ارشيف من : 2005-2008

الجرح يرشح كرامة، علي النهري: عادت تنبض بالحياة

الجرح يرشح كرامة، علي النهري: عادت تنبض بالحياة

منازلها وبساتينها وسياراتها بصواريخ طائراته الحربية، في حين لم تغب طائرات الاستطلاع عن سمائها. لكنه وإن دمر بعض منازلها فلم يتمكن من نزع روح المقاومة التي زرعت في هذه البلدة منذ عقود وتجذرت في نفوس أهلها حين انطلقت مواكب المجاهدين من بيوتها لتزرع في مواقع العدو الرعب والهزيمة، ولتعود مكللة بغار الشهادة ومشعل الانتصار.‏

اليوم، علي النهري برغم تضحياتها، على عهدها الصادق الممهور بوعد المقاومة، تزيل الركام لتنهض من جديد.. الى حياة سماؤها المقاومة وأرضها الصمود.‏

"الانتقاد" زارت علي النهري وعادت بهذا التحقيق:‏

تنسب علي النهري باسمها إلى ولي من الأولياء الصالحين يوجد مقامه في ساحتها القديمة على ضفاف نهر حالا الذي يقسمها إلى قسمين. وبلدة علي النهري البقاعية تقع في الجانب الشرقي لنهر الليطاني، وهي تحتل مركزاً متوسطاً يجعل لمكانها أهمية كبرى في حياة قرى الجوار، إذ إنها تشكل حلقة وصل وارتباط بين العديد من البلدات.‏

انخرطت هذه البلدة في السياسة منذ ما قبل الخمسينيات، حيث عرف أبناؤها بالتزامهم الخط الوطني النضالي، وكانت تضم بين أبنائها منتسبين لأحزاب وطنية وقومية ويسارية. ولأن أبناءها اعتنقوا هذا النهج فلم يكن غريباً أن يلتحق كثيرون منهم بالتيارات التي ناهضت "إسرائيل"، كالتيار الناصري في الستينيات، ويتوزعوا على الأحزاب الوطنية مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية.‏

مع الاجتياح الصهيوني للبنان عام 82 ناصر أبناء علي النهري المقاومة الإسلامية وساندوها وانخرطوا في مشروعها الجهادي، وشارك كثير منهم في أولى عملياتها وأهمها. وقد قدمت هذه البلدة الكثير من الشهداء والجرحى على مذبح الحرية والكرامة والفداء.‏

في عدوان تموز 2006 احتلت بلدة علي النهري ومحيطها الاستراتيجي حيث الأوتستراد الدولي (يربط لبنان بسوريا) ونقطة التواصل بين القرى، مركز الصدارة بعد بعلبك في استهداف منطقة البقاع، فباتت مرصودة طيلة أيام العدوان وعلى مدار الساعة من طائرات الاستطلاع التي غدرت بكثير من السيارات المدنية على طريقها، وأودت بحياة أكثر من شهيد وعشرات الجرحى، وبينهم من كان يسعى لرزقه في إيصال مادة الخبز إلى الأهالي.‏

وكان الاستهداف الأول لها قاسياً وباكورة العمل الإجرامي فيها قصف منزل لمدنيين احتموا فيه وظنوا أنه آمن لأطفالهم، الا أن مجزرة حقيقية نفذها الطيران الحربي حين دمر منزلاً سقط فيه أربعة شهداء وخمسة جرحى من عائلة واحدة من آل بلوق. وتوالت الاعتداءات فدمرت شاحنات صغيرة لنقل الخضار وحفارة آبار و"ميني باص" سقط فيها عدد من الشهداء وعشرات الجرحى.‏

ولكن الفصل الأهم من العمل الإجرامي للعدو في هذه البلدة كان قبل وقف إطلاق النار بثمانٍ وعشرين ساعة، حيث استُهدف النادي الحسيني ومسجد البلدة ومنازل ومحال في ساحتي البلدة الفوقا والتحتا. وقد أحصي في هذه الغارات المتكررة إصابة أكثر من خمسة وعشرين منزلاً ومحلاً دمرت بالكامل أو باتت غير صالحة، فيما تضرر عشرات المنازل المجاورة.‏

وقد عاش أهالي البلدة حالة من الذعر ليس أثناء العدوان فحسب ولأنه استهدف المدنيين والأطفال، إنما حيث بقيت صواريخ ضخمة في المكانين المستهدفين مزروعة في أعماق الأرض وغير منفجرة، وقد بذلت قوى الجيش جهوداً جبارة لسحبها من عمق تجاوز ثمانية عشر متراً.‏

والجدير ذكره أن الصواريخ المستخدمة هي صواريخ تدميرية ضخمة لا تتناسب مع قرية صغيرة وبيوتها المتواضعة كبلدة علي النهري.‏

