ارشيف من :خاص

هكذا سقطت أول وأخر مستوطنة اسرائيلية جنوبي لبنان منذ عشرين عاماً

هكذا سقطت أول وأخر مستوطنة اسرائيلية جنوبي لبنان منذ عشرين عاماً

أمل شبيب

في غمضة عين تمرّ ذكريات سنوات عمره التي أمضاها في صفوف المقاومة... يسحب نفساً عميقاً من سيجارته وهو يسرد وقائع اسقاط أول مستوطنة اسرائيلية حاول الكيان الاسرائيلي اقامتها في بلدة راشيا الفخار عام 1989.

ن. ع. اختار ان لا يكشف عن اسمه لأن الموساد مازال يبحث عن هوية الأشخاص الذين اقتحموا المستوطنة وأعدموا رئيسها وليام روبنسون، وبالتالي افشال المخطط الإستيطاني في جنوب لبنان. ويقول ن.ع. إنه قرر أن يفصح عن بعض اسرار تدمير مستوطنة راشيا الفخار ليضيف انجازاً يكاد يكون منسياً الى الإنجازات الأمنية للمقاومة، وخصوصاً بعد تفكيك عدد من شبكات التجسس.

لم يكن سهلاً أبداً الوصول الى مستوطنة راشيا الفخار الواقعة هند منتصف الطريق بين بلدتي الخيام وكفرشوبا ومزارع شبعا. وليام روبنسون اختار أحد احراج الصنوبر على تلة مرتفعة تشرف على ربع مساحة الشريط الحدودي المحتل، وتشكل نقطة استراتيجية لربط مرتفعات جنوب لبنان بالمرتفعات الفلسطينية المحتلة، وتملك كل اسباب التوسع والتمدد باتجاه التلال المجاورة.

وبينما كان يتجول بين أنقاض مستوطنة روبنسون بعد نحو عشرين عاماً على تدميرها، يضيف ن.ع أن المقاومة أدركت منذ اللحظة الأولى أن مشروع روبنسون لن يتوقف عند بلدة راشيا الفخار، وأن عدم مواجهته فوراً سيسمح بتكرار التجربة الإستيطانية في فلسطين منذ العام 1900 وبالتالي تشريع الإحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وضمّه الى فلسطين لاحقاً بعد غزوه بالمستوطنين اليهود والإستيلاء على أرضه ومياهه.

هذه الأسباب دفعت المقاومة إلى اتخاذ قرار كبير بتدمير المستوطنة واعتقال وليام روبنسون ومحاكمته.... بدأ العمل فوراً وكانت أول مهمة للمجموعة التي اوكل لها مهمة تنفيذ العملية قراءة ملف روبنسون للتعرف اليه.

وليام روبنسون، مهندس اتصالات إسرائيلي دخل لبنان منذ الإجتاح الإسرائيلي عن طريق مستوطنة المطلة. بدأ عمله كإعلامي في إذاعة لحد ومسؤول لها، ثم وسع نشاطه إلى تلفزيون الشرق الأوسط. بعد سنوات من بناء علاقات جيّدة مع اهل المنطقة، واستكشاف موسّع لمنطقة مرجعيون وشبعا والعرقوب والبقاع الغربي، قرر روبنسون بناء أول مستوطنة اسرائيلية واستقدام يهود من الإتحاد السوفياتي...

الخطوة العملية الاولى كانت شراء قطعة ارض بأضعاف ثمنها الحقيقي بعدما اقنع اهل المنطقة بحسن نياته، وأن الهدف من شراء قطعة الارض بناء مدرسة للمعاقين اليهود!!

يعود ن.ع. الى ذاكرته فيسرد الأحداث الدقيقة... وبسرعة البرق تنساب تفاصيل تلك العملية. "التخطيط للعملية استغرق عاماً كاملاً، وكان لا بد من مسح المنطقة جغرافياً واستكشاف الطرق المؤدية إلى المستوطنة وتوزع الحواجز ونقاط التفتيش المعادية... الوصول الى منطقة كان يحتاج الى يومين متواصلين من التسلل، لكن قدرة المقاومين على التحمل والصبر وعزيمتهم على حماية ارض الوطن مكنتهم من الوصول إلى الهدف. سلكنا ممرات خاصة في الأودية... مشينا على الثلوج ... وتسلقنا الصخور وتحملنا البرد والصقيع وأخيراً تمكنا من الوصول إلى المستوطنة مع الغروب عن طريق جبل الشيخ".

