ارشيف من : 2005-2008

من السحور الى الافطار رمضان فلسطين نار

من السحور الى الافطار رمضان فلسطين نار

جنين, فسارعت لإيقاظ أسرتها بعدما استرقت النظر من زاوية إحدى نوافذ المنزل، فشاهدت جنود الاحتلال يحيطون به, فضربت يدا بأخرى وقالت في أعماقها: لا حول ولا قوة الا بالله، إنهم لا يعرفون رمضان أو غيره.‏

وسرعان ما تغيرت وجبة الإفطار باقتحام الجنود لمنزل أم خليل التي قالت: "طرق الجنود باب المنزل وهم يصرخون: افتحوا الباب بسرعة وإلا فجرناه.. فسارع زوجي لفتح الباب ليفاجأ بعشرات الجنود المدججين بالأسلحة، وبعد سؤاله عن اسمه طلبوا منه إخراج جميع الموجودين في المنزل، فقال لهم لا يوجد سوى أسرتي، والآن موعد السحور، فماذا تريدون؟ رد عليه الضابط بغضب: نعرف الوقت جيدا، اخرجوا بسرعة لا داعي للسحور، وهذا يكفل لكم مزيدا من الحسنات لأننا جيش العدو".‏

توزع الجنود كما يقول المواطن سرحان يوسف (أبو خليل) داخل المنزل وصلبونا بالعراء 3 ساعات، وعندما حان وقت الأذان طلبت منهم السماح لنا بالشرب على الأقل، فقال لي الضابط الذي يتكلم العربية بطلاقة: "لا سحور ولا ماء، فالصيام هكذا أفضل بركة". وواجهت عدة عائلات في مخيم جنين مصير عائلة أبو خليل نفسه لأن الجنود شنوا عمليات الدهم والتفتيش في وقت السحور وحرموهم منه كما يقول المواطن زكي خالد بشكل متعمد.‏

الاحتلال ينغص فرحة رمضان‏

فقوات الاحتلال منذ بدء شهر رمضان المبارك وإضافة لحملات الدهم والتوغل، شددت حصارها وطوقها العسكري على محافظة جنين، ما انعكس بشكل كبير على حياة الفلسطينيين والوضع الاقتصادي. تقول مصادر لجنة أموال الزكاة إن الطوق والحصار الصهيوني المشدد المفروض على جنين ألقى ظلاله على مختلف أوجه الحياة، فارتفعت معدلات الفقر والعوز والحاجة بشكل لم يسبق له مثيل، في ما لا تزال كل المؤسسات والجمعيات الخيرية عاجزة عن تقديم وتوزيع المساعدات التي اعتادت عليها في شهر رمضان جراء ما يسمى الحرب على الإرهاب التي أعلنتها "إسرائيل" وأميركا والتي كان الفلسطينيين أول ضحاياها.‏

ويعكس واقع الحال في شوارع مدينة جنين حقيقة ما يعانيه الفلسطينيون من دمار شامل أدى الى ركود اقتصادي لم يسبق له مثيل منذ أعوام، فقد اختفت جميع مظاهر الاستعداد للاحتفاء بالشهر المبارك، وبرغم ازدحام الأسواق بالبسطات فإن الحركة كما أجمع التجار مشلولة ومعدومة. فالتاجر خالد زكي قال إن هذا ليس رمضان، ففي أسوأ الأوضاع خلال السنوات السابقة كانت الشوارع تكتظ بالحركة، والمواطنون يتدفقون للتسوق بمستلزمات رمضان الخاصة، ولكن بعد ثلاثة أيام من الشهر الفضيل لم يتغير الوضع لأن إجراءات الاحتلال دمرت حياة الجميع، وبشكل خاص التجارة التي تشهد نشاطا مميزا في هذا الموسم من كل عام.. ويعكس الحاج كمال السمودي رئيس الغرفة التجارية الواقع المأساوي للوضع التجاري والمعيشي في المحافظة المنكوبة فيقول: إن المحافظة أمام كارثة حقيقية، وهناك خطر بالانهيار الشامل, فقد انعكس الطوق والحصار على جميع مناحي الحياة وارتفاع معدلات البطالة مع مشكلة، ومع مشكلة الرواتب تضاعفت الأزمة وخلقت أشكالا كثيرة من المعاناة، حتى ان عشرات المؤسسات والشركات التجارية والاستثمارية والمصانع والمحلات أعلنت إفلاسها! والوضع يزداد سوءا يوما بعد يوم، فمن يصدق حال الركود التجاري غير المسبوق في شهر رمضان المبارك الذي يعتبر أهم المواسم للتجار! مشيرا إلى أن عدد المتوافدين على الغرفة التجارية طلبا للمساعدات في تزايد مستمر.‏

