ارشيف من : 2005-2008

نحو إعادة بناء قضية فلسطين ومنظمة التحرير ـ (1من2)

نحو إعادة بناء قضية فلسطين ومنظمة التحرير ـ (1من2)

د. عصام نعمان

إحساساً بالمخاطر التي تحيط بقضية فلسطين، ينظّم المثقفون الفلسطينيون، ممثَلين بالاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، "ورشة عمل حول إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية" في دمشق من 4 إلى 6 الشهر الجاري، بمشاركة وازنة من أهل الرأي والمثقفين العرب في شتى أقطارهم. وقد جرى توقيت انعقاد الورشة عشية اجتماع المؤتمر الوطني الفلسطيني في 7 الشهر الجاري او ربما في تاريخٍ لاحق، وهو المؤتمر النخبوي والشعبي البديل من الاجتماع الدولي في أنابوليس (الولايات المتحدة) الذي تنظمه وزارة الخارجية الأميركية وتترأسه كوندوليزا رايس ، والمنتظر عقده أواخرَ الشهر الجاري أو منتصفَ الشهر المقبل.
إزاء عدم تمكّني من تلبية الدعوة وعَدتُ منظّمي الورشة البالغة الأهمية بأن تتخذ مشاركتي في الندوة صيغةَ مقالةٍ هي أشبه بمذكرة موجهّة إلى الاخوة المشاركين بل إلى جميع المهتمين بقضية فلسطين في رحاب الوطن العربي الكبير، وذلك على النحو الآتي:
أولا: صعود منظمة التحرير وهبوطها بعد نكبة 1948، توّزع الفلسطينيون شتاتاً على الأقطار العربية المجاورة. أصبحوا مجاميع من لاجئين بؤساء مجروحي الكبرياء، متروكين لمصيرهم في مخيمات مرتجلة في ضواحي المدن ومجاهل الأرياف، يلعقون جراحهم بصمت ويتابعون بغير أمل ما يدبّر لوطنهم السليب على أيدي مسؤولين أجانب وآخرين أعارب.
كان للفلسطينيين آنذاك مرجعية باسم الهيئة العربية العليا لم تفلح في مقاومة عملية الاغتصاب والاحتلال، فما كان منتظراً منها ان تنجح في تدبير شؤون الناس وقد أضحوا مشردين تحت كل كوكب.
كان من الطبيعي والحال هذه، ان تتولى حكومات الأقطار المضيفة فرادى ثم مجتمعة في إطار جامعة الدول العربية، شؤون اللاجئين السياسية والأمنية، وأن تترك لوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين مهام الإغاثة ومتطلبات المعيشة وبقية النواحي الاجتماعية.
إزاء تقصير الحكومات في الوفاء بالمتطلبات الاجتماعية للاجئين وعجزها عن النهوض بمسؤولياتها القومية تجاه قضية فلسطين بما هي، باعتراف الجميع حكوماتٍ وشعوباً، قضية العرب المركزية، تعاظمت الحاجة لوجود كيان سياسي منبثق من إرادة الفلسطينيين أنفسهم لتدبير شؤونهم في كل الميادين، سيما ما يتعلق منها بالشؤون السياسية وقضايا المصير.
كانت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في مطلع الستينيات من القرن الماضي باكورة المحاولات الجادة في هذا السبيل، وما فتئت ان سيطرت بفضل عملياتها الميدانية اللافتة على كيانٍ باسم "منظمة التحرير الفلسطينية"، كانت جامعة الدول العربية قد استولدته في أروقتها وأرادت له ان يكون مجرد تعبير شكلي في إطار النظام العربي الرسمي عن أماني شعب مسحوق.
بررت حركة "فتح" سيطرتها على منظمة التحرير وعززتها بحجج ثلاث:
* ضرورة ان يأخذ الفلسطينيون قضيتهم بأيديهم لكونها تخصّهم في الدرجة الأولى.
