ارشيف من : 2005-2008

المأزق الأميركي في أفغانستان

المأزق الأميركي في أفغانستان

القصف الجوي الأميركي وهجوم تحالف الشمال على العاصمة، لا تزال حركة "طالبان" تمتلك القدرة العسكرية على إلحاق الأذى بالقوات المتعددة الجنسيات.‏

فبعد مرور شهر من إحكام السيطرة على المنطقة الجنوبية لأفغانستان فوجئ الحلف الأطلسي يوم الأربعاء 6 أيلول/ سبتمبر "بالهجوم العسكري التي تخوضه طالبان في مقاطعة غرمسار في ولاية هلمند، النادر في شراسته. وهو أقوى بما لا يقاس مقارنة مع المعارك الدائرة في العراق".‏

فهذه المقاطعة سيطرت عليها حركة طالبان في تموز/ يوليو الماضي، ثم استُردت من قبل 1000 جندي أميركي وبريطاني وكندي، بعد أن ساندهم في ذلك الطيران الأفغاني.‏

إن سلوك قوات حركة طالبان وأنصارها يتبع تحركا مزدوجا: اللجوء المتزايد إلى العمليات الانتحارية والقدرة على التعوّد على الحرب في مواجهة القوات الدولية الغربية.‏

فالعمليات الانتحارية التي تشكل أسلوبا يبدو للوهلة الأولى بعيدا كل البعد عن العقلية الأفغانية، تعتبر دليلا قويا على تأثير وخبرة على الأرجح مستوردين من العراق، حسب قول خبير عسكري غربي.‏

فالمقاتلون من حركة طالبان يستخدمون من الآن فصاعداً بصورة منتظمة أدوات تفجير ارتجالية.‏

ففي أفغانستان يوجد كل شيء في ما يتعلق بالمتفجرات من البسيط إلى المعقد، مثل الحزمات الضوئية تحت الحمراء التي تطلق الانفجار متأخرا في وسط رتل من السيارات.‏

ويرى الخبراء الأجانب الذين زاروا أفغانستان مؤخرا، أن عناصر طالبان تلقت تدريبات عسكرية على هذا النوع من التفجيرات في صراعات أخرى (في العراق و الشيشان).‏

على الصعيد التكتيكي تقوم حركة طالبان بهجمات بأعداد متزايدة من مقاتليها (من 20 الى 100) مستخدمة طرائق قتالية متطورة، بعد أن أعادت تجميع صفوفها عقب الحرب الأميركية الخاطفة التي سمحت للطالبانيين بأن يعاودوا الذوبان في قراهم وبيئتهم المحليّة على جانبي الحدود الأفغانيّة ـ الباكستانيّة، التي مكنتهم من الانتشار الواسع في حصنهم الاجتماعي القبلي ـ الإثني، الأمر الذي حال دون تحديد سلاحهم ومسلّحيهم.‏

ويعزو المحللون الغربيون معاودة اندلاع العمليات العسكرية من جانب حركة طالبان لعدة عوامل:‏

1 ـ إن النجاحات السياسية المسجلة في كابول لم تترجم على الميدان في ظل تعمق اتساع الهوة بين الأجندة السياسية التي وضعت في عام 2001 عقب مؤتمر برلين والإصلاحات المرجو تحقيقها. فالرئيس الأفغاني حميد قرضاي الذي انتخبه الأفغان بنحو 55% ولقي مساندة من الخارج، أخفق في بناء فريق وزاري وإدارة يتمتعان بالكفاءة والفعالية والصدقية.‏

فالغرب يساند في أفغانستان سلطة متهمة بالفساد والمحسوبيّة اللذين اتسمت بهما حكومة قرضاي حتى الآن، بل هي مرتبطة بتجارة المخدرات.‏

2 ـ إن الوعود الغربية لا سيما من جانب واشنطن، التي وعدت بها الحكومة الأفغانية الجديدة، ظلت حبرا على الورق.‏

فالمجتمع الدولي يتحمل مسؤوليته في تردي الأوضاع في أفغانستان، ما دامت الجهود التي وافق عليها لم تكن في مستوى احتياجات بلد دمرته سبع وعشرون سنة من الحروب المستمرة، وهو عجز عن توفير الأدوات الأمنيّة اللازمة التي تتطلّبها حكومة حميد قرضاي.‏

وبدوره انعكس التردّي هذا إبطاءً لبرامج التنمية في أفغانستان، إذ يموت ربع الأطفال قبل أن يبلغوا الخامسة. واستطراداً بقيت الحكومة المركزيّة غائبة عن معظم البلد، فيما أمسك بالزمام خليط من أمراء حرب وميليشيات وعصابات جريمة، أكثرها موصول بطرق إمداد الأفيون وتوزيعه.‏

