ارشيف من :آراء وتحليلات
أعداء الأمس يتحولون الى اقرب ’أصدقاء المصلحة’ لروسيا
على اثر معركة بورودينو في روسيا سنة 1812 التي تحطم فيها نهائيا ما تبقى من جيش نابوليون الذي ذهب بنصف مليون جندي لاحتلال روسيا ولم يعودوا، وقد قاتل الجيشان بشجاعة فائقة في تلك المعركة، قال نابوليون كلمة مأثورة هي: "لقد اثبت الفرنسيون انهم يستحقون الانتصار! واثبت الروس انهم لا يهزمون!".
وعلى اثر الحرب العالمية الثانية، وبعد ان برز الجنرال شارل ديغول زعيم فرنسا بلا منازع، قال كلمة مأثورة أخرى هي: "ليس لفرنسا أعداء دائمون، ولا أصدقاء دائمون، بل مصالح دائمة!".
هاتان الكلمتان المأثورتان تجدان ترجمتهما العملية الان بشكل مركب في ما يمكن ان نسميه "حرب الغاز" الدائرة بين روسيا، كمصدّر رئيسي، وبين أوروبا، كمستورد رئيسي، للغاز.
فبالرغم من كل قوة وغنى وعناد الاتحاد الأوروبي، ومن ورائه او من فوقه اميركا واليهودية العالمية (بما فيها الصهيونية) بكل جبروتهما، يثبت الروس انه من المستحيل ان يهزموا.
ومن جهة ثانية يثبتون انهم لن يسمحوا بتحويل صداقتهم التاريخية، لبعض البلدان والشعوب والقوميات والاتنيات، الى "نقطة ضعف" تستغل لاجل اضعاف روسيا وابتزازها واخضاعها. وانهم مستعدون، الى اقصى حدود المناورة، لإدارة ظهورهم للاصدقاء غير الاوفياء وتركهم ينهارون اقتصاديا وسياسيا، والتعاون ذي المصلحة المتبادلة مع "الأعداء" التاريخيين انفسهم، للاحتفاظ بالمصالح القومية الأساسية لروسيا، التي لا تتعارض مع المصالح القومية للبلدان والدول والشعوب الأخرى ولا سيما مع جوهر الصداقة مع الحلفاء والأصدقاء الكلاسيكيين والتاريخيين.
ونعرض فيما يلي الخطوط العريضة لتطورات حرب انابيب الغاز التي تديرها الان روسيا بمهارة وحزم:
روسيا ادركت حاجات المستقبل
ـ1ـ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت في أوروبا مرحلة إعادة البناء والنهضة الاقتصادية. وبعد انتصار الثورة في الصين الشعبية في 1949، بدأت مرحلة بناء الصين الجديدة. ولاحت في الافق الحاجة المتزايدة لاوروبا والصين للطاقة. فالتقطت روسيا (منذ العهد السوفياتي) هذه اللحظة التاريخية، وبدأت بتنفيذ مشروع كبير للتحول الى اكبر مصدّر عالمي للطاقة ( النووية والنفط والغاز، الظاهرة الى الان)، بمعزل عن الاختلافات او الخلافات الأيديولوجية والدينية والسياسية الخ.
المنزلة الخاصة لاوكرانيا في روسيا
ـ2ـ ان روسيا وأوكرانيا هما من ارومة قومية ـ ثقافية ـ دينية واحدة، بل ان الدولة الروسية الأولى (المسماة تاريخيا: كييف روس) قد نشأت في كييف عاصمة أوكرانيا الحالية، وذلك قبل نشوء موسكو وبتروغراد (بطرسبرج) وغيرها من الحواضر الروسية. وتعتبر كييف "ام المدن الروسية". وفي سنة 988 جرى تبني الديانة المسيحية على المذهب الأرثوذكسي وتعميد الشعب الروسي في نهر الدنيبر في مدينة كييف بالذات، وذلك بقيادة امير كييف حينذاك فلاديمير، الذي طوبته الكنيسة الارثوذكسية قديسا ويلقب "فلاديمير المعمّد"، على غرار "يوحنا المعمدان"، لان الشعب الروسي تعمد على يديه. كما ان حوالى 40% من سكان أوكرانيا هم من الروس او الناطقين باللغة الروسية (في شبه جزيرة القرم كان يبلغ عددهم ـ قبل إعادة انضمام الأخيرة الى روسيا ـ اكثر من 70%). كل ذلك جعل أوكرانيا تحتل مكانة خاصة لدى روسيا شعبا ودولة، وكانت تتميز بمعاملة خاصة من قبل الدولة الروسية على مختلف الأصعدة. وفي الوقت ذاته تقع أوكرانيا على البحر الأسود، وتحدها روسيا من الشرق، وبولونيا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا ومولدوفا من الجنوب والجنوب الغربي.