* نزوع النظم السياسية العربية المتصارعة إلى توظيف قضية فلسطين، بل الفلسطينيين أنفسهم، في سياساتها وأغراضها المحلية والإقليمية، الأمر الذي أساء إلى القضية وأصحابها.
* انحسار مركزية القضية نتيجةَ العاملَين آنفي الذكر وتراجعها تدريجاً إلى مراتب خلفية في اهتمامات المسؤولين وحتى المواطنين العرب والمسلمين.
نتج عن تأسيس منظمة التحرير وأدائها السياسي والإعلامي والكفاحي ايجابيات وسلبيات، وأبرز الايجابيات ثلاث:
* قيام كيان وطني حقوقي وسياسي هو بمثابة مرجعية معترف، عربيا وإسلاميا ودوليا، بأنها الممثل الشرعي الوحيد لشعب فلسطين والمعبّر عن إرادته.
* نهوض مؤسسات المنظمة وأجهزتها بمسؤوليات الاهتمام بشؤون شعب فلسطين في شتاته، ورعاية مصالحه والتعاون مع الهيئات المحلية والعربية والدولية التي تعنى بقضاياه على مختلف المستويات.
* التنسيق ولو في حدود ضيقة، بين التنظيمات والهيئات والفعاليات العاملة داخل المنظمة وخارجها في إطار حماية الأهداف والمصالح العليا لشعب فلسطين.
أما السلبيات فأبرزها ثلاث أيضا:
* إذا كان من الطبيعي ان تصبح حركة "فتح" ـ بما هي كبرى تنظيمات المقاومة الفلسطينية وأكثرها نشاطاً في الستينيات والسبعينيات ـ صاحبةَ اليد العليا في قيادة منظمة التحرير في تلك الحقبة، فإنه كان من غير الطبيعي ان تُقرِن "فتح" ريادتها القيادية بسيطرة شبه كاملة على مؤسسات المنظمة وأجهزتها لحد الاحتكار.. ذلك كله حدث في وقت كانت وما زالت مقتضيات الكفاح وتعددية التنظيمات الفلسطينية العاملة تستوجب إدارة جماعية ديمقراطية للكيان السياسي الوليد، تُسهم فيه بتوافقٍ وعدالة وفعالية جميع التنظيمات العاملة على نحوٍ يحقق أعلى درجات الوئام والتضامن والإنتاجية.
* نشأت عن ظاهرة سيطرة "فتح" على المنظمة وشبه احتكارها لها وواكبتها منافسة حامية بين التنظيمات المنخرطة في المنظمة وتلك التي بقيت خارجها. وفاقم من حدة المنافسة فهم خاطئ لطبيعة المنظمة ودورها في مرحلة الكفاح، ساد لدى جميع التنظيمات أو معظمها، قوامه النظر إليها كأنها سلطة قائمة في كيان سياسي حقيقي له إقليم وسوية قانونية وسياسية راهنة. وقد نجم عن هذا الفهم الخاطئ ممارسات خاطئة وفاسدة أظهرت المنظمة أمام جمهورها والأمة والعالم من حولها كأنها نظام عربي آخر متخلف يضاف إلى المنظومة إياها التي عانى ويعاني منها العرب في تاريخهم المعاصر.
* زادت أزمة المنظمة تعقيداً بانزلاق قيادتها وقيادات التنظيمات المنخرطة فيها وعناصرها إلى ممارسات خاطئة وفاسدة على أراضي الدول العربية المضيفة، ما جعلها تبدو في الواقع كأنها دولة داخل الدولة المضيفة وقوة معطلة لسيادتها على أرضها وشعبها. وقد استغل العدو الصهيوني، مدعوماً بالولايات المتحدة الأميركية، هذه الممارسات الخاطئة والمكلفة، بأن شنّ الحرب على لبنان صيفَ العام 1982 ونجح في ترحيل المنظمة وتنظيمات المقاومة المنخرطة فيها إلى منافٍ جديدة في تونس واليمن وغيرهما.
نجم عن هذه السلبيات جميعا ان تحوّلت منظمة التحرير ـ خلاف ما أريد لها ان تكون ـ مجرد نظام عربي آخر متخلّف ومنقسم على نفسه ومنشغل عن هموم شعبه ومصالحه وأهدافه العليا بصراعات مريرة بين مكوّناته على الصدارة والوجاهة والمصالح والنفوذ.
