسارات الخاطئة.

ولا يختلف اثنان في أن القطيعة والتصعيد الاعلامي والسياسي، من شأنه أن يعقد ويأزم الامور، ويقلص فرص التوصل الى حلول واقعية وعملية للمشاكل والازمات القائمة، ولايختلف اثنان على حقيقة أن التأزم بين بغداد واربيل لاتقتصر انعكاساته السلبية على الاقليم، بل انها تمتد بشكل أو بآخر على عموم الواقع العراقي، وكذلك لايختلف اثنان على أن الأكراد يشكلون مكوناً أساسياً من غير الممكن تجاوزه واهماله وتجاهله مهما كان مستوى وطبيعة الخلافات والتقاطعات معه.

وبصرف النظر عن مشروعية أو عدم مشروعية الطموحات والمشاريع الاستراتيجية للأكراد، وبصرف النظر عن مدى الاحتقانات والتشنجات الكردية والعربية المتبادلة جراء تراكمات المواقف والممارسات والسلوكيات السلبية الخاطئة من هنا وهناك، فإنه من المهم بمكان استثمار استحقاقات ومتطلبات المرحلة الراهنة، ومن ثم التقدم الى الامام.

ومع أهمية وضرورة الزيارات والمباحثات والحوارات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم بمختلف المستويات، الا أن زيارة  البارزاني تبقى -مع كل الجدل المثار حولها- تحظى بأهمية غير قليلة، لاسيما وأنه يفترض أن تكون كل الملفات قد فتحت، وكل الاشكالات قد أثيرت، وكل الحلول والمعالجات قد طرحت، وبقدر ما تنتظر اربيل من بغداد، مبادرات وخطوات عملية لحلحلة الأمور، فإن المطلوب أيضا من أصحاب القرار في الاقليم أن يتصرفوا بوضوح وبواقعية أكبر، فضلاً عن حاجتهم الى لملمة أطراف البيت الكردي، لأنه من دون ذلك سيكون الحوار مع بغداد منقوصاً وغير مجدياً بما فيه الكفاية.

شيء جيد أن تنطلق تصريحات من أعلى مستويات القرار الكردي بدعم الحكومة الاتحادية الجديدة برئاسة عادل عبد المهدي، الذي تربطه علاقات صداقة تاريخية مع كبار القادة والساسة الأكراد، وشيء جيد أن تلوح اشارات ايجابية عن الاستعداد لمعالجة واحتواء الخلافات والتقاطعات بين بغداد واربيل تحت سقف الدستور، بيد أنه ينبغي ادراك حقيقة أن حجم التعقيد والتشابك وتباين الأولويات، وتراكمات السلبيات والأخطاء، يتطلب وقتاً طويلاً لاعادة بناء الثقة، وتصحيح المسارات الخاطئة، وضبط السياقات السائبة.  

ولعله من غير الصحيح أن نتساءل سريعا ماذا حققت زيارة البارزاني لبغداد، بقدر ما يفترض أن نتساءل، ماذا بعد تلك الزيارة، التي ربما كانت بمثابة القاء حجر في بركة مياه راكدة!

2018-11-24