ارشيف من : 2005-2008

عدم الانحياز: عودة بدماء جديدة

عدم الانحياز: عودة بدماء جديدة

وإذا كانت الحركة قد اختطت لنفسها، منذ البداية، مع أمثال عبد الناصر وتيتو ونهرو وسوكارنو وسيكوتوري ونكروما وشو إن لاي، طريق التحرر الوطني، فقد دخلت في تناقض مباشر مع الاستعمار بشكليه القديم والحديث، ما جعلها تتقارب بشكل ملموس، من خلال فكرة الحياد الإيجابي، مع المعسكر الشيوعي، النقيض الجذري للرأسمالية الغربية الزاحفة.‏

ولكن بدء انهيار المعسكر الشيوعي منذ السبعينات، الذي ترافق مع تصاعد الهجوم الغربي على العالم الثالث، لم يلبث أن حول حركة عدم الانحياز إلى حركة انحياز طوعي أو قسري للمعسكر الغربي. قارنوا مثلاً بين ما كانت عليه أوضاع مصر وإندونيسيا ويوغوسلافيا والهند وغانا وغينيا قبل أربعين عاماً، وبين ما وصلت إليه أوضاعها في السنوات الأخيرة من تبعية شبه مطلقة للولايات المتحدة الأميركية، ومن تراجع عن المشروع التحرري على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية.‏

وقد عنى هذا التحول إفراغ مجموعة عدم الانحياز من مضمونها التحرري وتحويلها إلى مجرد منظمة شكلية غير فاعلة وغير قادرة على اتخاذ أدنى القرارات المؤثرة على مستوى المشكلات الدولية. لكن المنظمة التي عقدت مؤتمرها الأخير في العاصمة الكوبية هافانا بدت وكأنها تستعيد لهجتها القديمة وتتحفز للانطلاق في حياة جديدة. بدا ذلك واضحاً في ولادة التحالف بين إيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا لنصرة القضايا المشتركة، وفي مقدمتها دعم حق إيران بامتلاك الخبرة النووية. والقاسم المشترك بين البلدان الأربعة أن كلاً منها يخضع لتهديد أميركي مباشر في قضايا النووي والحصار الاقتصادي والسياسي. وبتأثير هذا التحالف الذي تتمتع أطرافه بأكثر من مصدر قوة، على مستوى الطاقة النووية السلمية في إيران، والعسكرية في كوريا، والنفطية في إيران وفنزويلا، إضافة إلى ما تمثله كوبا من قوة رمزية كعضو أصيل وأمين لمبادئ عدم الانحياز بصيغتها الأولى، ومن موقعها الذي بات تاريخياً في الحفاظ على وجه أميركا اللاتينية المعادي للهيمنة الأميركية، استطاع المؤتمر أن يناقش ملفات ساخنة، وأن يتخذ تجاهها مواقف يمكن وصفها بالجدية وحتى بالثورية.‏

من قبيل ذلك، إضافة إلى الموقف من الملف الإيراني، انتقاد العدوان الأميركي ـ الإسرائيلي الأخير على لبنان، ورفض التفرد الأميركي ومعارضة الإجراءات القمعية وحقوق التدخل والحروب الاستباقية في البلدان الأخرى، والطروحات الأميركية الهادفة لتغيير الأنظمة الحاكمة في هذا البلد أو ذاك. وفي هذا الإطار أدان وزير الخارجية الكوبي، فيليب دوك، محاولات واشنطن لاحتكار التكنولوجيا النووية وتزويدها "إسرائيل" بالأسلحة المتطورة واستخدامها الفيتو لمنع مناقشة الجرائم الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان. كما انتقد النفاق الأميركي في ما يتعلق بمسألة الإرهاب الذي تلصقه بحركات المقاومة المشروعة ضد الاحتلال، في حين تعمد "إسرائيل" إلى قتل الأطفال دون أن تطلق عليها صفة الإرهاب.‏

وقد اشتمل البيان الختامي للمؤتمر، برغم كونه يضم العديد من البلدان المرتبطة بأميركا، على عدد من القضايا الصريحة في رفض السياسات الأميركية. فقد انتقد مكتب التجسس الذي استحدثه الأميركيون مؤخراً لمراقبة كل من كوبا وفنزويلا، وأعلن رفضه للمحاولات الأميركية لزعزعة الاستقرار في بوليفيا، وأدان استمرار الحظر الأميركي المفروض على كوبا منذ العام 1962، في تناقض صريح مع الشرعة الدولية، وندد بالعدوان الإسرائيلي وأشاد بالمقاومة، مع دعم القضية الفلسطينية، وشجب اعتقال ممثلي السلطة المنتخبة ديموقراطياً، مؤكداً ضرورة إحياء عملية السلام من خلال الأسرة الدولية واللجنة الرباعية. كما سمح المؤتمر بتحقيق تقدم عبر اتفاق هندي باكستاني لاستئناف الحوار حول كشمير.‏

والواضح أن هذه القرارات تذهب في معظمها في اتجاه معاكس للسياسات الأميركية. لكن ما قد يكون أكثر أهمية من ذلك هو ما فتحته القمة من آفاق أمام ولوج العالم الثالث إلى موقع المشاركة الفعلية في صنع القرار الدولي وربما أيضاً، فيما لو سارت الأمور في الاتجاه المطلوب، إلى موقع المحور الدولي القادر على إعادة التوازن إلى العلاقات الدولية التي حولتها الولايات المتحدة إلى حقل خصب لخدمة مصالحها الاستراتيجية على حساب مصالح الشعوب المقهورة والمستضعفة.‏

ع.ح‏

الانتقاد/ العدد 1181 ـ 23 أيلول/ سبتمبر 2006‏

2006-09-27