ارشيف من :خاص

يـوم أرادت اسرائيل اقتلاعنا(2)

يـوم أرادت اسرائيل اقتلاعنا(2)
منهال الأمين

(يوميات صامدين في عيتا الشعب)

إلى عيتا الشعب در. لم يمر يوم في حرب تموز/يوليو ، لم تُذكر فيه البلدة، إما مقصوفة بالدبابات والطائرات المعادية، إذ أحصي سقوط الآلاف من القذائف والصواريخ، أو بالحديث عن توغل إسرائيلي في أراضيها، ينتهي بكارثة على القوات المتقدمة.‏

في الحارة الغربية، حيث يطل عليها جبل «أبو طويل»، في واحد من تلك البيوت التي‏ ذاق الصهاينة فيها مر الهزيمة، جلس الحاج عبد الكريم دقدوق (مواليد 1914)، محاطاً ببعض من بناته و«كنائنه»،«يشكّون» الدخان، بعد مرحلة القطاف التي تمتد بضعة أسابيع أحياناً، إذ كانت «الميابر» والخيطان بين الأيادي السمر، تحكي بعضاً من فصول حكاية شتلة التبغ التي رافقت الوجع الجنوبي ردحاً من الزمن، ولا زالت شاهدة على همة الجنوبي العالية وعزمه الهادر، على رغم «جفاف» الموارد في أرضه المعطاء. 

يستقبلك الشيخ التسعيني الحاج أبو مصطفى دقدوق (وهو جد الشهيد عبد الكريم دقدوق) في باحة داره التي لم تسلم من القصف والتدمير (دمار جزئي)، ولكنها كانت أشفى حالاً من منزل «حسن هيدوس» أحد أبناء عيتا الشعب الذي لجأ إليه أبو مصطفى مع بعض من عائلته.‏

كانوا خمسة أشخاص، لا أكثر، عند الرابعة فجراً، الجميع يغطون في سبات عميق قلما تهيأ لأحد خلال الحرب، وخاصة في عيتا الشعب حيث القصف على مدار الساعة، والطائرات الحربية لا تغادر الأجواء. استفاق الحاج عبد الكريم من نومه الهانئ، على صوت مخيف، سرعان ما تبعه تساقط للحجارة والتراب على جسده، وأحس بألم في كتفه لا زال يرافقه حتى الآن، بسبب حجر سقط عليه، إلا أنه يؤكد أن «التتخيتة» التي كان ينام تحتها، دفعت عنه موتاً محققاً، حيث سقطت فوقه بشكل مائل.‏

يـوم أرادت اسرائيل اقتلاعنا(2)

قصف الصهاينة المنزل. لم يدرك الحاج عبد الكريم ما حصل إلا أنه سمع صوت صهره الحاج أحمد عبد النبي يرتفع مخنوقاً «كشفولي وجي».. أخذ يردد ذلك مراراً، إلا أن أحداً لم يستطع الوصول إليهبسبب الظلام الدامس والغبار، حتى أن أرض الغرفة المدمرة امتلأت بالوحول الناجمة عن انسكاب المياه الموجودة معهم للشرب. عمت الفوضى المكان. سمع الحاج عبد الكريم صوت ابنته تنعى زوجها «راح الحاج أحمد».. وبالفعل فقد استشهد صهر الحاج عبد الكريم على مقربة منه، وكان هو بحاجة لمن يساعده على الخروج من المكان الذي حوصر فيه، حيث كان حجر كبير يجثو على ركبتيه.‏

يروي الحاج عبد الكريم روايته بكل التفاصيل، ويتذكر كيف أنهم في الأيام الأولى للحرب كانوا يترددون على منزلهم بين الفينة والأخرى، فيجلبون ما يحتاجونه من المونة ويقفلون راجعين إلى ملجئهم القسري، حيث خبزت بناته خلال أيام قلائل كيسين كبيرين من الطحين، خبزاً للمقاومين وللصامدين في البلدة. إلا أن اشتداد حدة المعارك، حيث كان العدو يحاول جاهداً التقدم من جهة موقع الراهب الحدودي لسحب إحدى دباباته التي دمرها المقاومون عند أطراف البلدة، بعد عملية الأسر الشهيرة، ألزمتهم المنزل المذكور (والذي لم يكن آمناً على ما يبدو كما المئات من بيوت عيتا الشعب ) فانقطع عنهم الطعام، وصاروا يقتاتون على خبز يابس مبلول بقليل من الماء.‏

وتروي الحاجة فضة ضاحكة كيف أنها صارت تمنع عمها (أبا مصطفى) من إطلاق العنان لنفسه بالكلام كما هي عادته في أوقات السلم، حتى السعال منع في تلك اللحظات الحرجة، إذ لم نعد نميز صوت الصديق من صوت العدو.

