ارشيف من :آراء وتحليلات

العقوبات ضد روسيا سترتد على اوروبا

العقوبات ضد روسيا سترتد على اوروبا

يستغرب كثيرون الموقف الاوروبي المعادي لروسيا، والسائر بشكل ذيلي خلف الموقف الاميركي، فيما يتعلق بالازمة الاوكرانية وفرض العقوبات غير المبررة على روسيا. فاذا كان موقف الامبريالية الاميركية التي تطمح الى الهيمنة على العالم هو "مفهوم" و"طبيعي"، فإن موقف اوروبا، المضر بمصالحها بالذات، هو غير مفهوم من قبل كثيرين.

ومع كل اهمية الوضع الراهن (conjuncture) في العلاقات الدولية، ففي رأينا المتواضع ان ذلك يعود بدرجة اساسية الى الثقافة السياسية السائدة في الغرب والتي تنظر الى روسيا نظرة عداء منذ زمن بعيد.

العداء الغربي التقليدي لروسيا

بعد سقوط وتدمير قرطاجة، التي كانت تمثل خط الدفاع الامامي والرئيسي بوجه روما، سنة 146ق.م، وابادة حوالى نصف اهاليها الـ700 الف وبيع من بقي حيا منهم عبيدا للنخاسين اليهود الذين كانوا على الدوام يرافقون الجيش الروماني، للمتاجرة بالاسرى والسبايا والمنهوبات، ـ بعد هذه الكارثة الانسانية التي خطـّت مستقبل البشرية لالاف السنين القادمة، اكتسحت روما افريقيا الشمالية وفينيقيا القديمة وسوريا الطبيعية كلها وآسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان وبلغت شبه جزيرة القرم والشواطئ الشرقية للبحر الاسود، ولكنها توقفت عند حدود المنطقة السلافية ـ الروسية (التي تعرف اليوم بالدولة الروسية، بما فيها اوكرانيا التي كانت تاريخيا جزءا لا يتجزأ من روسيا)، وذلك بسبب الطبيعة الصقيعية القاسية لتلك المنطقة وصعوبة العيش فيها، من جهة، وبسبب قوة شكيمة سكانها، من جهة ثانية. ولكن اذا كانت روسيا قد نجت من الاستعمار الروماني المباشر، فإنها تحولت الى "منجم عبيد ورقيق ابيض" للرومان المتوحشين (الوثنيين ثم الكاثوليك) واليهود (الخزر) والمسلمين المزيفين (المغول والتتار والعثمانيين)، وفيما بعد للصليبيين الشماليين (الجرمان والسويديين والليتوانيين وحتى البولونيين الذين تنكروا لسلافيتهم وللمسيحية الشرقية الارثوذكسية وتبنوا الكاثوليكية (مثلما تبنى التتار والعثمانيون الاسلام) طمعا في استعباد الروس والقوزاق والاوكرانيين واستعمار اراضيهم.

العقوبات ضد روسيا سترتد على اوروبا
العقوبات الأوروبية على روسيا

الروس = عبيد

ومنذ ذلك الزمن صارت كلمة (slave) او (esclave)، التي كانت تعني في الاصل: سلافي او صقلبي (وبالتالي جميع الروس)؛ ـ صارت تعني: العبد. ودخلت بهذا المعنى في قواميس جميع لغات اوروبا الغربية. وقد بنيت الثقافة السائدة في اوروبا الغربية كلها على عدم اعتبار روسيا جزءا من اوروبا، بل اعتبارها "مدى حيويا" لاوروبا، كما هي افريقيا واسيا، وعدم اعتبار الروس اوروبيين متحضرين، بل برابرة وهمجا ومخلوقات "شبه بشرية" مكرسة للاستغلال والاستعمار، اي تماما كما هي النظرة اليهودية الى سائر البشر والنظرة الغربية الى الافارقة والاسيويين. ونظرة الاحتقار والعداء الاوروبية، للروس، ترتبط ارتباطا وثيقا باعتبارهم عبيدا. كما ان نظرة الحقد الاوروبية على الروس، ترتبط ارتباطا وثيقا بالمقاومة الشديدة للروس ضد الغزاة والمستعبدين وتحطيمهم وسحقهم للغزاة على مر التاريخ، من الرومان الى الخزر الى المغول والتتار والعثمانيين الى الصليبيين الشماليين الى نابوليون الى هتلر. اي ان الاوروبيين يحقدون على المقاومة الروسية للعبودية، مثلما يحقد اليهود على المقاومة الفلسطينية واللبنانية والشعبية العربية، ضد العهر والعربدة اليهوديين.

