ارشيف من : 2005-2008

شهر رمضان والأولويات الاجتماعية

شهر رمضان والأولويات الاجتماعية

ومثخوناً بجراحات وآلام أناس صمدوا وضحوا وتكبدوا المعاناة على امتداد الوطن، وخرجوا مع كل الدموع كباراً عظماء، ومع كل الآلام أقوياء متماسكين.‏

وعندما يقف المرء المسلم عند أعتاب هلال الشهر المبارك ليستهلّ قدوم هذا الضيف العزيز الذي ندخل به ضيوفاً على أكرم الاكرمين، فإنه في هذا العام لن يكون بمقدوره أن يتناسى ما تقدم هذا الشهر وما أسّس له، من آثار روحانية عظمى للانتصار الالهي الذي شهد فيه المؤمنون حضور الغيب بكل تجلياته في محضر تلك الحرب ومحضر أولئك المجاهدين، فكان للجهاد وللشهادة في شهري النور رجب وشعبان كرامات ترشحت عن جنبات الدم وعلى ضفاف الجراح لتصنع نصراً الهياً غيبياً لا يمكن لاي مؤمن ان يتجاهله، بل لا بد له من استحضاره في أيام وليالي وساعات وأعمال وأوراد وأذكار شهر رمضان المبارك للعام 1427هـ.‏

وإذا عدنا الى استحضار ما يجب في استقبال شهر رمضان وتحديداً الخطاب النبوي المبارك فإننا وعند تحليل هذا الخطاب الذي يمثل وحياً وعلماً ونبراساً نجد أن ما يلفتنا فيه هو تضمن القسم الاكبر منه لتعليمات ومواعظ وتوجيهات ذات طابع اجتماعي انساني، فبعد التأكيد على خصوصيات الشهر المبارك وعلى مزاياه وما يتفرد به، وعلى اهمية مفرداته، وعلى مضاعفة ثواب العبادة فيه على أنواعها، يتطرق الرسول الاعظم(ص) في خطبته الشهيرة في استقبال الشهر المبارك الى جملة توصيات اجتماعية منها:‏

تفطير الصائمين ـ الاهتمام بالفقراء والمساكين ـ رحمة الصغار واحترام الكبار ـ صلة الارحام ـ التحنن على الايتام ـ الصدقة.‏

وإن التطرق لهذا النوع من التوصيات في القسم الاكبر من الخطبة دليل على أولوية هذه الاعمال، لان التوجيه صادر من خيرة البشر، والمناسبة هي اعظم مناسبة على الاطلاق، ما يعني ان الصادر هام ويستدعي التوقف والتدبر، فكيف بنا اذا أضفنا الى الوارد في هذه الخطبة الكثير من المضامين التي حوتها بعض الآيات القرآنية في الحديث عن الصدقة والجهاد بالمال وبر الوالدين وتقوى الارحام والاهتمام بالجار وبالأيتام والمساكين وبالاخوان، وبابن السبيل والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، والقيام بالقسط والقول الحسن والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل المال وعدم تكديسه، وصرفه في موارده، مع ذم البخل واعتباره مؤشر سخط وجحود ومقت لنعم الله تعالى، ومع دراسة النص القرآني وتحليل الاهوال المترتبة على العصيان في الموارد الاجتماعية، وعلى الآفات في السلوك مع الناس على المستويات كافة، فإن ذلك يقتضي أخذ التكاليف الالهية ذات الطابع الاجتماعي على محمل الاهمية والاعتبار، لان ما توعد به سبحانه من العذاب على أذية الناس وقتلهم وظلمهم والاعتداء عليهم وغصب حقوقهم وعدم رعايتهم، ولا معونتهم ولا إعالتهم، ولا إطعامهم ولا النظر في احوالهم، هذه الاهوال هي اخطر بكثير مما يترتب بحسب النصوص القرآنية من العذاب على العصيان في التكاليف ذات الطابع الفردي، ومن النصوص القرآنية الشاهدة على ذلك قوله تعالى:‏

"ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين"،‏

"خذوه فغلّوه، ثم الجحيم صلّوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه، انه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين".‏

وعليه فإننا اذا عدنا الى رحاب الشهر المبارك والى خطبة الرسول والى النصر القرآني، ثم أسقطنا كل ذلك على واقعنا المعاصر وعلى حالة أمتنا وعلى شعبنا جراء العدوان الاخير، فإن الاولوية الاجتماعية المتصدرة كل التعاليم تصبح اكثر إلحاحاً، وأعظم حضوراً، وأوجب التزاماً، ويصبح لتفطير الصائم، وللحنو على الايتام، لا سيما ايتام المجاهدين الشهداء، وصلة الرحم بعد الانقطاع والتفرق، ورعاية المحتاجين والمساكين الذين كان بعضهم منذ مدة قصيرة أغنياء أعزاء، ليصبح كل ذلك واجباً يتقدم كل واجب، وتكليفاً يتصدر كل التكاليف، وتصبح الدعوة للالتفات الى هذه المعاني هي الاهم في الخطابات والتوجهات والبيانات والاعلاميات، ويصبح الإحياء الاهم والاعظم لشهر رمضان هو الوقوف عند حاجات الناس والعمل على قضائها ورعاية احوال الناس وتفقدها، وتلمس ادائها، لان الشهر شهر الله، والناس عيال الله، وأحب الخلق الى الله أنفعهم لعياله.‏

د.بلال نعيم‏

العهد الثقافي/ العدد 1182ـ 29 ايلول/ سبتمبر 2006‏

2006-09-29