اذار - الجمعة 09/03/2001


القدس في الشعر الوطني‏
ثورة الثلاثينات الكبرى وقصائد النكبة


حين ثار الشعب العربي الفلسطيني عام 1936 ثورته المشهورة ضد الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية الصهيونية الى فلسطين، رصد الشعراء هذه الاحداث العظيمة وتفاعلوا معها، معلنين وقوفهم مع الشعب ضد الأعداء مهما تعددت أشكالهم وأسماؤهم، ومن هؤلاء الشعراء عبد الكريم الكرمي(أبو سلمى)، الذي نظم قصيدته «يا فلسطين» في العام نفسه الذي اشتعلت فيه الثورة، واستذكر فيها وقوف الخليفة عمر بن الخطاب على جبل المكبّر، قبل دخول بيت المقدس. يقول:

جبل المكبّر طال نومك فانتبه‏

                                    قم واسمع التكبير والتهليلا

فكأنما الفاروق دوّى صوته‏

                                    فجلا لنا الدنيا وهزّ الجيلا

جبل المكبّر لن تلين قناتنا

                                   ما لم نحطم فوقك البستيلا

والشاعر هنا لم يلجأ الى استذكار هذه الشخصية الاسلامية التي ارتبطت بعزة القدس وتحريرها، هرباً من مواجهة حاضره الذي يعيشه فحسب، وإنما كان يقصد استثارة الامة العربية والاسلامية علّها تعيد ذاك الماضي المجيد. وما يؤكد هذا الذي نذهب اليه ان «أبا سلمى» قد فزع الى استذكار شخصية اخرى لها ارتباط بتحرير القدس، ونعني بها صلاح الدين الايوبي، كما يتضح من قصيدته «فلسطين»، وذكر فيها ان فلسطين «أخت صلاح الدين».

فاستذكار مثل هذه الشخصيات في الشعر يعطي هذه القصائد قيمة تاريخية، لأنها تكشف جانباً مهماً من جوانب مدينة القدس في مسيرتها التاريخية الطويلة. كما ان استذكار مثل هذه الشخصيات يلفت النظر الى مفهوم الشاعر للزمن وطبيعة تعامله معه، اذ ليس من الضرورة ان يقف الشاعر عند تاريخ عصره، وإنما قد يزامن عصره او يختار نماذجه عن الماضي، او يتصور مستقبلاً يتجاوز الحاضر والماضي معاً.

قرارات التقسيم‏

كما سجّل الشعراء موقف الشعب العربي الفلسطيني من لجان التحقيق وقرارات التقسيم التي صدرت عن الأمم المتحدة برعاية دول الغرب الاستعمارية.

وأدان هؤلاء الشعراء تلك اللجان الظالمة والقرارات البائسة، كما يتضح من قصائد عدد من الشعراء مثل: قيصر خوري، البيتجالي، العبوشي، حسن البحيري، مصطفى زيد والكيلاني وغيرهم، ممن نددوا بالاحتلال البريطاني علانية ودعمه لليهود الطامعين في الوطن الفلسطيني.

النكبة الكبرى‏

كان معظم الشعر الوطني الفلسطيني في هذه الفترة يعرض للقدس وما يتصل بها من خلال تناوله للنكبة، وما حلّ بهذا الشعب نتيجة ذلك من رحيل وتشرد ولجوء، اذ ترك معظم أهل فلسطين بلادهم وغادروها الى البلاد العربية المختلفة، يرقبون لحظة العودة الى وطنهم بشغف مشوب بألم التشرد والضياع.

وقد تفاوتت عناية هذه القصائد الوطنية بالقدس، فبينما كانت بعض القصائد تشير الى القدس اشارة عابرة، كان بعضها الآخر يقف عند القدس وقفة أطول ليحدثنا عما لحق بالقدس من عار الاحتلال، او يكشف لنا عن الحزن الذي يعتصر قلوب أهلها. وإلى جانب هذين الصنفين او القسمين من القصائد، نجد قسماً ثالثاً منها كادت تكون مخصصة للحديث عن القدس وما يتصل بها.

