ارشيف من :أخبار لبنانية
عملية اسرائيل الجراحية "نجحت" ولكن "المريض قد مات"!
خاص ـ "الانتقاد.نت"
أسفرت حرب تموز 2006 عن نظريات عسكرية جديدة، خاصة بالنسبة لسلاح الجو الأميركي الذي درس الحرب من زاوية أنها تشكل نموذجا لفشل استخدام القوة الجوية في مواجهة "التمرد".
رئيس تحرير مجلة "سلاح الجو الأميركي" روبرت دودني كتب تقريرا بحثيا حول الحرب بعنوان "الحرب الجوية على حزب الله" دافع فيها عن نظرية الحسم بواسطة سلاح الجو.
"من المشين اعتبار أنّ القوّة الجويّة الحديثة هي مجرّد نظريّة، إنّها واقع موجود".
في الثاني من آب 2006، صدر تقرير غربي تحت عنوان استفزازي "سقوط ادّعاءات السلاح الجوّي في لبنان". ويفيد التقرير أنّه في السّنوات الأخيرة اعتقد الخبراء أنّ اللجوء المكثّف للقوّة الجويّة هو الأسلوب الأضمن لكسب الحرب، بيد أنّ السلاح الجوّي الإسرائيلي المتفاخر لم يتمكّن من هزيمة حزب الله.
غير أن التقرير لم يعتبر أنّه لا قيمة للسلاح الجوّي الإسرائيليّ، بل أنّ فشله في إيقاف الهجوم الصّاروخي للميليشيا الشيّعيّة قد "أثار الشّكوك" حول "نظريّة" هذا السلاح.
متى كانت المرّة الأخيرة الّتي تمكّن فيها سلاح الجو الاسرائيلي من كسب حرب لوحده؟ أو حتّى سلاح الجو الأميركي؟ |
وتقوم فرق سلاح الجو الإسرائيلي الّتي يبلغ عددها واحدا وعشرين، بقيادة طائرات أف 15 وأف 16 واستخدام أسلحة دقيقة تعود لسلاح الجوّ الأميركي. ويلجأ السلاحان الجويّان إلى اعتماد تكتيكات متشابهة، لذا فإنّ أيّ ضعف يتمّ التماسه في أحدهما يدفعنا إلى التفكير بأنّه موجود في السلاح الآخر.
في الواقع، لم يُظهر سلاح الجوّ الإسرائيلي أيّ ضعف، بل على العكس أثبت لكلّ من يرغب بالمعرفة عن قوّة هائلة. إذ استطاع طيّارو سلاح الجوّ الإسرائيلي أن يقطعوا طرق الإمداد السّوريّة والإيرانيّة لحزب الله، ودمّروا مجموعات ضخمة من البنية التحتيّة للميليشيا، وقطعوا طرق الهرب وقتلوا مئات المقاتلين وقضوا على قيادات كبيرة وأجروا مراقبةً جويّةً دقيقة.
بالتالي، عمّا دارت الانتقادات إذاً؟
يبدو أنّ الموضوع الأساس هو أنّ سلاح الجوّ الإسرائيلي لم يثبت "قدرته على الحسم"، وبالتحديد فإنّ هذا السلاح لم يتمكّن لوحده من هزيمة مقاتلي حزب الله، وهم أصحاب القدرة القتالية والتنظيم العاليين الّذين أمضوا ستّ سنوات في تحضير مواقع شديدة التّحصين.
إذا كان هذا هو المعيار، فإنّ ما من جيش حديث سيتمكّن من اجتياز هذا الاختبار، ويمكن لأحدهم أن يوجّه السّؤال التّالي لمطلقي الانتقادات: "متى كانت المرّة الأخيرة الّتي تمكّن فيها سلاح الجو الاسرائيلي من كسب حرب لوحده؟ أو حتّى سلاح الجو الأميركي؟".
