ارشيف من : 2005-2008

قراءة في المنهج المعرفي عند الإمام الخميني (قده)

قراءة في المنهج المعرفي عند الإمام الخميني (قده)

كتب علي الحاج حسن
لا يمكن الاحاطة بشخصية الإمام الخميني (قده) من دون الاعتراف بأنها شخصية ذات أبعاد متعددة تقتضي المعرفة الصحيحة بها الاطلاع على جميع هذه الابعاد ومعرفة خفايا المبادئ والقيم التي تحملها.
الكل يعرف ان الإمام رحمه الله كان فقيهاً وأصولياً ومفسراً وفيلسوفاً وعارفاً... استطاع بمنهجيته وثقافته أن يؤسس لأهم عقيدة سياسية ـ دينية تجلت معالمها الخارجية في الجمهورية الاسلامية كنظام، وهنا وللاطلاع على واحد من جوانب هذه الشخصية العظيمة والتعرف الى بعض خفاياها نشير باختصار الى المنهجية المعرفية عند الإمام التي كانت سبباً يوصلنا الى معرفة المباني الاولى والاساسية التي اعتمدها في معرفته اليقينية.
لقد اعتاد اصحاب العلوم العقلية على اعتبار الاسلوب الاستدلالي البرهاني بجميع قضاياه اليقينية والبديهية هو المستوى الأعلى والأهم في دراسة وتحليل وفهم الظواهر، وبالتالي فإن حجية النتائج التي كانوا يتوصلون اليها تتمتع بدرجة عالية من القطعية والصدق، وبالتالي فإن المعرفة التي نصل اليها والتي تستقي موادها الاولى من الحس او الخيال أو الوهم، وان كانت صادقة بشكل جزئي ومحدود، إلا  أنه يبقى هناك مجال واسع لرد ونقد هذه المعرفة حيث لا يحصل اليقين الكافي بالنتائج، ومن هنا فإن اصحاب المنحى العقلي يعتبرون المعرفة اليقينية لا تحصل إلا من خلال أسلوب الاستدلال العقلي والبرهاني ومواده التي يجب أن تكون من البديهيات واليقينيات... ولقد حظي هذا المنحى باهتمام كبير من قبل المسلمين بالأخص اتباع المشائيين وغيرهم ممن تأثروا بأفكار أرسطو.
لكن هذا المنهج والأسلوب كان محل تحليل وتعديل من قبل العديد من أتباع المدارس الفلسفية الاسلامية... وهنا يبرز رأي الإمام الخميني (قده) كواحد من الذين عارضوا هذا المنحى أو اعتبروه لا يكفي في الأغراض المعرفية، على الرغم من الاحترام الذي كان الإمام يظهره لبعض هؤلاء الفلاسفة سواء من اليونانيين أو المسلمين.
فالإمام (قده) يعتبر ارسطو من كبار فلاسفة العالم حتى ان القوانين المنطقية وقواعد علم الميزان التي هي اساس كل العلوم مدينة لجهود هذا الرجل القيمة... وأثنى الإمام على أفلاطون  قائلاً: "له في باب الالهيات آراء متينة ومحكمة"، وتطرق الى الخدمات التي قام بها الفلاسفة والمفكرون المسلمون فاعتبر انهم تمكنوا من تحويل الفلسفة اليونانية الجافة الى عرفان عيني وشهود واقعي..
 ومن دون الاستغراق في التفاصيل نجد ان نقطة التحول التي ظهرت عند الإمام (قده) تبدأ من هنا حيث كان البرهان والاستدلال هو الأساس في الوصول الى المعرفة اليقينية، لكن الإمام اعتبر ان الاستدلال والبرهان العقلي هو مرحلة من هذه المراحل لكنه ليس المرحلة الأكمل.
والمفارقة التي يتوقف عندها الإمام هي ان الفلسفة الاستدلالية على الرغم من اهميتها إلا انها لا تثبت إلا باستدلال لا بحصول المعرفة. وبعبارة أخرى فإن أهمية النهج الاستدلالي تنحصر في دائرة اثبات الواقع وليس في ادراك الحقائق وشهودها.
اعتبر الإمام (قده) ان المرحلة الأرفع والأعلى على مستوى الحصول على النتائج اليقينية والمعرفية هي مرحلة الكشف والشهود، اما الوصول الى هذه المرحلة فلا يحصل إلا بعد قطع المراحل الاولى ومن بينها البرهان والاستدلال، وهذا يعني ان البرهان والاستدلال امر ضروري لمعرفة الحقائق وتحليل الظواهر، لكنه ليس الاداة والوسيلة التي توصل الى المعرفة اليقينية التي لا يعتريها الشك، وكل ما حصل من الطريق الشهودي فقد حصل له البرهان والاستدلال.
