ارشيف من :مقالات

’السلسلة’..الدولة تقطع يدها وتتسوّل عليها

’السلسلة’..الدولة تقطع يدها وتتسوّل عليها

غالباً ما تُشعرنا الطبقة السياسية في لبنان أنّ المواطن رأس البلاء، وسبب كل ما هي عليه من مديونية وفشل. ليس بالضرورة أن يصدر المعنيون بياناً يقولون فيه ذلك. هم يُعلنون هذه الأفكار التي تدور في مخيلتهم عبر التدابير والقرارات التي يُصدرونها. يعلنون ذلك في منعهم أبسط الحقوق عن المواطنين لتأمين حياة كريمة. يعلنون ذلك في لامبالاتهم للمطالب المحقة. وغالباً ما يحل المواطن "كبش فداء" تستخدمه الدولة لتُنقذ موقفها المأزوم. طبعاً لأنّه الحلقة الأضعف في المعادلة. تماماً كما يحصل اليوم من تلويح بإيقاف مفاعيل سلسلة الرتب والرواتب أو تجميد نسبة منها أو حتى تأجيل العمل بها. أما الوضع الاقتصادي المزري فيتربع على عرش المبررات والذرائع. ما يجعل المواطن في حالة صدمة بعد معركة نضال طويلة خاضها منذ عام 1996 للحصول على هذه السلسلة. معركة تُوّجت حينها بما يُعد انتصاراً نادراً لصالح المواطنين. وربما هي المرة الوحيدة التي استعاد فيها المواطن ثقته بالدولة المفقودة منذ زمن. تلك الثقة التي لطالما اهتزّت بفعل السياسات "العوجاء" التي استخدم فيها المواطن "شماعة" لتمرير صفقات مشبوهة. 

ولعلّ أكثر ما يلفت في قصة "المواطن والسلسلة والدولة" أنّ الأخيرة تملك تاريخاً حافلاً من البذخ والصرف العشوائي في سبيل الوجاهات. فلا حرج في صرف جار يمنة ويسرة تنفقه الوزارات بلا وجه حق. بعض الوزراء إن لم نقل أغلبهم، لا يعجبهم أثاثاً ورثوه من "رائحة" وزير سبقهم، فيسارعون الى تكبيد ميزانية الوزارة مصاريف "بلا طعمة" لقاء تبديل أثاث على ذوقهم. هذه عينة بسيطة من الكرم اللامتناهي للطبقة السياسية والذي يتبخّر في رحاب المواطنين. أولئك عندما يصل الدور اليهم، تقطع الدولة يدها وتتسوّل عليها. وهذا ما حدث في ملف السلسلة، التي يجري التلويح بالمس بها، إنقاذاً للوضع الإقتصادي المنهار والذي ستُكبّده السلسلة الكثير وفقاً لرأي معارضيها المتمثلين بـ"كارتيلات" المال، وعلى رأسهم أصحاب العمل  والهيئات الاقتصادية الذين هرولوا الى القصر الجمهوري منذ فترة للتحدث عن عواقب "السلسلة" الوخيمة على الاقتصاد!. 

بعض الوزراء إن لم نقل أغلبهم، لا يعجبهم أثاثاً ورثوه من "رائحة" وزير سبقهم، فيسارعون الى تكبيد ميزانية الوزارة مصاريف "بلا طعمة" لقاء تبديل أثاث على ذوقهم

وفيما يجري تضخيم لكلفة السلسلة، قطع وزير المال علي حسن خليل الطريق على كل ما قيل ويقال في هذا الصدد، مشدداً على أنّ كل الارقام التي جرى التداول فيها حول زيادة الكلفة مَغلوطة وغير دقيقة. بالنسبة اليه، فإنّ وزارة المال هي المعنيّة مباشرة بهذه الارقام وحقيقتها، ولا تعنيها أي مزايدات أو حملات تضخيم للأرقام والأعباء. وذلك في مخطط مدروس لمحاصرة هذه السلسلة التي لم "يبلعها" البعض وإسقاطها. فهذا البعض يسعى جاهداً لتصوير إلغاء السلسلة على أنه المنقذ الوحيد والخيار الأوحد أمام الدولة التي لن تستطيع تمويلها بسبب الانهيار الاقتصادي، بينما واقع الأمور مختلف تماماً، وأمام الدولة ألف باب وباب لتمويل أكثر من سلسلة، ولتحسين وضع ميزانيتها، وفق ما يؤكّد رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر الذي لا يرى في مطالبات المس بالسلسلة سوى حرباً استباقية من قبل المصارف والهيئات الاقتصادية الذين يبدو أنهم نجحوا في إخضاع الدولة لهم. فالمطالبات -برأي الأسمر- ليست سوى ذر الرماد في العيون للتغطية على الفوائد الكبيرة الهامة التي تجنيها المصارف من استدانة الدولة اللبنانية، وقطع الطريق على أي تفكير بتصحيح الأجور في القطاع الخاص الذي يعاني ما يعانيه من مظلومية في بلد أضحى فيه حدان للأجور (950 الفا في القطاع العام و675 الفا في القطاع الخاص). 