يرتشف ن.ع فنجان قهوته بهدوء... ويكمل حديثه متمعنا بصور العملية.... مع غروب ذلك اليوم وحتى الساعة الحادية عشرة ليلاً كانت فترة انتظار وترقب. على الرغم من مساحة المستوطنة الصغيرة، إلا أن السيطرة عسكرياً عليها كانت أمراً بالغ الصعوبة. الحراسة مشددة ، والحراس لديهم كلاب بوليسية مدربة تدريباً ممتازاً على اكتشاف الافراد والمتفجرات.

مع اسدال الليل ستاره انتقلنا إلى موقع قريب من إدارة المستوطنة ... كانت الإنارة قوية لدرجة أنها أعاقت حركتنا... وقفنا نراقب ما يحدث فيها ببرودة اعصاب... الحراس يرتدون بزات عسكرية خضراء ويحملون اسلحتهم ويرسلون ضحكات بين الفينة والأخرى كان يتردد صداها في سكون الليل. عيوننا كانت تلاحق كل التحرّكات بصمت كبير.

اقتربنا اكثر باتجاه الابنية لنكتشف أن المستوطنة تضم مدرسة للمعاقين اليهود تم استقدامهم من "اسرائيل" من اجل تأمين الغطاء الانساني لعملية الاستيطان. اما الابنية المتبقية فكان يستخدمها العمال والفنيون الذين يتولون أعمال البناء والتجهيز. والحراسة والمراقبة كان يتولاها أكثر من عشرين حارساً.

المجموعة الكامنة كانت مؤلفة من ستة مقاومين مدربين جيداً. بدأ التحرك باتجاه الهدف بحذر شديد، والخطوة الاولى كانت تجاوز كلاب الحراسة، وهو الامتحان الاصعب لان نجاح العملية يتوقف على هذه الخطوة. قمنا برش انواع معيّنة من أدوية "التنويم" للكلاب البوليسية، اضافة الى مواد مختلفة لتعطيل حاسة الشم لديها، كما استخدمنا انواعاً من المواد مهّدت لإسكات الكلاب أولاً.

الخطوة الثانية كانت تحديد منزل روبنسون ومن ثم القضاء على حراس منزله. من خلال دراستنا المكثّفة للمنطقة تمكنا من تحديد المكان... مرّت لحظات طويلة حتى أطلّ روبنسون من بين أضواء الابنية مرتدياً روباً رمادياً وأخذ يتأمل حدود مستوطنته الصغيرة.

عاد روبنسون ودخل منزله... سمعنا صرير الباب وكأنه كان إشارة للتحرك. وزّعنا المهام بين أفراد المجموعة بسرعة خاطفة، وانطلقنا بحذر شديد للسيطرة على الحراس، وما إن اقتربنا من احدهم حتى التفت الينا وحاول إطلاق النار علينا، لكن قدرتنا كانت اقوى منه، وتمت السيطرة على الآخرين من دون إطلاق نار أو حتى ضجيج أو صراخ.

اجتزنا مجموعة من الأبنية الخشبية والغرف، ودخلنا الى مكان إقامة روبنسون رئيس المستوطنة. كانت غرفته داخل المدرسة في جناح خاص، وكان باب غرفته مغلقاً إلاّ بعض الشيء.... وقفنا خارج غرفته منتظرين أن ينهي مجموعة جمل وعبارات قالها باللغة العبرية، خاتماً مكالمته الهاتفية بضحكة كبيرة وصلت الينا مع جملة أضافها بالعربية "مبروك لكم، سترون قريباً مستوطنة راشيا في لبنان".

في هذه الاثناء كان اثنان من المجموعة يستكشفان الجهة الشرقية للمدرسة، وكانت المفاجأة وجود ما يزيد عن عشرة مستوطنين يهود في إحدى الغرف وبينهم عائلة أيضاً، وبسرعة خاطفة رفع هؤلاء ايديهم مستسلمين، وجرى سحب الاوراق الثبوتية منهم وبينها هويات وجوازات عبور باللغة العبرية وبعض المستندات مصدرها الإتحاد السوفياتي ايضاً.