ولأن لا شيء يردع هذا العدو المتغطرس ولا قيمة عنده لتاريخ أو حضارة أو تراث، استهدف في وسط البلدة ستة منازل هي أصل البلدة، وقد بنيت في بداية القرن التاسع عشر، وهي تحمل جزءاً كبيراً من تاريخ القرية وحضارتها.‏

الأستاذ علي حسن مهدي من أبناء البلدة وصاحب أكبر مكتبة في البقاع دُمرت في العدوان يقول: "ليس غريباً بالنسبة للكيان الصهيوني أن يستهدف بلدة قدمت عشرات الشهداء منذ 1975 حتى 1990، كما شارك أبناؤها في الجهاد ضد الصهاينة وقدموا العديد من الشهداء حتى العام 2000. وهذه البلدة لها مكانتها في قلب سماحة السيد حسن نصر الله حيث زارها أكثر من مرة وفي مناسبات عديدة. ولأن ولاء الأهالي معروف، كان لديهم إحساس بأنها ستستهدف".‏

يضيف مهدي: "إن بلدتنا وأهلها غير آسفين على الدمار والتضحيات التي كانت وسام شرف لهذه البلدة المؤيدة والمناصرة للمقاومة الشريفة الباسلة"، معتبراً انه "لولا المقاومون الذين حققوا الانتصار كان سيطلق علينا ـ لا سمح الله ـ لبنانيو 2006، كما أطلق على الفلسطينيين "مهجرو 48 أو 67"، ولكن نحن الآن "منتصرو 2006".‏

لم يترك شباب علي النهري بلدتهم، إلا أن كثيرين منهم أبعدوا عائلاتهم بعدما تجاوز العدو الحدود الإنسانية في حربه، ليصل إلى مرحلة الإمعان في استهداف المدنيين العزل الأبرياء، فاستعدوا جيداً لمواجهة العدو لو أنه حاول أن يطأ أرضها.‏

محمد شاهر العريبي أحد جرحى العدوان يقول: "كنا قد تركنا البيت أثناء الليل لأنه قريب من الحسينية والجامع إلى مكان آخر في البلدة، وأثناء النهار كنت واقفاً أمام المنزل على الطريق، فقامت طائرة الاستطلاع "ام كا" باستهداف شاحنة صغيرة محملة بالبطاطا بصاروخ أدى إلى تدمير الشاحنة واستشهاد سائقها وإصابة عدد من المواطنين، كنت أنا بين المصابين".‏

يضيف: "منذ خمسين عاماً كنت أفخر بعبد الناصر، ولكن بسبب الانهزام العربي حُطمت معنوياتنا.. أما بعد إصابتي في حرب الوعد الصادق ولأول مرة منذ خمسين عاماً، يرشح الجرح كرامة، ونحن مسرورون". وقال: "نحن أصبنا على الطريق ولم نكن نحمل سلاحا، فما هو فضلنا أمام المقاتل الذي كان يواجه في جب النار، وهو يعرف لماذا يقاتل، ولذلك ربحنا.. أما الإسرائيلي فقد خسر المعركة لسبب واحد، هو أنه لم يكن لديه قضية يموت من أجلها.. أما عندنا فنعرف لماذا نقاتل ونعرف معنى لشهادتنا".‏

أما طلال المصري الذي دُمر منزل أهله وأربعة محلات وفرن لهم فيقول: "من الطبيعي أن نستهدف من الإسرائيلي لأنه عدونا، ونحن لسنا آسفين على شيء ما دامت المقاومة بخير، ونحن على يقين بأن المسخ لا يكتمل، و"اسرائيل" دولة مسخ لا يمكن ان تكتمل، ولكن عتبنا على بعض الأنظمة التي تضع يدها بيد "اسرائيل" وتراهن عليها".‏

ويعتبر ان "ما استهدفته الطائرات الاسرائيلية هو بعض حجارة وأبنية، ومن يسترخص الدماء لا تعنيه الحجارة، وكلنا فداء للمقاومة وقائدها السيد حسن نصر الله".‏

أما الحاج محمد مهدي (أبو قاسم) الذي دمر منزله ومنازل أهله وإخوته فيقول: "إن ما أصابنا هو نعمة من الله، وهذا وسام نضعه على صدورنا أننا أعداء للصهاينة، وأنهم استهدفونا لذلك". ويضيف: "ان الله قد أنجانا مع العائلة والأطفال قبل القصف والحمد لله، وليس استهلاكاً أن نقول كلنا فداء للمقاومة، لأن ذلك في صميم قلوبنا والعقيدة".‏

وينكفئ العدوان وتعود علي النهري قلباً نابضاً بالحياة، يبني أهلها ما تهدم بإصرار المقاومين، ويفتحون متاجرهم وبين ظهرانيهم مؤسسات حزب الله التي تعمل معهم يداً بيد لإعادة البناء أفضل مما كان.‏

ت‏

حقيق عصام البستاني‏

الانتقاد/ العدد 1182ـ 29 أيلول/ سبتمبر 2006‏

2006-09-29