وفي حديث لـ"موقع العهد الإخباري"، يستغرب الأسمر كيف تلاحق الدولة المواطنين في لقمة عيشهم، بينما يجري الاستهتار بملف "التهرب الضريبي" من قبل المؤسسات والشركات وأصحاب العمل الذين هم جزء أساس من السلطة ولديهم تهرب ضريبي هائل، أشارت اليه العديد من التقارير الدولية. آخرها قدّرت التهرب بثلاث الى أربع مليارات دولار سنوياً. رقم كبير جداً برأي الأسمر، وهذا الرقم يكفي لتمويل أكثر من سلسلة. يستغرب المتحدّث التراخي الرسمي الحاصل حيال حِيل البعض في استخدام سياسة الدفترين، الأمر الذي يستدعي تحقيقاً واسعاً. أكثر من ذلك يشرح الأسمر كيف قامت الدنيا ولم تقعد من قبل المصارف والشركات والمؤسسات، لدى سعي وزير المال لتطبيق القانون 173 لسنة 2000 والذي يقوم على فرض الضريبة المقطوعة، والتي تتراوح من 550 الفا الى مليونين سنوياً. كثر رفضوا تطبيق القانون وتذرعوا بالازدواج الضريبي. يضرب رئيس الاتحاد العمالي العام مثالاً آخر يتمثل في شركات "الاوفشور" التي تدفع في أسوأ الحالات مليون ليرة كضريبة سنوية، وهو رقم لا يساوي شيئاً مما يجب أن يكون عليه الحال، كدليل واضح على أنّ لبنان أصبح ملاذاً للتهرب الضريبي. 

 

’السلسلة’..الدولة تقطع يدها وتتسوّل عليها

 

يستغرب الأسمر كيف تُعمى أبصار السلطة السياسية عمن يتهربون ضريبياً، وتعمل لاسترداد السلسلة من أيدي المواطنين قبل أن تصل الى جيوبهم. أولئك الذين يدفعون ضريبة تصل حد العشرين بالمئة. يطرح رئيس الاتحاد العمالي العام فكرة يرى فيها مساهماً لحل الأزمة الاقتصادية تتمثل  بمساندة المصارف للدولة في محنتها، عبر خفض نسب الأرباح، وإعادة جدولة الديون في قروض طويلة الأجل، وهي التي جنت مليارات الدولارات من اقتراض الدولة منها على مدى عشرات السنين. وفق حسابات الأسمر، فإنّ المصارف استفادت بنحو 6 مليارات دولار وعلى مدى سنتين، بينما يغص البعض في السلسلة التي تكلف ما بين المليار ونصف الى مليارين سنوياً!. يُعرّج أيضاً على مزاريب الهدر في ملف الكهرباء الذي يكبد الدولة سنوياً ما يكفي لإنشاء معملين لتوليد الكهرباء. الحديث في هذا الصدد يطول، يقول الأسمر الذي يشدد على أنّ الدولة أخطأت في مقاربة الأمور بطريقة تمس بأوضاع عائلات تقارب 270 الف مستفيد من السلسلة، فالمقاربة -برأيه- يجب أن تكون مختلفة تماماً. 

حمدان: مشروع انتحاري

لا يجد الخبير الاقتصادي كمال حمدان حرجاً في وصف فكرة الغاء السلسلة أو تجميد جزء منها بالمشروع الانتحاري. برأيه، فإنّ الطبقة السياسية تتحمّل عدم قدرتها على التقدير الدقيق لأرقام كلفة السلسلة. فإذا كان البعض حينها حاول إخفاء الرقم الحقيقي لتوظيف خطوة "الإقرار" في الانتخابات النيابية، فليتحمل المسؤولية هو، وليس الناس الذين ليس لهم ذنب مطلقاً في كل ما حصل. يشدد حمدان على أن السلسلة مطلب محق، فالدولة مطالبة بتصحيح الأجور كل عام تماشياً مع مؤشر ارتفاع الاسعار وتكاليف الحياة. وللأسف بقيت السلطة لسنوات طويلة بلا أية خطوة تصحيح، وعندما صحّحت تريد العودة الى الوراء، وتتعامل مع المواطنين على قاعدة "أيتام في محضر اللئام"، وتتعامل معهم على أنهم الحلقة الأضعف، لتحملهم مسؤولية الأوضاع الاقتصادية المزرية والمديونية، بينما الواقع والارقام تقول عكس ذلك. فالدين العام زاد 20 مليار دولار بين عامي 2012 و2017، وحينها لم يكن هناك سلسلة.

 

’السلسلة’..الدولة تقطع يدها وتتسوّل عليها

 

يتوسّع حمدان في الحديث عن الفساد الذي ينخر هيكل النظام، والسياسات العامة للدولة التي لا يسبقها أحد في العالم على الهدر والصفقات المشبوهة، فضلاً عن العقود التي لا تمر بالمناقصات النظامية، والملفات الجاهزة لتلزيم بناء مصانع جديدة منذ سنوات، لكنها قيد الأدراج. يتحدّث حمدان عن الهدر في قطاع الكهرباء، والعجز السنوي الذي يسجله هذا الملف. عن دهاليز الصرف العشوائي وبلا وجه حق في الادارات والمؤسسات العامة. لا يكف حمدان عن الحديث حول سياسات الدولة "العوجاء" ليقول بأنّ السلسلة التي هي مطلب حق، ضاقت في عين السلطة السياسية بذريعة تكلفتها التي لا تُساوي ربما تكلفة مزاريب الهدر المفتوحة في بعض المؤسسات. 

2018-12-01