وهذه العوامل شجعت روسيا على اعتماد مرفأ اوديسا الاوكراني، كمرفأ تجاري عالمي رئيسي لروسيا.
والاهم في ذلك كله ان روسيا اعتمدت أوكرانيا بوصفها معبر ترانزيت استراتيجيا لتزويد أوروبا بالغاز الطبيعي. ومقابل هذه " الخدمة" كانت أوكرانيا تحصل على حاجتها من الغاز الطبيعي بأسعار شبه رمزية، كما كانت تحصل على رسوم مرور الغاز ترانزيت في أراضيها الى البلدان الاوروبية الأخرى بأسعار دولية. وكانت روسيا تحسم فاتورة الغاز المستهلك في أوكرانيا من فاتورة استحقاقات رسوم الترانزيت التي كانت روسيا تدفعها لها مقدما لسنوات الى الامام. وكان هذا يدر على أوكرانيا عشرات مليارات الدولارات كما يمنحها مكانة مميزة في الجغرافيا السياسية لاوروبا.
ـ3ـ ارتكبت النخبة السياسية الانتهازية في أوكرانيا خطأ استراتيجيا مميتا (سيكلف أوكرانيا وجودها كدولة، في المحصلة التاريخية غير البعيدة) وهو الاعتقاد ان روسيا هي ضعيفة ولا غنى لها عن أوكرانيا، وانه يمكن ابتزاز روسيا والتعامل معها كبقرة حلوب، ومتى نضب حليبها يمكن ذبحها واكل لحمها. فأخذت المجموعات الفاشستية التي حاربت مع هتلر في الحرب العالمية الثانية تصول وتجول، وبرزت على السطح التنظيمات الموالية للغرب والعميلة للمخابرات الغربية، وتم تنظيم الانقلاب الموالي للغرب (الذي سمي : الثورة البرتقالية) سنة 2005، وجاء الى السلطة الخونة والعملاء والجواسيس المتسترون بلباس "الدمقراطية" الأميركية كالعادة. وبدأت سرقة الغاز الروسي في أوكرانيا (وليس بدون موافقة الاتحاد الأوروبي وقادته القتلة والمافيوزيين)، ولتغطية تلك السرقات طرحت بشدة مسألة انضمام أوكرانيا الى حلف الناتو ونصب الصواريخ النووية الأميركية على الحدود الأوكرانية ـ الروسية مباشرة، ما يحرم روسيا من الاستفادة من فترة الانذار التقنية التي تتيحها الرادارات القادرة على اكتشاف الصاروخ الآتي من بعيد، أي عمليا فإن الامن القومي الروسي كان سيوضع تحت الخطر المؤكد.
روسيا لا تستسلم
وردت روسيا على ذلك أولا، باتخاذ التدابير العسكرية المناسبة، وهو ما فهم العسكريون الاوكرانيون ماذا يعني، فامتنع السياسيون الاوكرانيون عن المطالبة بالانضمام الفوري الى الناتو وبدأوا يتحدثون عن الانضمام الى الاتحاد الأوروبي بحجة ما يسمى "القيم الأوروبية" (كأن لاوروبا "قيما" غير محاكم التفتيش والحروب الصليبية والاستعمار).
وثانيا، وهو ما نتوقف عنده بشكل خاص: إلغاء الوضع المميز لاوكرانيا على جبهة الغاز. وانقسم ذلك الى شقين:
أ ـ فرض الرقابة المشددة على ضخ الغاز ضمن الأراضي الأوكرانية، واشراك الاتحاد الأوروبي في المراقبة وتحميله المسؤولية، وإلغاء أسعار الغاز الخاصة التفضيلية لاوكرانيا ومطالبتها بالدفع بالسعر الدولي مع تخفيض محدود لا اكثر. وحينما استمرت أوكرانيا في المخالفات لبعض الوقت، قامت روسيا بقطع الغاز عن أوكرانيا وأوروبا لبعض الوقت في مطلع عام 2009.