خيبة أمل وواقع مر‏

وأصيب التاجر بلال محسن بخيبة أمل شديدة بعدما استعد بتوفير جميع مستلزمات رمضان في بقالته برغم الديون الهائلة التي سببها كما يقول.. فالحصار والطوق الذي حول جنين لمدينة أشباح برغم أنها المركز الرئيسي للنشاط التجاري للمحافظة التي يبلغ تعداد سكانها ربع مليون نسمة، وأضاف: مبيعاتي خلال الأيام الأولى في رمضان لا تتجاوز الـ5% عن الأعوام السابقة, وجلس المواطن مأمون الأسمر على بوابة بقالته يطالع الصحف بعدما كان لا يقدر على التنفس للحظة أو الراحة طوال أيام رمضان، وقال إن الحصار والطوق وممارسات الاحتلال دمرتنا وقلما تجد مشتر, فالعمال عاطلون عن العمل والموظفون بلا رواتب، وإذا قصدني زبون فإما يشتري الشيء المهم والضروري أو يشتري بالدَّين.‏

وأضاف الأسمر: نسبة مبيعاتي لم تتجاوز 5%، مع العلم بأن غالبيتها بيعت دَينا. ويؤكد التاجر رسمي محمود أن نسبة الدين في بقالته خلال الأشهر الأخيرة تضاعفت بمعدل 100%، بينما لم يتغير الحال في رمضان. ويضيف: أصبحت على وشك الانهيار إذا استمر الحال مريرة وصعبة، ففي مثل هذه الأيام لم نكن نتوقف عن العمل منذ الصباح حتى الإفطار، واليوم نتمنى أمنية أن نشاهد الزبائن! الحركة مشلولة والأهالي لا يطلبون سوى المواد الرئيسية وبكميات محدودة.‏

وقال المواطن فهمي أبو يوسف انه لم يتمكن من توفير وجبة طعام مناسبة لعائلته في رمضان بسبب عجزه عن العمل، ويضيف: طُردت من العمل في حيفا قبل ثلاثة أعوام ولم أحظَ بفرصة عمل في جنين، لذلك فإن شهر رمضان هذا يعتبر الأصعب على عائلتي، خاصة ان الديون تراكمت علينا وأصبحت أخجل من التوجه الى البقالات. أما عبد الرحيم زكي الموظف في دائرة حكومية فقال: عجزت عن شراء أي شيء يمت الى شهر رمضان بصلة، فمنذ 7 شهور لم نحصل على رواتب بسبب الحصار الإسرائيلي، ولا أدري كيف سنتدبر أمورنا، فلدي عائلة مكونة من 8 أنفار ولا مصدر رزق لي سوى الراتب.‏

ركود في كل القطاعات‏

وبينما تتعالى أصوات الباعة في حسبة خضار جنين فإن الحال لم تختلف عند المحلات التجارية، وقال محمود عباهرة ـ صاحب بسطة ـ "الفواكه أصبحت من الكماليات والأهالي استغنوا عن التفاح والموز والعنب وغيرها، وخلال اليوم الأول والثاني من شهر رمضان لم تتجاوز مبيعاتي مئة شيكل، ولا أتوقع أي تحسن مع استمرار الطوق والحصار، فحياتنا بؤس وشقاء". في المقابل تشهد زاوية الحسبة التي تباع فيها البقوليات مثل الخبيزة والعلك والبقلة ازدحاما بسبب تدني أسعارها. جمال عقل صاحب بسطة قال ان الأهالي عادوا لشراء الخضروات التي تنتجها الأرض مثل الخبيزة والبقلة والعلك، والطلب عليها كثير، أما باقي الأصناف فبرغم أن سعرها معقول فلا يسأل عنها احد. وقالت المواطنة خديجة عقل: "من أين نشتري وزوجي فقد عمله في حيفا وابني معتقل ومحكوم بالسجن المؤبد 16 مرة، وابني الثالث عاجز عن العمل منذ خروجه من السجن ولا يوجد رواتب أو عمل أو مساعدات!.. منذ أسبوعين لم نتمكن من شراء لحمة أو دجاج".‏