فمن قصائد الصنف الاول قصيدة «فلسطين الثكلى» ل«فؤاد الخطيب»، و«النكبة الكبرى» ل«محيي الدين الحاج عيسى» في ديوانه «من فلسطين وإليها»، و«هياكل البؤس» ل«حنا جاسر» في ديوانه «أمة وجراح»، و«عرش الفداء» ل«يوسف الخطيب» في ديوانه «العيون»، و«صرخة» ل«هارون هاشم رشيد» في أعماله الشعرية الكاملة، و«نداء» ل«سلمى الجيوسي» في «العودة من النبع الحالم»، و«في الميدان» ل«ناجي علوش»، و«غداً موعدنا» ل«محمود الأفغاني»، و«ثورة وفداء» ل«محمود الروسان» في ديوانه «على درب الكفاح».

ومن قصائد الصنف الثاني التي توقفت عند القدس أكثر من قصائد الصنف الاول: «الضفّتان لنا» للشاعر «هارون هاشم رشيد»، التي قدم لها بقوله: «كتب الشاعر اليهودي.. شاعر عصابة الأرغون «أراخ»، قصيدة حول نهر الاردن قال فيها: «ضفتا الاردن لنا، الغربية وقبلها الشرقية هما «ملك اسرائيل»، كل نهر له ضفتان، والأردن المقدس لنا بضفتيه، ورداً عليه باسم كل ما في العروبة من ثأر ووحدة ونضال أقول».

فالشاعر يرد على أحد شعراء اليهود مقولته، ويهاجم الصهاينة وبتحداهم، مؤكداً حق العرب في ضفتي نهر الاردن: الشرقية والغربية.

لنا فلسطين مهما شد أزرهم‏

                             المستعمرون ومهما حولهم كثروا

لنا لنا الاردن العربي منبعه‏

                               والضفتان لنا والماء والشجر

لنا المكبر هل ينسى وقد هدرت‏

                               «الله اكبر» اذ نادى بها عمر

الله اكبر قد هزّت جوانبه‏

                                  لا تنمحي أبداً مهما بها كفروا

اما قصائد الصنف الثالث فتمثلها قصيدة «أورشليم» للشاعر «راشد حسين» التي ضمنها ديوانه «صواريخ»، والذي افتتحها مخاطباً «مدينة الزيتون» و«ربة الزيتون» التي يعشقها ويحبها. والشاعر يعود الى مدينته القدس بعد ان أُجبر على تركها فترة من الزمن، وإذ بزيتون حبه لها قد غدا مثمراً.

فالزيتون في بداية القصيدة شجر حقيقي، لكنه يغدو في نهاية المقطع الاول من القصيدة «زيتون حب الشاعر»، فالحقيقة والمجاز يتداخلان من دون ان يبدو في الصياغة شي‏ء من النفور او النشاز.

ثم يخاطب الشاعر مدينة القدس:

يا أورشليم الحب لو لم ينتهِ التصريح‏

                                     لظللت فيك مجرحاً لتضاعفي التجريح‏

بمغافر الزيتون‏

                                      ولاحتسي من كأس حبك ثرثرات الغيد

فالشاعر يحدثنا في القصيدة عن الحب المتبادل بينه وبين القدس «مدينة الزيتون»، في اطار من العشق الخالص وذكر المدينة الأسطورة، مما يجعل القصيدة نموذجاً من نماذج الشعر الغنائي الذاتي، ولكنها ذاتية غير قاصرة، فهي لا تخص الشاعر وحده، وإنما تصلح ان تكون لسان حال كل ابناء الوطن الذين فارقوا وطنهم مرغمين. وهذا يعكس صدق تجربة الشاعر، وعمق انتمائه لوطنه ومدينته، وحسن استغلال الادوات الفنية في التعبير عن هذه الصلة المتينة بينه وبين وطنه. كما ان ذكره للحال الجديدة واختياره للمصطلح الذي  ......  في حياة المواطنين (التصريح) بدل قربه من الاحداث، وانغماسه فيها بكل جوارحه النازفة أبداً.

غازي خلف‏