فضلاً عن ذلك، لم يكن سلاح الجوّ الإسرائيلي يعمل لوحده، حتّى أنّ الصّحافي شارلز كروثامر قد يلوم إسرائيل على "اتكالها الفاشل على القوّة الجويّة لوحدها". بيد أنّ السلاح الإسرائيلي وقوّات العمليّات الخاصّة والوحدات البحريّة كانت تعمل منذ البداية.
في السادس من آب 2006، صرّح نائب رئيس الحكومة ووزير الدّفاع السّابق شيمون بيريز لمراسلة مجلة "نيوزويك" أنّ إسرائيل قد خطّطت "لاستخدام القوّة الجويّة والقوّة البريّة لأسباب مختلفة". وأضاف بيريز "لقد لجأنا إلى القوّة الجويّة لقصف مقرّات حزب الله الرّئيسية. ثمّ قرّرنا تدمير وسائل اتّصالاته. أمّا الآن، فنحن نستعين بالقوّات البريّة لضرب المقاتلين لأنّهم يخبّئون أسلحتهم في منازلهم وقراهم".
المهمّة الأساسية لواضعي النظريات العسكرية هي تصوّر استراتيجية مؤثّرة تدمج ما بين سلاحي الجوّ والبر وتكون صالحة لمواجهة الإرهاب في العصر الحديث |
بدوره، قال بيريز: "لقد قصفنا الطّريق المؤدّية من سوريا إلى لبنان حتّى لا يتمكّنوا من إرسال الصّواريخ. كما قصفنا المدارج في مطار بيروت حتّى لا تُحضر الطّائرات الإيرانيّة المؤن".
لقد استهدف سلاح الجوّ الإسرائيلي 1200 موقعاً لإطلاق الصّواريخ والطّرق المؤدّية إليها. وفي اليومين الأوّلين للحرب، تمّ القضاء على قسم كبير من قوّة حزب الله الصّاروخيّة المتوسطة والبعيدة المدى بالرّغم من بقاء آلاف صواريخ الكاتيوشا القصيرة المدى والمتحرّكة.
ثمّ تأتي مسألة الضّحايا المدنيّين وهي مشكلة خضعت للكثير من التحليلات مع ارتفاع معدّل الاتّكال على سلاح الجوّ. الشاهد الأوّل على ذلك هو الهجوم الجوي الاسرائيلي في الثّلاثين من تمّوز 2006 على بلدة قانا، والذي نجم عنه مقتل 28 لبنانيّا. آنذاك، أعلنت إسرائيل أنّ حزب الله استخدم البلدة لإطلاق الصّواريخ.
في السياق، أدان اللواء الأميركي المتقاعد روبرت سكايلز، وهو قائد ميداني ضليع، "ردّ الفعل المبالغ فيه لسلاح الجوّ الإسرائيلي".
إنّ احتقار سكايلز للقوّة الجويّة يبدو واضحاً ولكنه "غير منطقيّ". هل يعتقد سكايلز فعلاً أنّ اجتياحاً إسرائيليّاً واسعاً قد ينجم عنه عدد قتلى مدنيّين أقلّ؟ الجميع يعلم أنّ اعتداءً بريّاً طاحناً سيكون أسوأ بكثير.
وتبقى الانتقادات الموجّهة للعمليّات الجويّة الإسرائيليّة في ذاكرة الّذين تابعوا نجاحات سلاح الجوّ الأميركي في حرب الخليج في العام 1991 والحملة الجويّة على صربيا في العام 1999 وحرب أفغانستان في العام 2001 وحرب العراق في العام 2003. في هذه الحالات، يجادل بعض المؤيّدين للجيش بالقول إنّ "القوّات الموجودة على الأرض"، وليس الطّائرات والضربات المحدّدة، هي من حقّق معظم الانتصار الأميركي. والآن كما في السابق، الذي يشكّل ركيزة الانتصار هو بنية القوّة والميزانيّات.
من الواضح أنّ حملة سلاح الجوّ الإسرائيلي لم تحدّ من تهديد صواريخ حزب الله، ويجب القول إنّ القوّات البريّة الإسرائيليّة عجزت عن تحقيق ذلك أيضاًً. وكانت إسرائيل قد نشرت عشرة آلاف فرقة عسكريّة في الميدان لعدّة أسابيع وجاء التقدّم ثابتاً ولكن بطيئاً.
