ارشيف من :مقالات

ويحمّلون حزب الله وزر الإنهيار الاقتصادي!!

ويحمّلون حزب الله وزر الإنهيار الاقتصادي!!

ثمّة رسائل ابتدعها البعض من "بنات أفكاره" يُحاول تسويقها على أنّها حقيقة. رسائل مغرضة هدفها "تحوير" الحقيقة ووضع مسؤولية الانهيار الاقتصادي في ذمة حزب الله، تحت بدعة تعطيل تشكيل الحكومة. وكأنّ الضحك على العقول واستغباء الناس أمراً ميسوراً وبهذه الخفة والبساطة. ولو سلّمنا جدلاً أنّ التعطيل الحكومي هو من شلّ الاقتصاد، وأخذنا أولئك "الغيورين" على قدر عقولهم لا بل على قدر افتراءاتهم، وذهبنا الى حد القول بأنّ حزب الله هو من عطّل الحكومة، وبالتالي هو المسوؤل عن الانهيار الاقتصادي "الطارئ" على لبنان. وأجرينا "جردة" سريعة للسنوات "السمان" التي مرّت على لبنان منذ التسعينات حتى تشرين الأول وتحديداً حتى العاشر منه، حين أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في يوم الشهيد عدم المشاركة في حكومة لا تقف عند تمثيل نواب "اللقاء التشاوري". لو أجرينا مراجعة للنعيم الاقتصادي الذي مرّ على لبنان، والازدهار الواسع الذي شهده، سيتبيّن لنا حُكماً حبل الصدق من حبل الافتراء. 

ولحسن الحظ، فإنّ الأرقام الاقتصادية لا تحتمل التأويل، ولا التفسير تبعاً للمزاج والذوق السياسي الخاص. إنها وقائع ثابتة تماماً كقاعدة 1+1=2. ولا يخفى على أحد أنّ سجل الاقتصاد اللبناني حافل وعلى مدى عقود، بأرقام مخيفة تخطّت فيها المديونية خلال العام الحالي عتبة المئة مليار دولار، وتخطى فيها العجز حد العشرة بالمئة من الناتج المحلي، وحد الـ30 بالمئة من الموازنة العامة. وللأسف جاء النمو خجولاً جداً لم تلامس فيه النسبة حدود الـ2 بالمئة. هذه وقائع لم يخترعها حزب الله. البعيد يعرفها قبل القريب، ولا غبار عليها، باعتراف العديد من الخبراء الاقتصاديين. وقائع سمعنا في رحابها العديد من التحذيرات والتنبيهات منذ مطلع العام حتى ما قبل أزمة تأليف الحكومة، فيما يريد البعض التمسك بشماعة بعض المطالب المحقة وتحميلها وزر الانهيار الاقتصادي الذي يتحمّل هذا البعض جزءاً كبيرا من مسؤوليته!. وزر الانهيار الذي لم يكن وليد يوم ويومين، وشهر وشهرين، إنّه وليد عقود من السياسات الاقتصادية والمالية التي حكمتها العقلية "الريعية" منذ التسعينات وحتى اليوم، وفق ما يؤكّد الخبير الاقتصادي غالب بو مصلح لـ"موقع العهد الاخباري". 

يستغرب بو مصلح تحميل فريق معيّن مسؤولية الانهيار الاقتصادي في البلد، بينما الحقائق والأرقام واضحة وضوح الشمس منذ التسعينات حتى اليوم، ولا تحتمل الالتباس. برأيه، حتى ولو سرنا مع البعض بأنّ حزب الله هو من عطّل تشكيل الحكومة، فإنّ هذا الفعل لا يغيّر اطلاقاً بمسيرة الاقتصاد المتدهورة على مدى عقود. صحيح تشكيل الحكومة يرفع من المعنويات ويُشجّع على جذب الاستثمارات ويُحرّك العجلة، لكنّ ذلك لا يعني أنّ الاقتصاد انهار بين ليلة وضحاها، فهو ليس وليد البارحة، ولا علاقة لتشكيل الحكومة بالأزمة الاقتصادية البنوية الشاملة في لبنان لا من قريب ولا من بعيد. فالأزمة قديمة ـ وفق بو مصلح ـ وقد بدأت أولى بذورها مع وصول الرئيس الراحل رفيق الحريري الى السلطة التنفيذية واتباعه سياسات مالية ونقدية غير ناجحة ومحدودة، ومبينة على عقلية السياسات الليبرالية الجديدة التي شكّلت السياسة الرسمية للولايات المتحدة الأميركية منذ وصول المحافظين الجدد الى السلطة، الأمر الذي أنتج  مدرسة اقتصادية قائمة على ثورة الرأسمال على القوى العاملة ما أدى الى توزيع الناتج الاقتصادي لمصلحة رؤوس الأموال على حساب القوى العاملة ورواتبهم وأجورهم.