روسيا = عدو

ومع ان روسيا هي التي انقذت اوروبا من العبودية المطلقة للوحش النازي ـ الالماني في الحرب العالمية الثانية، فإن اوروبا ترى في قوة روسيا لا قوة لها، بل خطرا عليها. وفي الوقت الذي عادت فيه اوروبا لاحتضان المانيا، فهي تعتبر "منقذتها" روسيا "عدوها الطبيعي". وهذا ما يفسر انضمام اوروبا الى حلف الناتو، ومن ثم تشكيل "الاتحاد الاوروبي"، بمعزل عن روسيا، وضد روسيا، وذلك حتى قبل ان ينجلي دخان الحرب العالمية الثانية، وفي وقت كانت فيه اوروبا بأسرها لا تزال تقيم القداديس على ارواح ضحايا النازية، ولنترك جانبا نعيب اليهود على الهولوكوست. اي ان اوروبا التي تنوح على ضحايا النازية، تصوب اسلحتها لا ضد احفاد النازيين الذين يعربدون الان في اوكرانيا، بل الى صدر روسيا، "منقذة اوروبا" من النازية. وهذا يمثل اقصى درجات العنصرية الحيوانية التي لا علاقة لها بأي منطق انساني، ومنتهى الانحطاط الاخلاقي والحضاري في الثقافة السياسية السائدة في اوروبا، مما لا يوجد مثيل له الا في "الثقافة الدينية!!!" للتكفيريين الدواعش وامثالهم مدعي الاسلام.

اوروبا ذيل اميركي

واليوم، وبالرغم من وجود تعارض اساسي بين مصلحة اميركا والمصالح الحيوية للشعوب الاوروبية، فإن الحكومات الاوروبية بيمينها و"يسارها" وقفت الى جانب الموقف الاميركي المعادي لروسيا، وانضمت الى اميركا في سياسة فرض العقوبات الاقتصادية وغيرها ضد روسيا. وهذا بالرغم من ان روسيا تعمل الكثير من اجل التقارب مع اوروبا وتنفق عشرات مليارات الدولارات لبناء خطوط انابيب الغاز والنفط العملاقة لتزويد اوروبا بالطاقة التي هي في اشد الحاجة اليها.

روسيا تتمسك بمبادئ التعاون مع اوروبا

ان السياسة الرسمية الروسية تتمسك بقوة بمبادئ التعاون والمشاركة والاندماج مع اوروبا، الا انها لا تفعل ذلك كبادرة ضعف او حاجة الى اوروبا، بل على العكس تماما، ان روسيا تريد ان تكون اوروبا قوية، وتريد مد يد العون الى اوروبا، وتدرك ان اوروبا ستكون قوية، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، بروسيا، وان اوروبا بدون روسيا هي كريشة في مهب الريح.

ولكن روسيا سترد بشدة على المواقف المعادية لها، وهذا ما يدفع روسيا الى ان ترد بشدة على العقوبات التي فرضت عليها، ليس لان هذه العقوبات ستهز شعرة في رأس الدب الروسي، بل لان هذه العقوبات هي تعبير في منتهى الوقاحة عن نكران الجميل والجحود الاوروبي تجاه روسيا. وهو ما ينبغي لاوروبا ان تدفع ثمنه.

دميتري ميدفيديف يتوعد

وفي مقابلة له مع التلفزيون الروسي "روسيا 24"، نقلتها وكالة إيتار ـ تاس، قال رئيس الوزراء الروسي دميتريي ميدفيدييف ان اوروبا ستدفع ثمن العقوبات التي فرضتها على روسيا، من حصة اوروبا في السوق الروسية الكبيرة. وقال ميدفيدييف متنبئاً: "عاجلا ام آجلا وفي كل الاحوال سوف نتفاهم، وهذا واضح بشكل مطلق. فالعقوبات لن تدوم الى الابد. ولكن تلك الجيوب (المستهدفة بالعقوبات) في اقتصادنا، سوف يتم إشغالها اما من قبل منتجينا، وهو ما نتمناه كثيرا، واما من قبل منتجين آخرين اجانب، ـ وان شركاءنا الاوروبيين لن يستطيعوا العودة لملء تلك الجيوب. وهذا هو الثمن الذي يتوجب على اوروبا ان تدفعه". واضاف انه بالنسبة لروسيا، فإن العقوبات لا تمثل اكثر من 5% من المشكلات التي يتوجب على الاقتصاد الروسي حلها. واشار الى انه ينبغي استثمار مكامن جديدة للخامات، واعارة اهتمام اكبر لسيبيريا والشرق الاقصى. وهذا يتطلب توظيفات ضخمة، وهو ما سنقوم به بما في ذلك على حساب صندوق الاحتياط الوطني. وحسب تعبيره "في خلال عشر سنوات سيكون لدينا اقتصاد مختلف تماما، اقتصاد حديث، بصرف النظر عن القيود الموجودة الان". كما هدد ميدفيدييف باللجوء الى ردود غير متوقعة على العقوبات الاوروبية، مثل منع الطيران الاوروبي من استخدام الاجواء الروسية في الرحلات بين اوروبا واسيا. وقال "اذا فرضت علينا القيود، فإننا حتما سنرد. واذا اضطرت شركات السفر للطيران خارج اجوائنا، فهذا يمكن ان يؤدي الى افلاس الكثير من شركات الطيران، التي بدون ذلك تتأرجح على حافة البقاء او الزوال".