ولكن هذا لا يغيّر الواقع القائل إنّ حزب الله تلقّى صفعةً لن يتمكّن من معالجتها في أيّ وقت قريب، والفضل الكبير في ذلك يعود للقوّة الجويّة. ومن المشين اعتبار أنّ القوّة الجويّة الحديثة هي مجرّد نظريّة، إنّها واقع موجود وقد لا تكون كافيةً بحدّ ذاتها أو "حاسمة" بكلّ ما للكلمة من معنى.
توصيات جامعة سلاح الجو
بدورها، أصدرت جامعة سلاح الجو الأميركي في قاعدة ألاباما العسكرية جملة توصيات في سياق معالجتها لحرب تموز 2006 من زاوية استخلاص العبر من «الفشل الاستراتيجي» لسلاح الجوّ الاسرائيلي وتلمّس قواعد جديدة تناسب الحروب ضدّ العصابات.
من أجل تقويم أداء سلاح الجوّ الاسرائيلي، تدعو الدراسة إلى "إدراك أن أولئك الذي يناقشون في ما فعلته إسرائيل، أو الذين فضّلوا مقاربة مختلفة، يعتمدون على عقيدة وأفكار وخلفية وبواعث خاصة بهم؛ الكثير من الانتقادات الموجّهة للأداء والاستراتيجية الإسرائيلية لا تقوم على وقائع حصلت، ولكنها تعتمد على قضية سلاح جو منهك: سلاح الجوّ لا يمكن أن يحسم حرباً، وطيّار لا يمكنه إدارة جيش، فالطيّارون يرغبون دائماً في كسب الحروب واستبعاد القوات البرية".
وتكمل الدراسة أنه «بغضّ النظر عمّا يظنّ الجيش الإسرائيلي وسلاح الجو أنّه دمّر في 12 تموز 2006، وبغضّ النظر عن حجم الإنجازات العسكرية في تدمير قوّة حزب الله الصاروخية، نحن أمام حرب مفصلية على صعيد حجم الدمار والتآكل (الاستنزاف) في القدرات. والمهمّة الأساسية لواضعي النظريات العسكرية هي تصوّر استراتيجية مؤثّرة تدمج ما بين سلاحي الجوّ والبر، وتكون صالحة لمواجهة الإرهاب في العصر الحديث".
استنتاجات
ـ «كلّ حرب في العصر الحديث لها قصّتها المعقّدة والسجاليّة؛ عاصفة الصحراء كانت تطبيقاً لمفهوم التكنولوجيا الحديثة ودقّة سلاح الجوّ. بالنسبة للبعض أثبتت حرب الخليج الأولى أنّ القصف الاستراتيجي لا ينفع، وأن على القوّات البرية إنجاز العمل واحتلال الأراضي.
لقد كانت الحملة الجوية في كوسوفو عام 1999 الحرب الوحيدة التي ربحها سلاح الجوّ، إذا تجاهلنا أن المخاوف من حرب برية قد دفعت بسلوبودان ميلوسوفيتش لتنفيذ ما هو مطلوب منه. أما عملية الحرية للعراق (غزو العراق عام 2003) فأطاحت نظرية الصدم والرعب بسبب التقدير غير الدقيق لنصر غير مكتمل.
ـ "خيّبت حرب 2006 الآمال مقارنة مع الحروب السابقة. وصف حزب الله ثباته في وجه الهجوم الإسرائيلي بأنه نصر إلهي، معلناً أنه يعيد التسلّح وأنه أقوى من أي زمن مضى سياسياً وعسكرياً. وكذلك زعمت الحكومة الإسرائيلية أن الحرب أعظم نصر عسكري وسياسي في تاريخ إسرائيل. إن الزعم أن إسرائيل أنجزت ما كان يجب عليها إنجازه في حرب تموز 2006 هو كالقول إن العملية (الجراحية) نجحت ولكن المريض قد مات".