3 ـ إن الولايات المتحدة الأميركية ارتكبت في أفغانستان الأخطاء عينها التي اركبتها في العراق: استراتيجية مخصصة بالكامل "للحرب ضد الإرهاب" بدلا من إعادة الإعمار، فضلا عن موقف فظ من جانب جيشها: الاعتقالات التعسفية، والتعذيب المبرّح للمساجين وإهانتهم، فضلا عن الجهل أو الاحتقار للثقافة المحلية. ويضاف إلى ذلك أن الجيش الأفغاني الذي تلقى تدريبات من قبل الخبراء العسكريين الأميركيين والفرنسيين لا يزال متهيبا من شن عمليات عسكرية خارج حدود العاصمة كابول.‏

4 ـ إن باكستان التي أسهمت في "نشأة" حركة طالبان لم تفعل الكثير من أجل وضع حد لنشاط الطالبانيين على أراضيها. وهكذا آلت السلطة الفعليّة في بضع مناطق حدوديّة إلى "طالبان" أنفسهم، فيما ظلّت مساهمة الجيش الباكستانيّ في مطاردتهم ضعيفة محدودة.‏

ففضلاً عن عواطف الأجهزة الباكستانيّة المعروفة والروابط البشتونيّة العابرة للحدود، تردّد الرئيس برويز مشرّف ويتردّد في الظهور بمظهر "رجل واشنطن"، بينما الحركات الأصوليّة تتزايد قوّةً ونفوذاً في بلده.‏

وبرغم تأكيد إدارة الرئيس بوش رغبتها في إنجاح حميد قرضاي، فإن وزارة الدفاع الأميركية لم تعمل فقط على منع توسيع "قوّات المعونة الأمنيّة الدوليّة" ISAF التي ستتولى أمن المناطق الجنوبيّة المضطربة، ومن بعدها المناطق الشرقيّة من القوّات الأميركيّة، وهو يعني أن "قوّات المعونة..." التي تشارك فيها 36 دولة بقيادة "الناتو" ستضاعف عدد جنودها ليصل إلى 18 ألف جندي، فيما يتقلّص في المقابل عدد الجنود الأميركيين من 19 ألفاً إلى 16.500، بل دكّت النظام الجديد من خلال التمويل والتسليح لأمراء الحرب من جميع الأنواع القادرين اليوم على مقاومة السلطة المركزية. ففي جلال أباد وغارديز حيث المليشيات المحلية تتنازع السيطرة، ما زال البنتاغون يدعم المعارضين لقرضاي.‏

إن التدخل العسكري الأميركي المباشر في الحرب لن يزيد سوى الكراهية من جانب الشعب الأفغاني للولايات المتحدة الأميركية، التي تتسبب بها سياستها المتغطرسة والرعناء، وتزيل أي تعاطف مع أميركا نشأ عن إبعاد "طالبان" من السلطة، كما يعزز قوة الحركات الإسلامية الجهادية والمتطرفة في باكستان وأفغانستان، أمثال تنظيم القاعدة إلى تنظيم قلب الدين حكمتيار اللذين هم أول من سهّل وصول "طالبان" إلى السلطة، وهم الآن يسهّلون عودتها على خشبة المسرح السياسي الأفغاني بوصفها القوة السياسية الرئيسة المقاتلة للوجود الأميركي في أفغانستان.‏

ومما يزيد الطين بلّة أن تجارة المخدرات أصبحت رب العمل الرئيس في أفغانستان، بما أنها أصبحت مصدرا كبيرا لرؤوس الأموال والقاعدة الرئيسة لها. فقد تحولت البلاد إلى دولة مصدرة للمخدرات كما كانت قبل خمس سنوات في ظل حكم طالبان، أي قبل الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها ضد تنظيم القاعدة.‏

وتظهر الأرقام المقدمة من قبل مدير مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة أنطونيو ماريا كوستا إخفاق المجتمع الدولي على هذا الصعيد، والحال عينه على صعيد الأمن.‏

فإنتاج المخدرات ازداد بنحو 49% في عام 2006، أما الأراضي التي تنتج الخشخاش فقد ازدادت مساحتها بنحو 59%. وقد بلغ الإنتاج في العام الحالي نحو 6100 طن، مقابل 4565 طنا في عام 1999 تحت حكم طالبان.‏

وتمثل أفغانستان 92% من الإنتاج العالمي للخشخاش، والقسم الأكبر من الهيرويين المنتج من الخشخاش الأفغاني يباع في آسيا وأوروبا.‏

وتعود المسؤولية في ذلك إلى عجز المجتمع الدولي عن إعادة تحقيق الأمن وتطبيع الاقتصاد وتنظيم آلية جيدة لعمل الأسواق الزراعية.‏

ويكشف لنا هذا المشهد المرعب عن المأزق الذي تجد الولايات المتحدة الأميركية نفسها ومعها المجتمع الدولي فيه، بعد خمس سنوات من الغزو لأفغانستان.‏

الانتقاد/ العدد 1181 ـ 23 أيلول/ سبتمبر 2006‏

2006-09-27