وقال الموظف ذياب لطفي: "الحصار الإسرائيلي الأميركي دمر حياتنا وأفقدنا كل مقومات الحياة، فقد تراكمت ديوني بسبب عدم صرف الرواتب وأصبحت عاجزا عن توفير أبسط مستلزمات عائلتي, وأصبحنا لا نتناول سوى المجدرة أو الخبيزة في شهر رمضان، اذ لا يوجد لدي قدرة على شراء أي شيء آخر.‏

صورة من أسواق جنين‏

واشتكى بائعو اللحوم والدواجن من الركود الذي لم يسبق له مثيل، وقال حمدي مسمار: إن الأهالي أصبحوا يشترون اللحوم المجمدة بسبب تدني سعرها، بل إن كثيراً من المواطنين يشترون العظام للطهي عليها، وآخرون يشترون أوقية لحمة أو دجاجة مرة في الأسبوع، بينما غالبية زبائني يشترون دَينا، والحال في شهر رمضان أكثر صعوبة، فطوال اليوم الأول لم أبع سوى 20 دجاجة، علما بأنه في الأعوام السابقة كانت مبيعاتي في شهر رمضان تتجاوز 400 دجاجة. وقالت زوجة المواطن عرفات صادق: أطفالي بكوا بشدة بسبب عدم قدرتي على شراء دجاجة لهم طوال أسبوع، فلا يوجد لدينا أي مصدر رزق منذ فقدان زوجي عمله في الناصرة. وأضافت: عدنا الى تراث الأجداد في الطعام الفلسطيني الذي لا يحتاج الى أموال ومصاريف باهظة ومرهقة، ولا أدري كيف سأتدبر أمري إزاء واجباتي تجاه أهلي الذين اعتدنا على دعوتهم للإفطار لدينا! بحياتي لم أعش مثل هذا الوضع".‏

وطال الوضع حتى القطايف التي تشكل الحلويات المفضلة التي تزين مائدة شهر رمضان، فتراجعت معدلات الإقبال عليها. وبرغم ان "رمضان جنين" يشتهر ويتميز بانتشار الأماكن والبسطات الخاصة للقطايف، إلا أن الكثيرين غابوا عن طوابير الانتظار التي اختفت.‏

هموم تتزايد‏

وتمكنت بعض العائلات الفلسطينية من التغلب على هذه الأوضاع الصعبة بالعودة الى الوجبات الشعبية التي لا تتطلب أموالا كثيرة.. أم أحمد قالت: توجهت الى سهل جنين وجمعت بعض البقوليات وطبختها ووفرت على زوجي العناء والمعاناة التي يعيشها جراء عدم إيجاده عملا. أما المواطن خيري عبد الرازق فإن الحزن والغم أصابه مع إطلالة شهر رمضان دون حصوله على الراتب، ولم يتمكن من العودة لمنزله في جنين طوال اليوم الأول من شهر رمضان بعدما عجز عن إيجاد عمل يوفر لأسرته المكونة من 7 أنفار وجبة طعام، وقال: بحياتي لم أتوقع هذه المأساة التي تتزايد يوما بعد يوم, خلال عملي قبل سنوات كنت أساعد الفقراء والأيتام وأوزع الطعام في شهر رمضان، ولكن هذا العام الصعب وبعدما أصبحت بلا راتب لا أدري كيف سأعود الى أسرتي خالي اليدين! وتنفس زياد الصعداء عندما أبلغته زوجته أنها تمكنت من تجهيز وجبة طعام كانت خبيزة وبعض العلك.‏

الانتقاد/ العدد 1182ـ 29 أيلول/ سبتمبر 2006‏

2006-09-29