لم يصدق أحد أن الحاج أبا مصطفى خرج من ذلك المنزل حياً، ولكن الشيخ العنيد عاد يزرع أرضه من‏ جديد، في الحقل قرب المنزل وفي غيره من أراضٍ في البلدة، فلا شي‏ء أقوى من انغراس يد الفلاح في أثلام الأرض السمراء المعطاء، فكيف إذا كانت أرض الجنوب التي رواها عرق ودماء أبنائها، كالحاج عبد الكريم الذي قدم حفيده وسميه شهيداً على درب التحرير، ثم صهره الذي استشهد على مقربة منه؟ وهو خرج من بطون الموت سالماً، إلا من بعض جروح التأمت سريعاً، وشح في النظر، حرمه لذة قراءة القرآن الذي به لهفة كبيرة لقراءة آياته كما كان دأبه دائماً. كما أنه يجد صعوبة في الانكباب على الشعر الذي يجيده، فتضيع منه فرصة تدوين بيت من الشعر «عنَّ» له عن سيد المقاومة وعن شباب أبطال، كان يرى خيالاتهم تسرح في الحارة الغربية وقرب مدرسة عيتا وعلى تخوم موقع الراهب وعلى قمة جبل «أبو طويل»، وعند الحدب، حصن الضيعة ورباطها، حيث قارعوا المحتل بين الحقول، وفي الوديان وعند السفوح، وحين توغل المحتل، أقسموا أن «لا عودة إلى ما قبل 25 أيار 2000»، فكانوا يتصيدون الجنود الصهاينة واحداً تلو الآخر، ويكمنون للآليات المتقدمة، ويلتحمون معها في مواجهات الأمتار المعدودة. هم أهل الأرض وأدرى بشعابها، هم ملح الأرض، هم حياتها وروحها. في أزقة عيتا وعند أطرافها وفي كل مكان ظن المحتل أنه سيكون آمناً فيه، كانوا الجحيم للعدى، والثلة التي غيرت المعادلات.‏

يـوم أرادت اسرائيل اقتلاعنا(2)

كانت ملحمة بطولية في عيتا الشعب، ولكنها كانت أيضاً مأساة كبرى لم يُحك عنها حتى اليوم كل شي‏ء.‏

يقول أبو رامز سرور (80 عاماً)، إن هذه الحرب قطعت رحمه فهو ظل يحرس منزل أخته المقعدة في الأيام العشرة الأولى من الحرب، فيأتيها بالطعام والشراب. وقد سعى جاهداً لتأمين سيارة إسعاف تنقلها خارج البلدة، إلا أنه لم يوفق (حتى أن الإسعاف تعرضت للقصف حينما اقتربت من المنزل). ولكن كيف له أن يحرسها من الصواريخ المدمرة التي دكت منزلها فسوته بالتراب على من فيه، أم وأب وولدهما؟‏

الحرب حصدت أحبتنا، ولكنها لم تكسر إرادتنا. هذا لسان حال الحاجة أم حسين دقدوق، التي استشهد زوجها الأستاذ علي دقدوق وهي ساجدة تصلي قربه. وتسترجع أم حسين برباطة جأش الجنوبية الأصيلة تلك اللحظات المشهودة في حياتها: «رفض أبو حسين الخروج من الضيعة مهما كان الوضع سيئاً، معتبراً أن التهجير مذلة والبقاء في الأرض أشرف ولو دُمرت البيوت على رؤوس ساكنيها». فعلاً، هكذا جهز الأستاذ علي دقدوق بندقيته الإنكليزية القديمة تحسباً لدخول اليهود إلى البلدة، ولجأ مع زوجته (جميع أولاده نزحوا من البلدة) إلى منزل ظنوه آمناً في حي الزهراء. «مرت علينا أيام صعبة جداً» تقول أم حسين «بعض الليالي لم نكن ننام أبداً لشدة القصف وأصوات الانفجارات»...‏  

كان أبو حسين على موعد مع شهادة يعد نفسه بها دائماً، تحسده أم حسين «نيالو.. طلع من الدنيا راضي.. انبسط كتير بالبارجة اللي انضربت بالبحر.. ولكنه كان يمني نفسه برؤية أولادنا الذين تفرقوا في البلاد»..‏

