ارشيف من : 2005-2008

الصوم مزرعة قِطافُها التقوى

الصوم مزرعة قِطافُها التقوى

الموت أم وقع الموت علينا".‏

وعلى العكس من ذلك تجد الجبان المستسلم الذي يخاف من ظله وينزعج من أطياف منامه وينهار أمام أقل خطر محتمل.‏

وترى في الناس العالم الشغوف بحب العلم، المتعطش للمعرفة، الذي يبذل ساعات عمره وطاقات جهده في سبيل العلم والمعرفة.. وفي المقابل ترى الجاهل الذي يسأم الدراسة ويتهرب من العلم والثقافة.‏

وفي الناس الشخصية الرزينة المتسامية عن الإغراءات والشهوات، وفيهم الشخصية الحيوانية المائعة التي تسقط لأبسط إغراء وتنزلق عند أقل شهوة.‏

تُرى ما هو سبب اختلاف الناس في كل ذلك؟‏

هل هناك فارق جسدي سبّب لهم هذا التفاوت؟‏

هل الظروف والأجواء المعيشية والاجتماعية هي التي تفرض هذا الاختلاف؟‏

إنه لا هذا ولا ذاك، وإن كل ما تقدّم ذكره ليس أكثر من عوامل مساعدة. أما السبب الرئيسي في صياغة شخصية الإنسان وتحديد مواقفه فليس شيئا من خارج "نفس" الإنسان، وإلا لما كانت للإنسان أي قيمة حقيقية ما دام آلة بيد الأوضاع الخارجية المفروضة عليه، والتي لا يد له في صنعها. وحينئذ لا دور له إلا دور التنفيذ الذي لا يملك محيصا عنه. إذاً فلماذا يتوجه إليه الذم أو المدح وينال العقاب أو الثواب؟‏

إنما السر الحقيقي يكمن في أعماق نفس الإنسان ويقبع في داخله، انه تلك الملكة العظيمة والجوهرة السامية: الإرادة.‏

والإرادة تعني القدرة على التصميم والإصرار على تحقيق الهدف.‏

فالطالب الذي يريد الوصول إلى مستوى علمي ويصمم على بلوغ ذلك، لا بد من أن يجابه كل العوائق والظروف بصموده وإصراره، ويتحمل السهر والتعب والعناء والهجرة والفقر، إلى أن يصل إلى ما يصبو إليه بقوة إرادته.‏

والشعب الذي يواجه عدوا مستعمرا وتتحرك فيه إرادة التحرر ويصمم على ذلك، فإنه سيكون مستعدا للبذل والتضحية والعطاء حتى ينال الاستقلال والحرية.‏

والإنسان الذي يتعرض لإغراء الشهوة وبريق الانحراف إذا ما تنبهت لديه إرادة التقوى، فإن جميع وسائل الإغراء ودواعي الشهوة ستتحطم أمام صموده.‏

ولكن هل يختلف الناس في مستوى هذه الإرادة وقوتها؟ فهذا يمتلك إرادة فولاذية قوية وآخر يعاني خواء الإرادة وضعفها؟‏

في الواقع إن مستوى الإرادة واحد عند جميع الناس، والقوة والضعف في الإرادة ليسا صفة تكوينية أصيلة، وإنما هما صفة كسبية ثانوية ينالهما الإنسان من خلال ممارساته وحياته.‏

فالإنسان الذي يحاول ترويض نفسه وتدريب إرادته وممارسة الصمود والإصرار منذ بداية تفتحه وخروجه للحياة، هذا الإنسان تتوافر له إرادة حديدية فيما بعد، بعكس الإنسان الذي يعيش على أهوائه ويلبى شهواته ولا يعود نفسه الصبر والصمود.‏

من هنا فقد ركزت النصوص والتعاليم الإسلامية على ضرورة ممارسة رياضة النفس لتنمية الإرادة عند الإنسان باعتبارها مفتاح سعادة الإنسان وسر نجاحه وتقدمه..‏

يقول الله تعالى: "وأما من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى".. النازعات.‏

ويحذر سبحانه وتعالى الإنسان من الانسياق مع أهواء نفسه وشهواتها، لأنها تورده حياض السوء وتسقطه في حضيض الانحراف. يقول الله تعالى: "إن النفس لأمّارة بالسوء".‏

أما الرسول الأعظم (ص) فيعتبر جهاد النفس ومحاربة أهوائها أهم وأعظم من جهاد العدو الخارجي حيث يقول: الجهاد الأكبر هو جهاد النفس.‏

ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): "أشجع الناس من غلب هواه".‏

وعن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) قال: "سألني رجل عما يجمع خير الدنيا والآخرة فقلت: خالف نفسك".‏

وعن الإمام الصادق (ع): "طوبى لعبد جاهد نفسه وهواه، ومن هزم جند هواه ظفر برضا الله".‏

ولكن كيف يمارس الإنسان رياضة النفس ويقوي إرادته بالتدريب؟ ان ذلك لا يتم إلا بأن يتعمد الإنسان مخالفة نفسه والتمرد على أهوائه في الأمور العادية والمباحة حتى تتقوى إرادته وتكون قادرة على الصمود أمام الأمور الخطيرة والمحرمة.‏

وفي رمضان يفرض الله تعالى على الإنسان هذه الرياضة والتدريب، حيث يحرم عليه أمورا هي في حد ذاتها مباحة وعادية يمارسها الإنسان في كل يوم كالأكل والشرب. فأنت متعود في كل يوم أن تتناول وجبة الإفطار صباحا والغداء ظهرا، وأن تشرب الماء كلما عطشت، وأن تتناول ما يقدمه لك صديقك حين تزوره. وكل ذلك شيء طبيعي وعادي في جميع أيام السنة، ولكن ما ان يطل عليك هلال شهر رمضان حتى تتخذ قرارا جديدا صارما بالامتناع عن كل ما تعودت تناوله في سائر الأيام.‏

فطعام الإفطار والغداء متوافر أمامك في البيت ونفسك تتوق للأكل، وقد تعطش ويلدغك الظمأ وتحن نفسك إلى الماء البارد، أو العصير اللذيذ، ولكن إرادتك تعلن رفضها وإصرارها على تنفيذ قرار الامتناع وتنصرف عن كل ذلك غير آبهة بشيء منه.‏

وهكذا تستمر فترة التدريب والرياضة معك طيلة شهر كامل حتى تتقوى إرادتك وينمو صمود نفسك، وتكون قادراً على ممارسة الإرادة وعلى قول "لا" في الوقت المناسب وأمام أي كسل أو إغراء أو شهوة.‏

إسماعيل زلغوط‏

الانتقاد/ العدد 1181 ـ 23 أيلول/سبتمبر2006‏

2006-09-27