والحد من استخدام الطيران للاجواء الروسية، هو احد اشكال الاجراءات الفعالة التي تملكها روسيا بهدف الضغط الاقتصادي على الغرب. وبعد بدء تطبيق منع روسيا لعدد كبير من المنتجات الغذائية الغربية، بدأت حكومات اوروبية عديدة تعاني مشاكل كبيرة هي في غنى عنها في احد اهم اقتصاداتها.

وفي الوقت ذاته توعد ميدفيدييف بتطبيق "اجراءات غير متوقعة" على اوكرانيا. وحسب تعبيره فإن تطبيق القرار غير الذكي بالحد من تزويد القرم بالطاقة، سنرد عليه باتخاذ قرارات تتعلق بالطاقة ايضا. واشار الى ان اوكرانيا لا تدفع فواتير الغاز المصدر اليها، واصبحت الديون عليها كبيرة، وفي الخريف ستعاني من ازمة غاز حقيقية. وقال ان من حق اوكرانيا توقيع اتفاق المشاركة التجارية مع الاتحاد الاوروبي. ولكن من حق روسيا ايضا ان تدافع عن اسواقها وان تضع شروطا جديدة للتعامل التجاري مع اوكرانيا، التي كانت تتمتع بامتيازات خاصة في السوق الروسية، وهي ستحرم منها بعد الان.

بوتين يأمر بفرض عقوبات معاكسة على الغرب

وفي اعقاب صدور العقوبات الغربية على روسيا، اعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انه كلف الحكومة الروسية باتخاذ اجراءات مضادة دقيقة ضد القيود الغربية. وقال بوتين ان استخدام الادوات السياسية للضغط على الاقتصاد هو أمر غير مقبول، وروسيا سوف تدافع عن المنتجين الوطنيين لديها. "ان جواب روسيا على ما يسمى عقوبات الغرب ينبغي ان يكون دقيقا ومحكما. فمن جهة ينبغي تدعيم المنتجين الوطنيين، ولكن بدون الاساءة الى المستهلكين".

المزارعون الغاضبون يضرمون النار في مكتب للضرائب في فرنسا

وقد بدأت انعكاسات العقوبات الروسية المضادة تظهر في الشارع الاوروبي ذاته. وافادت بي بي سي ان مزارعي الفاكهة اضرموا النار في بناية مكتب الضرائب في مدينة مورليه الفرنسية، احتجاجا على انخفاض الاسعار. وقد عبر المزارعون عن غضبهم من هبوط اسعار سلعهم، بعد ان حرموا من امكانية التصدير الى روسيا.

اوروبيون يطلبون المعذرة من روسيا

هذا وقد ظهر في الاثير الالكتروني موقع خاص يقوم فيه المشاركون من مختلف البلدان الاوروبية بطلب المعذرة من روسيا، ومن فلاديمير بوتين شخصيا، بسبب مسلك حكوماتهم ووسائل الاعلام في بلدانهم حيال روسيا. وتقول احدى الرسائل المنشورة على الموقع، والموجهة الى فلاديمير بوتين، والمترجمة الى 15 لغة بما فيها اللغة الروسية "ان احداث الحرب في اوكرانيا تتعرض للتشويه، حيث يتم تقديمكم بصفة المعتدي، ولكن الوقائع تشهد على العكس. فإن العصابات النيوفاشستية ترتكب الجرائم يوما بعد يوم ضد سكان "نوفوروسيا" (الاسم الموحد الذي اتخذته "جمهورية نوفوروسيا" والذي يشمل مقاطعتي غدانسك ولوغانسك في جنوب شرق اوكرانيا المطالبتين بالاستقلال عن اوكرانيا). وهذه العصابات تتلقى الدعم المالي والسياسي من جانب الحكومات الغربية".

وجاء في عريضة منشورة على الموقع "ان مجرمي الغرب المرضى نفسيا يدفعون الى الحرب مع روسيا، لانهم يحتاجون الى عدو خارجي". ويوجه موقعو العريضة من المانيا، ايطاليا، فرنسا، بريطانيا وغيرها من البلدان، الانتقاد الى حكامهم قائلين " انهم بسذاجتهم يتكيفون مع السياسة الامبريالية العدوانية لاميركا". "اننا نشجب الطمع، والحقد وشهوة السلطة لدى ما يسمى "القادة" السياسيين. اننا نعبر عن الهلع والغضب لابادة ملايين الناس الابرياء باسم الحرية والدفاع عن النفس". وقد وقع على العريضة الى الان 11 الف شخص غالبيتهم من البلدان الاوروبية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
2014-09-25