وقد تحدث الإمام (قده) عن هذا المنهج والأسلوب مطلقاً عليه الفلسفة العليا والحكمة الالهية، معتبراً ان هذه الحكمة والفلسفة تختلف عن الفلسفة المتعارف عليها، وهذا ما تدل عليه سيرة الأولياء عليهم السلام في وصولهم الى مشاهدة حقائق المعارف، وهذا لا يتم إلا من خلال تجاوز المنازل العرفانية وعدم التوقف على اعتبار البرهان هو الأصل في ذلك.
ثم ان الإمام (قده) يتوقف عند تعريف هذه المرحلة ويبين أهم الأمور التي تشكل الأساس المبنائي لها، يقول: انها حالة وكيفية نفسانية تحصل من العلم البرهاني التام بمقام توحيد الله الفعلي والإيمان بهذا المقام، أي انه بعد ان استنار من طريق العقل، وبالبرهان القوي الحكمي، والشواهد النقلية المستفادة من النصوص القرآنية واشارات كتاب الله وبدائعه والأحاديث الشريفة، وعليه فإن الحقائق البرهانية والمعارف الفلسفية مرحلة من مراحل معرفة الحقائق والمرحلة الأعلى هي انحدار هذه المعارف من دائرة العقل الى قلب الانسان، وهذا الذي اصطلح على تسميته بالشهود.... اما المواد الاولى لهذا الشهود فتبدأ من العقل الى الشواهد النقلية والنصوص القرآنية والأحاديث الشريفة باعتبار ان هذه المواد مستقاة من مصادر فوق بشرية تتمتع بمستوى عالٍ من اليقين والصدق، حيث ان رفع كل الاهتمامات التي تؤدي الى نقص وقصور النظرية وشموليتها يؤدي بها الى نوع أكبر من المقبولية.
وهنا يمكن المقارنة بين منهج الإمام وبين مدرسة الحكمة المتعالية الفلسفية التي كانت محاولة للتقريب بين العقل والنص والشهود لأجل الوصول الى الحقائق المعرفية الدقيقة.
وبعبارة أخرى ان مواجهة أي ظاهرة من أكثر من جانب تؤدي إلى امتلاك قدرة عالية في تحليل تلك الظاهرة، وبالتالي عدم الاقتصار على دراسة جانب منها دون آخر. بمعنى ان الحكمة المتعالية كانت تتجه لتقديم رؤية كاملة من خلال فهم وتحليل كافة جوانبها، الفارق ان الإمام في هذه الرؤية قام بتغيير كيفية التعرض لهذه الجوانب فأصبح العقل عنده مرحلة وليس جانباً يطل من خلاله بشكل مستقل على النظرية.
من جهة أخرى أود التذكير هنا برسالة الإمام الخميني (قده) الى غورباتشوف حيث طلب منه وهو يسعى لاصلاح الاتحاد السوفياتي ان يدرس تآليف صدر المتألهين وابن عربي ويحقق فيهما، وفي هذا دلالة واضحة على ان المنهج اليقيني لا يتم إلا عبر أدوات كانت الايديولوجية تلك غافلة عنها، تجلت بشكل واضح في مدرستي صدر المتألهين وابن عربي حيث كان الكشف والشهود الباطني هو المرحلة الأهم، هذه المرحلة بكامل مقدساتها بالاخص الوحي كانت تشكل الحجر الاساس نحو البناء العقيدي والايديولوجي.
أخيراً ان دراسة متأنية لمنهج الإمام (قده) ستقودنا من دون شك لاكتشاف العلوم والمعارف التي عمل على معالجتها، تبدأ من القرآن الكريم مخزن العلوم والمعارف الحقيقية، فكيف تعامل الإمام (قده) مع هذا الكتاب السماوي وما هو المنهج الذي أقبل بواسطته عليه، هل كان الإمام مجرد مفسّر يقوم بإعطاء كل كلمة معناها اللغوي أم غير ذلك. ثم العرفان المنظم الذي تحكمه الشريعة حيث اتخذ الإمام منحىً مغايراً لما تعارف عليه أكثر العرفاء حيث كانت الطريقة عين الشريعة عنده لا اختلاف بينهما، والشريعة بكامل محتوياتها توصل الى الحقيقة، ومن هنا يمكن الاطلالة على العرفان الحقيقي عند الإمام.
ثم ننتقل الى العلوم العقلية عند الإمام حيث أولاها أهمية بالغة وكبيرة لانها مقدمة ضرورية للوصول الى العلوم الحقيقية... هكذا عندما سبر الإمام غور العلوم والمعارف واستخرج مكنوناتها كان همه الوصول الى الحقيقة وهي تدور مدار اليقين والواقعية..

2008-06-03