ارشيف من :نقاط على الحروف

مصر.. والدرس الروسي

مصر.. والدرس الروسي

صندوق النقد الدولي، أو "صندوق النكد الدولي"، كما يصفه الشارع المصري، ويبدو فيه المواطن صاحب بصيرة تفوق رؤية المسؤولين الحكوميين قليلي الكفاءة والموهبة، في آن، مستمر في فرض شروطه وأوامره على صانع القرار المصري، خلال سنة رابعة من الإصلاح الاقتصادي، أو هكذا يزعمون.

الربط بين الصندوق والنكد أو الخراب ليس شططًا شعبيًا، تغذيه عداوة الوطن، أو هو رد فعل من أجيال لا تريد التضحية، بلا هو خبرة متراكمة من التعامل مع مؤسسات المال الغربية، التي لا تدخل بلدًا إلا وصاحبها المعاناة المستمرة، وخلقت من الأزمات أضعاف ما كان موجودًا، وضخمت المشاكل إلى كوارث، ثم تركت البلد الضحية عاجزة لا تقوى على الحراك.

وبسبب الهيكل الاقتصادي المشوه في بلدان العالم الثالث، ومصر جزء منه، فإنها تتأثر بالاضطرابات النقدية العالمية في صورة زيادة العجز في موازين المدفوعات، واستنزاف الاحتياطيات الدولية، واستيراد التضخم، وانخفاض حجم التدفقات الميسرة والمعونات الإنمائية، وتدهور أسعار الصرف والوقوع في فخ الديون الخارجية، ونتائجها الكارثية.

فعل الصندوق هذا بورقة بسيطة، في كل الدول التي أوقعها حظها وغياب الخيال لدى حكوماتها في براثنه، روشتة من 4 بنود، قد تتغير أولوياتها أو درجات أهميتها، لكنها شبه ثابتة، وهي: رفع الدعم عن طريق زيادة أسعار الطاقة، وتكاليف الخدمات العامة، وتطبيق إصلاح ضريبي يشمل تطبيق ضريبة القيمة المضافة، والبند الثاني تقليص أعداد موظفي القطاع العام، وتقليل الرواتب الحكومية كنسبة مئوية من ميزانية البلاد، والثالث هو تطبيق نظام سعر الصرف المرن ليعكس القيمة الحقيقة للجنيه، والرابع هو خصخصة الشركات والبنوك المملوكة للدولة، لرفع يد الدولة تمامًا عن التدخل في السوق المحلية.  

العناصر الأربعة لخطة الصندوق، في الحالة المصرية، التي نضجت كفاية للحكم عليها، قوضت الدور الرئيس للدولة كما نعرفها، فباتت تحت حكم طبقة من رجال أعمال المرتبطين والمرتهنين لمصلحة أرباحهم وارتباطاتهم بالسوق العالمية، وهي طبقة بدأت التغلغل في مصر، منذ الدخول الأخطر للصندوق، في عهد أنور السادات، ودمغت بالفساد والتحايل لمراكمة أرباح، بفعل تحالفات السلطة والمال، واستمرت في انتزاع السيطرة من الدولة على القطاعات كافة، من الأغذية إلى الإعلام، ومن المقاولات إلى الصحة والتعليم.

الحقيقة الأكثر وضوحًا في قصة صندوق النقد الدولي، أنه لم ينجح على الإطلاق في إنقاذ أي دولة استعانت بخبرائه، روسيا ـ كمثال ـ في التسعينات، حين جربت وصفة الصندوق، وأعلنت تحرير 90% من أسعار التجزئة والجملة، وتحرير التجارة الداخلية والخارجية، نتج عنها فورًا تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 18%، وارتفاع أسعار السلع 26 مرة عما كانت عليه، ومع انخفاض الإنتاج وارتفاع معدلات التضخم أدى ذلك إلى أزمة كبيرة، فاضطرت الشركات إلى أن تتعامل بالمقايضة، مع معاناة المواطنين من تدهور المستوى المعيشي وضياع مدخراتهم المودعة وانخفاض قيمتها بشكل كبير، رغم وصول القروض إلى 20 مليار دولار.

وقررت الحكومة الروسية في حينها بيع الأملاك العامة في الشركات والوحدات الإنتاجية الضخمة، المقدرة بأكثر من 200 مليار دولار مقابل 7 مليارات دولار فقط، واستمر تراجع قدراتها الإنتاجية ليبلغ نحو 27% بنهاية العقد، وأدت سياسة تحرير سعر صرف العملة خلال عقد التسعينات إلى تراجع قيمة العملة الوطنية بصورة حادة ومستمرة من 170 روبلا مقابل الدولار عام 1991، لتصل إلى نحو 6000 روبل مقابل الدولار أوائل عام 1998، وتم إصدار روبل جديد يساوي ألف روبل قديم، فأصبحت قيمة الدولار قرابة 6 روبلات أوائل عام 1998، ثم هبط سعر صرف العملة الروسية إلى 29 روبلا مقابل الدولار أوائل أيار/مايو 2000.

النجاح الكبير للصندوق، في التخريب الممنهج، كشفته أرقام الإنتاج الروسي في التسعينيات أيضًا، تحت حكم بوريس يلتسن، غربي الهوى، حيث نجح الصندوق في تحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد سوق، خلال سنوات قليلة، وأصبح أكثر من 50% من الناتج القومي الإجمالي ينتج بالفعل خارج نطاق قطاع الدولة بحلول ربيع عام 1994، كما أصبح نحو 60% من العاملين يعملون خارج المؤسسات الحكومية بحلول نهاية 1993، ولكن الثمن الفادح لهذه السياسة كان انهيار الإنتاج، فتراجع الناتج القومي الإجمالي إلى أقل من النصف خلال السنوات من 1991 إلى 1994 فقط، وكانت النتيجة المنطقية لاستمرار هذه السياسات هي استمرار التراجع الاقتصادي الحاد طوال التسعينيات.

الإصلاح الروسي الحقيقي، الذي بدأه الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، ارتكز على إعادة تشغيل المصانع، وإعطاء دفعة للقطاع العام، وتنشيط مصادر العملة الأجنبية بزيادة صادرات البترول والأسلحة، ما مكن روسيا في النهاية من مناطحة الولايات المتحدة وعبور العقوبات الاقتصادية الأميركية عليها، بدون خسائر كبيرة نسبيًا.

"الروشتة" الوطنية لدولة تريد وترغب في إصلاح حقيقي، ليس الارتهان لمؤسسات السيطرة العالمية، ولن يكون، لكنها أولًا بالسيطرة الكاملة على موارد الإنتاج الوطني، وحشد الموارد وتعبئتها، للوصول لأهداف واضحة، على رأسها الخروج من أسر السوق العالمية باعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي، وهذه السياسة وحدها كفيلة بالخروج من حالة "التيه الممتد" التي ترزح تحت وطأتها البلد المنكوب.

2018-11-24