ثانياً: أزمة قضية فلسطين
بمواكبة أزمة منظمة التحرير كانت قضية فلسطين تعاني هي الأخرى من أزمة متنامية، ذلك ان منظمة التحرير تماهت بعد اتفاقات أوسلو مع السلطة الفلسطينية التي نشأت عنها. محور الأزمة ان أهداف المنظمة ومسوّغات وجودها مغايرة أساساً لطبيعة السلطة وسياساتها، فالمنظمة أُنشئت من أجل تحرير فلسطين كل فلسطين، وعودة شعبها إلى أرضه، وحقه في إقامة دولته السيدة المستقلة، فيما السلطة نشأت عن اتفاقات تسووية مناقضة في موضوعها ومراميها والسياسات الناجمة عنها لميثاق المنظمة ونهج كفاحها.
تعقّدت الأزمة بنشوء ظواهر ثلاث:
* سيطرة حركة "فتح" على مراكز ووظائف السلطة نتيجة سيطرتها على مراكز ووظائف المنظمة، الأمر الذي جعل التماهي بين الاثنتين كاملا وعطّل المنظمة وجعلها مجرد ملحق للسلطة.
* ابتلاع السلطة للمنظمة أدى إلى نفور بقية التنظيمات المنخرطة في المنظمة من السلطة، وسلوكها طريق المعارضة شبه الدائمة لها. فوق ذلك باعد هذا التماهي بين حركتي "حماس" والجهاد الإسلامي من جهة والمنظمة والسلطة من جهة أخرى، فكان ان استنقعت المنظمة وتعطّل دورها تماماً في صفوف فلسطينيي الضفة والقطاع ومجتمعات الشتات أيضاً.
* زاد الطين بلّة ان السلطة عجزت عن تحقيق أي إنجازات سواء في إطار اتفاقات أوسلو أو "خريطة الطريق". كما ان أداءها اليومي على صعيد تدبير شؤون الشعب المعيشية والاجتماعية اعتوره فساد شديد وشامل أفضى إلى خسارة "فتح" معركة الانتخابات النيابية وفقدان سيطرتها على المجلس التشريعي.
تفاعلت كل هذه التطورات على نحوٍ أدى لاحقاً إلى سيطرة "حماس" على حكومة السلطة بسبب امتناع "فتح" عن المشاركة فيها، الأمر الذي أدى بدوره إلى إضعاف "حماس" كفئة حاكمة في إدارة أجهزة السلطة ورعاية شؤون الناس. هكذا تطورت الأزمة إلى مزيد من التعقيد، ما استوجب تدخل السعودية لرأب الصدع وحمل الفريقين على القبول بتأليف حكومة ائتلافية. لكن تجربة الحكومة الائتلافية الناشئة عن اتفاق مكة أخفقت هي الأخرى، فانفجر الصراع مجدداً وأدى الى خروج وزراء "فتح" من الحكومة، ثم سيطرة "حماس" منفردة على قطاع غزة.
وسط هذا الدمار النفسي والسياسي الشامل، ما عاد ثمة مكانة ولا هيبة ولا حضور لا للسلطة ولا للمنظمة، ولا بالتالي للقضية.. القضية! ما القضية؟ هل يمكن تعريفها بعد هذا الدمار إلاّ بأنها باتت عنوان صراعٍ مرير على السلطة بين تنظيماتٍ للمقاومة هدفها تحرير فلسطين أرضاً وشعباً؟ فإذا بها تنشغل عنه بالتناحر والتقاتل والصراع على سلطة وهمية تحت الاحتلال!
قضية فلسطين سقطت أو كادت في أوساط شعبها، فهل يعقل ألاّ تسقط أو تهون في أوساط سائر الشعوب والجماعات والدول؟
حتى لو تساهلنا في تقويمنا ونقدنا وقلنا إن القضية لم تسقط او تهن بل تضررت وتراجعت، فإنه يبقى ان مركزيتها في وعي أبناء الأمة وجمهور سائر قضايا العرب المتكاثرة قد تقلّصت وتصدعت وتهاوت أو كادت.
في الأسبوع القادم:   المخرج من الأزمة
الانتقاد/ العدد1240 ـ 9 تشرين الثاني/نوفمبر2007

2007-11-09