ـ قد يكون أداء سلاح الجو الإسرائيلي في هذه الحرب «رائعاً، وقد يكون الجيش الإسرائيلي قد أنجز بالفعل تحولات صعبة على الصعيد الداخلي في خضم الحرب، ولكن مقارنة مع الأهداف الإسرائيلية، لم يتم إطلاق سراح الجنديين أو إنقاذهما، لم تُكبح صواريخ حزب الله (ولا حتى تلك البعيدة المدى)، أفرزت الهجمات الإسرائيلية انتقادات واسعة، القوات البرية اهتزت في مقابل عدو مقتدر ومجهز تجهيزاً جيداً".
ـ "لقد قاتلت إسرائيل خصماً لا يتحدّى وحسب معايير الحرب التقليدية، ولكنه أثبت أنه معقَّد ومستعدّ، ما يدفع إسرائيل (وبالتالي الولايات المتحدة) إلى السعي وراء مقاربات عسكرية مختلفة لإيجاد سبيل مؤثرة لمحاربة الإرهاب. إن تقويماً صادقاً لأخطاء إسرائيل يتطلّب التسليم بأن القيادة السياسية الإسرائيلية سعت منذ البداية وراء أهداف محقة لاستخدام سلاح الجو في هجوم استراتيجي:
1. إنّ المقاربة المركزية لدور سلاح الجو قابلتها قوّة العدو، وخاصّة بالنظر إلى اندماج حزب الله في المجتمع المدني اللبناني وحجم البنية التحتية التي بناها شمالي نهر الليطاني (بعيداً عن متناول القوات البرية الإسرائيلية).
2. إنّ إدراك معاني الحرب البرية التقليدية كان خارج إطار التحديث في المفهوم الإسرائيلي (أي أصبح المفهوم متخلّفاً) مقارنة مع طبيعة العدو أو الالتزامات التي كان القادة الإسرائيليون يسيرون بها.
3. لقد اتُّخذ القرار باستخدام سلاح الجو بسهولة بسبب عدم جهوزية سلاح البرّ.
وتختم الدراسة الاستنتاجات بالآتي: «إنّ المساواة بين مقاربة عسكرية مؤثّرة وعجرفة سلاح الجوّ أمر خاطئ. يناقش قادة إسرائيل، كما هي حال الولايات المتحدة في حربها العالمية على الإرهاب، بأنهم يواجهون عدوّاً جديداً ومختلفاً (دولة داخل دولة)؛ عصابة مجهزة جيداً تتحصّن بالمدنيّين. وحين جاءت ساعة الحساب في العام 2006، رسم الجيش الإسرائيلي خطّة تقليدية مُفتَرِضاً احتمال هزيمة حزب الله، وحتى إزالته، من خلال الدمار والاستنزاف. في مكان ما، علمت إسرائيل أن حزب الله مسلّح تسليحاً جيداً وأنّه قوّة متجذّرة ولها شعبية ضخمة في الجنوب اللبناني، ولكنها تغنّت بالتغييرات التنظيمية في هيكلية الجيش منذ عام 2000، ما وفّر صلاحيات أوسع لرئاسة الأركان وقيادة القوات البرية. وهذا الأمر تحقّق على حساب القيادة الشمالية وقيادات فيالق الجيش. إن تقويماً عادلاً لحرب تموز 2006 هو أن إسرائيل اختارت تدمير أقصى ما تستطيع في مهلة زمنية قصيرة في محاولة لكسب الوقت لمصلحة أمنها. إنّ إخفاق سلاح الجو في حرب تموز 2006 كان فشلاً استراتيجياً كبيراً في استخدام القوة في مواجهة الإرهاب. لقد أثبتت الحرب الحاجة إلى عملية انتقالية من المستوى التقليدي إلى أساليب (مناهج) حربية جديدة لمكافحة الإرهاب في المستقبل".
الخلاصة النهائية: "لقد فشلت إسرائيل في سرد قصّتها عن سلاح الجوّ".