وعن ليلة الفراق العصيب تقول الحاجة دقدوق: «كان ذلك بعد الهدنة بيومين، ليلتها لم يهدأ لنا جفن، لا أكل، لا شرب.. حتى أن الغبار والتراب كان يصل إلينا من البيوت المحيطة بنا والتي كانت تتعرض للقصف...».‏

أعدت أم حسين لزوجها مما تيسر قرصين من العجين (طحينة بدل الطحين)، كوباً من الحليب، أتبعته بفنجان قهوة، ما شجع أبا حسين على تحضير «راس أركيلة».‏

كانت أم حسين، والتي غالباً ما كانت تستعين على هذه الشدة بقراءة القرآن والدعاء إلى اللَّه تعالى بنصر المجاهدين، ساجدة تدعو وتتضرع، بينما كان زوجها على بعد مترين منها، جالساً يحمل الراديو (رفيق الحروب والحصار) بين يديه، متابعاً آخر الأخبار. فجأة دوى انفجار قريب فتناثر الزجاج من حولهما. لحظات قليلة سقط الصاروخ الثاني على المنزل مباشرة. أظلمت الدنيا في عيني أم حسين، «وجدت نفسي تحت الركام، لا أستطيع أن أميز شيئاً من حولي، ناديت زوجي لم يجبني، كررت النداء فلم أسمع له حسيساً، حينها صرخت بكل قوتي، فسمعت أنيناً ضعيفاً. ناديته مرة أخرى ولكن. دون جدوى».
يـوم أرادت اسرائيل اقتلاعنا(2)

حينما أيقنت أم حسين أن زوجها قد استشهد، خرجت من المنزل باتجاه الشارع، سمعت الجنود الصهاينة يتحدثون على الأجهزة اللاسلكية، فتوجهت نحو الشارع الرئيس في البلدة، حافية القدمين، مصابة بإحداهما، وتكمل: «التقيت بشابين من البلدة، طلبت منهما المساعدة لانتشال جثة زوجي من تحت الركام، فأخبراني أن هذا حال الكثيرين ممن استشهدوا في البلدة، وأن لا سبيل لرفع الأنقاض خاصة بعد أن انقطعت عيتا عن العالم الخارجي بشكل كامل».‏

صممت أم حسين على أن تشد على قلبها، وأن تكمل الدرب إلى نهايته، فلا هي انهارت مما حل بها، وحرصت على ألا تصبح عبئاً على المقاومين، فصارت سنداً وعوناً لهم، تعد الطعام وتعجن وتخبز، وتحضر الفريك والبرغل وحتى المهلبية. وسلواها دائماً الدعاء وتلاوة القرآن.‏

كل هذا والمعارك على أشدها في الحقول والأودية المجاورة، حيث كانت تسمع اليهود يدعون أهالي عيتا للاستسلام وإلا... فالمصير الدمار.‏

لا ترى أم حسين نفسها من أصحاب المصائب، وهي تتأسى بالكثيرين ممن فقدوا أحبتهم وأهلهم في هذه الحرب. وعلى رغم خسارتها الفادحة وحنينها إلى زوجها الذي قضت معه أجمل أيام عمرها، وأنعما عيناً بأولادهما يكبرون ويتعلمون ويتزوجون وينجبون، إلا أنها ما برحت تردد «هنيئاً له الشهادة جنباً إلى جنب مع المجاهدين الأبرار».‏

‏تأخذك الرحلة على جناح من قوة العزم الجنوبي، تكمل مع الحدود فتمر في «رميش» جارة الرضى، التي يحفظ لها أهل عيتا الشعب والقرى المجاورة، أنها كانت لهم ملتجأً ساعة الشدة، حيث أووا إلى بيوت «الإخوان في رميش» كما يدعوهم أهالي عيتا الشعب، يقاسمونهم طعامهم وشرابهم على قلته . ثم تميل إلى يارون التي أتى الدمار على كثير من القصور والبيوت الفخمة التي تتميز بها البلدة، التي هاجر كثير من أبنائها زمن الاحتلال.

 ذكرى حرب تموز، المسافة بين العقل والقلب، تختصرها إرادة مقاوم، أبى أن يدنس المحتل أرضه، أو أن يعود به إلى زمن قحط، فاستبسل وقاتل، وكان الشعب له خير عون وسند.‏

2011-07-28