أغلق روبنسون هاتفه وادار ظهره إلى آلة الكترونية كبيرة واعطاها الأمر لتعمل، فسطعت حينها خريطة راشيا الفخار. وبينما هو يحمل مسطرة كبيرة وطويلة تحرّك أحد اعضاء المجموعة فشعر روبنسون بحركة غريبة داخل المبنى، وقبل أن يفكر بما سيقوم به كنا قد اقتحمنا غرفته بسرعة.... كان وحيداً مع مستندات وخرائط وأوراق كثيرة. حاول الفرار من باب آخر فلحقنا به، لكنه لجأ بسرعة البرق للاختباء في إحدى الغرف متخذاً من المعوقين فيها دروعاً بشرية... كان يقف خلف المعوّقين ويدفع بهم الواحد تلو الاخر باتجاهنا دون رحمة منه.

في تلك الاثناء بدأ طيران العدو الإسرائيلي بالتحليق المكثف في أجواء المنطقة وكأن العملية قد كشف امرها. عندها لم يكن أمامنا من حلّ سوى أسره وسحبه من المستوطنة، لكنّ مقاومته كانت شديدة.

خلال تنفيذ العملية لم يغب عن بال عناصر المجموعة قوات الطوارىء الدولية، وكان عدم إصدار اية ضجة جزءاً من التخطيط لعدم لفت الانتباه.... استمرّ الصراع مع روبنسون فترة زمنية تجاوزت ثلاثة ارباع الساعة. كان جسده قوياً صلباً وسميناً نوعاً ما، لذا كانت مهمة سحبه خارج المنطقة المحتلة أمرا صعبا بعض الشيء. حاولنا تهديده لارغامه على الاستسلام كما هو مخطط كي يكشف بنفسه عن تفاصيل خطته لبناء مستوطنة... محاولات السيطرة عليه باءت بالفشل، وكانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، وكان الوقت ينفد ولا مجال أمام مزيد من المفاوضات.

كانت تعابير وجه روبنسون الاربعينية توحي بسنوات من القتال... وشرارات الانفعال كانت تهرب من بين عينيه كاشفة عن عاصفة من الاحداث. لكن اللحظات الأخيرة كانت حاسمة، إذ أقر بمخطط بناء المستوطنة مصحوباً بكلمتين... أتركوني... دعوني ... الوقت لم يعد في مصلحة المجموعة... اربع رصاصات من مسدس كاتم للصوت انطلقت لترديه وتنهي إلى الابد مشروعه الاستيطاني.

لم تنته المهمّة بمقتل روبنسون، إذ قبل ان تغادر المجموعة المستوطنة حضرت القوات الإسرائيلية وقوات الأمم المتحدة. ما هي إلاّ دقائق حتى تحولت المستوطنة الى ثكنة عسكرية وسط تحليق مكثف للطيران الحربي... جنود وضباط وعناصر الاستخبارات انتشروا في كل مكان. لم يعد امام المجموعة من خيار سوى الاختباء بين اشجار البلان بانتظار ان تهدأ الامور وينسحب الجنود.

مضت 72 ساعة والمجموعة متوارية بين الأشجار حتى انسحب الجنود من المنطقة. انتظرنا حتى اسدال الليل ستاره وسلكنا طريق العودة إلى المناطق المحررة.

أثار مقتل المهندس الاميركي ـ الإسرائيلي وليم روبنسون جدلاً كبيراً لدى الأوساط الإسرائيلية، فمشروع الاستيطان في جنوب لبنان قد سقط ووضع حداً للاطماع الاسرائيلية، فضلاً عن عن تأكيد المقاومة قدرتها على الوصول إلى اي نقطة عسكرية او استراتيجية برغم الاجراءات الامنية والميدانية الاسرائيلية. وبعد اعلان مقتل روبنسون تظاهر مئات المستوطنين الصهاينة في فلسطين المحتلة رافضين الإقامة على ارض لبنان، وهكذا تكون قد سقطت أول وآخر مستوطنة اسرائيلية في جنوب لبنان


2010-06-16