ب ـ ولكن الأهم من ذلك هو قرار روسيا الحاسم، بالاستغناء النهائي عن دور أوكرانيا كناقل ترانزيت للغاز الروسي الى أوروبا. وتمثل ذلك في قرار انشاء خطين قاريين لنقل الغاز من روسيا الى أوروبا:
فلادمير بوتين
"العدو الذكي" خير من "الصديق الغبي"
ـ خط الانبوب الأول وسمي "السيل الشمالي" ويمتد هذا الانبوب من روسيا عبر بحر البلطيق الى المانيا. وبدأ هذا الخط العمل منذ سنة 2011. ومن شأنه تحويل المانيا الى موزع رئيسي للغاز الروسي في أوروبا الغربية، علما ان المانيا كانت في الجانب المعادي لروسيا في الحرب العالمية الأولى، وكانت الد أعداء الاتحاد السوفياتي وروسيا في الحرب العالمية الثانية، وقد ابادت المانيا النازية لا اقل من 26 مليون مواطن سوفياتي اغلبتهم الساحقة من الروس، ولا تزال المانيا الى اليوم تمارس سياسة معادية لروسيا في الاتحاد الأوروبي والناتو. ولكن المصلحة المشتركة جمعت الدولتين الكبيرتين، والتعاون والشفافية المتبادلة بين الدولتين يمثلان اليوم عنصر استقرار رئيسي في أوروبا والعالم.
بلغاريا ترفس النعمة التي هبطت عليها من موسكو
ـ خط الانبوب الثاني وسمي "السيل الجنوبي"، كان من المتوقع ان يعبر من روسيا ويجتاز قاع البحر الأسود وصولا الى بلغاريا، ومن بلغاريا يجتاز فرع منه صربيا وهنغاريا وصولا الى النمسا وشمال إيطاليا، ولاحقا ينطلق فرع اخر باتجاه مقدونيا واليونان وربما يجتاز البحر الابيض المتوسط نجو جنوب إيطاليا. وفي كانون الثاني 2008 جاء الرئيس بوتين الى صوفيا خصيصا، ووقع اتفاقية مشروع "السيل الجنوبي"، بالإضافة الى اتفاقات أخرى، مع الرئيس البلغاري حينذاك غيورغي بارفانوف. وكان من شأن تنفيذ هذه الاتفاقية:
الارثوذكسية قاعدة تاريخية ضد الامبريالية الغربية
أولا ـ انقاذ بلغاريا من الازمة الاقتصادية الخانقة التي تتخبط فيها، وتعزيز مكانتها في أوروبا عبر تحويلها الى ناقل وموزع رئيسي للغاز الروسي.
ثانيا ـ الدعم الاقتصادي والسياسي للبلدان والشعوب السلافية والارثوذكسية في شرقي أوروبا، التي يمارس الاتحاد الأوروبي والناتو سياسة تمييز عنصري ضدها لافقارها وتجويعها واذلالها وتمزيقها ومحوها من الخريطة خلال جيلين او ثلاثة.
روسيا حريصة على استقرار أوروبا مسالمة
وثالثا ـ المساهمة في توفير الامن الطاقوي لاوروبا، لتعزيز استقرارها المالي والاقتصادي بوجه الازمات المالية والاقتصادية التي تطلقها بين سنة وأخرى الولايات المتحدة الأميركية المفلسة والراغبة مع ذلك في الهيمنة على أوروبا والعالم، عن طريق تصدير الازمات والفوضى والحروب الى الخارج.
النخبة السياسية البلغارية تفوت الفرصة التاريخية
ولكن النخبة السياسية البلغارية الحاكمة، الفاسدة في غالبيتها والموالية للغرب، ماطلت حتى الان وتمنعت عن تنفيذ اتفاقية "السيل الجنوبي"، مع ان روسيا تكفلت بدفع كافة التكاليف عن حصة بلغاريا من القطاع البري على الأرض البلغارية ذاتها، على ان تستعيد روسيا تلك النفقات من حصة أرباح بلغاريا لمدة 15 سنة، تبدأ بعدها بلغاريا في الحصول على أرباحها.