في لبنان، عمل الرئيس الحريري وفق عقلية الليبرالية الجديدة الإقتصادية، ما أنتج  حسب بو مصلح ثورة الرأسمال على القوى العاملة، فكانت هذه السياسة مقدّمة لشيوع اللامساواة، وتفشي الفوضى العارمة، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، والتي ترجمتها نسب البطالة المذهلة، والهجرة، وانخفاض معدل النمو الاقتصادي. بالنسبة للخبير الاقتصادي، فإنّ السياسات المتعاقبة غذّت البنية الاحتكارية للاقتصاد، في شكل غير مسبوق منذ التسعينات الى اليوم. ولعلّ من الأخطاء الفادحة ـ برأي بو مصلح ـ تمثلت في ربط  سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار. هذه مشكلة المشكلات منذ التسعينات حتى اليوم، فسعر صرف الدولار غير ثابت ويتغيّر تبعاً لأهواء واشنطن وحاجاتها، ما فاقم الأزمة الاقتصادية، وزاد مؤشر الانحدار. على سبيل المثال، في التسعينات اعتمدت واشنطن على الدولار القوي، وارتفع سعر الصرف الحقيقي لليرة، وارتفعت حكماً القدرة الشرائية للسلع المستوردة بنسبة مئة في المئة، ما شكّل كارثة طالت بشكل كبير أصحاب الدخل المحدود، ووصل بنتيجتها معدّل الناتج المحلي الاقتصادي الى الصفر نهاية التسعينات. 

يشرح بو مصلح كيف تُشكّل عقلية الاقتصادي الريعي مشكلة المشكلات. فلبنان، وللأسف لم يعط أية أهمية للاقتصاد المنتج، وتمثلت هذه العقلية بزيادة الانفاق الحكومي الذي اعتمد بشكل كبير على الاستدانة والانفاق الجاري وليس التوظيفي. اتبعت الحكومات أسلوب انفاق غير مجد اقتصادياً، لا يولي أهمية للاستثمار، ما أدى الى نمو الفساد بشكل مطلق، وإجراء العديد من التلزيمات، والصفقات المشبوهة التي تمّت تحت عناوين متعدّدة والتي جمع البعض منها ثروات طائلة. تعطيل دور التفتيش المركزي زاد الوضع تفاقماً، وكان مهماً جداً للمضي قدماً في تلك الصفقات، تماماً كما تكبيل دور ديوان المحاسبة والحاقه بمجلس الوزراء، لتصبح تقاريره في الأدراج بلا أي مفاعيل. يوضح بو مصلح كيف أوصلنا الهدر في لبنان والانفاق العشوائي من قبل الحكومات الى ما نحن عليه الآن من انهيار اقتصادي، حيث  التمادي في الانفاق وتخطي السقف المسموح في الموازنة، بلا رقيب ولا حسيب، ما أدى الى تنامي الدين العام بشكل هائل، وانتشار الفوضى، ليسجّل لبنان سوابق في العديد من الاتجاهات. ولعلّ غياب الموازنة 11 عاماً كان أبرزها. وهنا يلفت بو مصلح الى أنّ الحريري الأب جعل 90 بالمئة من الموازنة كإنفاق جار، بينما المنطق الاقتصادي يفرض تقسيم الموازنة الى ثلاثة أقسام: انفاق جار، انفاق توظيفي، واستثماري.  

يعرض بو مصلح  ـ بصفته خبيراً عاصر مختلف الحكومات المتعاقبة منذ التسعينات حتى اليوم ـ، يعرض كيف كانت الاستدانة ديدن تلك الحكومات ونهجها الذي لم تمل منه. فرغم البيانات والتقارير التي لطالما حذّرت لبنان من المديونية إلا أنّ وجهة نظر البعض كانت بأن الاستدانة  ليست مهمة، المهم تكوين الثروات، وزيادة ربحية المصارف، وهذه العقلية جرى تدعيمها وفق بو مصلح عبر نهب القطاعات، وسط غياب واضح لأية سياسة مالية منتجة، فيما غابت الرقابة، وعقلية التخطيط التي يجب أن تكون جزءاً أساسياً في جوهر بناء أي دولة، وانتشر شبح الفوضى والمحسوبيات والمحاصصة و"السمسرات" في كل حدب وصوب.  لتكون النتيجة على الشكل الآتي: مديونية "فظيعة"، فوضى اقتصادية عارمة، فساد مطلق، تعطيل لأجهزة الدولة الرقابية، احتكارات واسعة، وكل ذلك ويسألون لماذا اقتصاد البلد منهار؟، يختم بو مصلح.
 

2018-11-28