ويتهم السيد رومين اوفتشاروف، احد ابرز قاة الحزب الاشتراكي (الشيوعي سابقا) والوزير السابق للطاقة، يتهم حكومة حزب (غ ي ر ب) برئاسة الجنرال بويكو بوريسوف (رئيس الوزراء 2009 ـ 2013) بالمماطلة في تنفيذ الاتفاقية من اجل فرض "تنفيع" عدد من الشركات التنفيذية "الصديقة" للجنرال ولحزب (غ ي ر ب) بمبلغ ملياري دولار إضافية، مع تمديد فترة التسديد لروسيا من 15 الى 22 سنة. ولكن الحكومة التي شكلها لاحقا الحزب الاشتراكي برئاسة بلامين أورشارسكي بعد حكومة بوريسوف، تابعت هي أيضا المماطلة، وبعد استقالة اورشارسكي وتعيين حكومة تكنوقراط برئاسة الاشتراكي السابق غيورغي بليزناتشكي، اعلن رئيس الوزراء الحالي ان قرار المباشرة في مد أنبوب "السيل الجنوبي" يعود الى بروكسل، اي الى اللجنة الأوروبية التابعة للاتحاد الأوروبي.
وذكرت جريدة نيويورك تايمز ان جان ـ كلود يونكر رئيس اللجنة الأوروبية صرح انه بالرغم من العقوبات الاقتصادية ضد روسيا لا يزال يأمل بتنفيذ مشروع "السيل الجنوبي". ولكن لهذه الغاية، ومن اجل تأمين تعدد المصادر، إن بروكسل تصر انه اذا تم تمديد الانبوب الروسي ان تتاح للموردين الاخرين إمكانية استخدامه أيضا، كما كتبت الجريدة.
وبالطبع فإن روسيا لم ولن تقبل شروط بروكسل المتعجرفة والتعجيزية.
تحويل "السيل الجنوبي" الى تركيا
ـ4ـ وفي مطلع شهر كانون الأول 2014 الحالي "قطعت جهيزة قول كل خطيب"، اذ فاجأ الرئيس بوتين العالم من انقرة التي كان يقوم بزيارتها مرة أخرى، باعلانه ان روسيا تلغي اتفاقية خط "السيل الجنوبي" مع بلغاريا بسبب عدم التزامها بشروط الاتفاقية، ولكنها في الوقت ذاته لن تلغي المشروع بحد ذاته، أي انها ستبقى ملتزمة بتأمين الامن الطاقوي لاوروبا الشرقية والوسطى وحاجتها الى الغاز، بما في ذلك حاجة بلغاريا التي اخلـّت بالاتفاق واضرت بمصلحتها ومصلحة الجميع، وان روسيا ستنقل وجهة الخط من بلغاريا الى تركيا، التي تصبح هي الموزع الرئيسي للغاز الروسي في أوروبا الشرقية والوسطى، مقابل المانيا التي هي الموزع الرئيسي للغاز الروسي في أوروبا الغربية بواسطة خط "السيل الشمالي.
خريطة السيل
وطبعا ان هذا التعديل سيقتضي اجراء دراسات تقنية جديدة واجراء تعديلات في مسار الخط، وهذا ما ستتحمله روسيا، وفي الوقت ذاته ستدرس مقتضيات الجزء البري على الأراضي التركية، بشكل مشترك مع الجانب التركي، وستقوم روسيا بتسليف تركيا قرضا لتغطية النفقات المطلوبة، على ان يسدد من مداخيل تركيا لاحقا. أي ان كل الفوائد التي كانت ستجنيها بلغاريا "الشقيقة" تاريخيا، ستتحول بخبطة واحدة الى تركيا "المعادية" تاريخيا لروسيا.
ولا شك ان هذه الاتفاقية ستعزز مكانة تركيا لدى أوروبا، التي ترفض حتى الان إدخالها في عضوية الاتحاد الأوروبي. كما انها ستعزز "كلمة روسيا" لدى تركيا فيما يتعلق بالمسائل الخلافية القديمة والجديدة بين البلدين.
روسيا لديها خيارات مفتوحة
وحتى اذا تعرضت تركيا لضغوط شديدة منعتها من تنفيذ الاتفاقية، فيقول الرئيس بوتين ان لروسيا خيارات أخرى لم يحددها، ولكنه لن يتم ابدا التراجع عن قرار "معاقبة أوكرانيا" التي خانت حقوق الاخوة والجيرة بين البلدين الشقيقين.
وفي أسوأ الاحتمالات فإن روسيا ستدير ظهرها لاوروبا كلها وتوجه انابيب الغاز نحو الشرق عامة والصين خاصة التي وقعت معها مؤخرا اتفاقية غاز لمدة أربعين سنة، وهي قادرة، وبحاجة (!) لاستيراد كل ما تنتجه روسيا من الغاز. وحينذاك تبقى فقط الطائرات والغواصات والصواريخ النووية موجهة نحو تركيا وأوروبا والناتو وأميركا وإسرائيل.