ارشيف من :آراء وتحليلات
نحو نظام عالمي جديد
تحولات عدة شهدها العالم في القرنين الأخيرين، من تعددية قطبية الى ثنائية ثم أحادية تتسيّدها الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. فهل نحن أمام تشكل نظام عالمي جديد؟
قبل سنوات من اندلاع الحرب العالمية الاولى كان يصعب التفكير انها فقط بضع سنوات ليبدأ المشهد العالمي بالتغيّر، فقد كان العالم يخضع لتعددية قطبية تحكمه. فالخلافة العثمانية المترامية الاطراف كانت تمثل قطباً في الوقت الذي كانت فيه اوروبا غير المتحدة تتقاسم النفوذ في مناطق اخرى متعددة . وفيما انهت الحرب العالمية الاولى الامبراطورية العثمانية واعقبها انهاء الخلافة الاسلامية من تركيا في الثالث من آذار من العام 1924، فقد انهت الحرب العالمية الثانية الهيمنة الاوروبية مع صعود قوتين عظميين الى المسرح الدولي : الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي.
شكل هذان القطبان محور الصراعات العالمية لاحقا فيما عرف بالثنائية القطبية أو الحرب الباردة منذ عام 1945 حتى عام 1991 عندما أُعلن رسميا عن تفكك الاتحاد السوفياتي.
داعش
خلال الحرب الباردة استعمل الاميركيون مختلف انواع الاسلحة لمحاربة التمدد الشيوعي وكان من ضمنها، لا سيما في مناطق الانتشار الاسلامي، الفكر الاسلامي كعقيدة ناجعة تحارب «العقيدة الالحادية» التي تمثلها الشيوعية. ولئن افلحت التحركات الاسلامية هذه في اشغال عبد الناصر الداعي الى الوحدة العربية والمتحالف مع الاتحاد السوفياتي، فإن مجموعات «جهادية» اخرى والتي جرى العمل على دعمها وتنظيمها أفضت الى الحاق هزيمة مدوية بالجيش السوفياتي في أفغانسان وطرده منها.
الحركات التكفيرية وانهاء الثنائية القطبية
ساهمت الحركات الاسلامية هذه، بشكل أو بآخر، في تسريع تفكك أحد القطبين لتتسيد الولايات المتحدة الاميركية الهيمنة على الساحة الدولية، كقوة أحادية.
ورغم الدور المحدود نسبياً الذي لعبه تنظيم « قاعدة الجهاد» في افغانستان مقارنة بدور «المجاهدين» الأفغان أنفسهم، الا ان هذا التنظيم ما لبث أن تمدد ووسع نشاطه خارج أفغانستان وباكستان لينطلق بعدها هذا "التيار الجهادي" نحو الحراك العالمي مدشناً سلسلة من العمليات العسكرية من تفجيرات نيروبي ودار السلام (7 آب أغسطس 1998) الى تفجير المدمرة يو.اس.اس كول ( 12 تشرين الأول اكتوبر 2000) لتصل الى ذروتها في تفجيرات نيويورك او ما عرف بغزوة منهاتن حسب اصطلاح تنظيم القاعدة ( 11 ايلول سبتمبر 2001) وما اعقبها من تفجيرات وعمليات عسكرية طالت اراضي المملكة العربية السعودية.
شكلت هذه الهجمات على المصالح الاميركية ذريعة للادارة الاميركية ( جورج بوش الابن) لشن حروب على اكثر من منطقة وتحول «الاسلام السياسي» في نسخته « القاعدية» الى هدف أميركي بصفته العدو الذي لا بد من وجوده في الاستراتيجية العسكرية الاميركية، فاحتُلت افغانستان والعراق. وما كان «قاعدة للجهاد» متركزاً في افغانستان وباكستان بشكل اساس مع بعض الخلايا في شبه الجزيرة العربية واليمن، تحول الى حالة فكرية «جهادية» بدأت تأخذ صداها في اقطار العالم الاسلامي. ليتحول بعدها العراق الى محور لتحرك هذه الجماعات عززته ادارة «مدنية» أميركية امتهنت، وبالتعاضد مع حكومات عراقية محلية، سوء ادارة افضت الى انتشار فكر متطرف تكفيري ممول مالياً وفكرياً بشكل جيد من دول خليجية.
العالم
لقد ساعد وجود أنظمة عربية مهترئة في انتشار هذا الفكر الذي تحول مع دخول ما سمي «بالربيع العربي» ومن ثم دخول الأزمة السورية، الى إعلان هذه الجماعات عودة «الخلافة الاسلامية» انطلاقا من تنظيم « الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش).
لقد كان اعلان الخلافة، بغض النظر عن المفارقات العقدية التي رافقته، بمثابة دق الاسفين في نعش بقايا نظام سايكس ـ بيكو.
ويكفي أن ننظر الى الخارطة التي ينشط فيها التيار التكفيري ، وبالموازاة ساحة العمل المفترضة للتحالف الغربي لمحاربة داعش، لندرك حجم هذه الحرب التي تشمل الشرق الاوسط ودول الخليج واليمن وشمال افريقيا وصولا الى افغانستان وباكستان ومختلف مناطق شبه القارة الهندية اضافة الى بعض الدول الافريقية من الصومال ومالي وكينيا وافريقيا الوسطى دون اغماض النظر عن احتمالات توسع مستقبلي قد تطال بعض المناطق الاىسيوية كاندونسيا.
انتهاء الهيمنة الاميركية وولادة نظام عالمي جديد
ربما سينجح الغرب في تحجيم «داعش» وربما سنجد في مراحل لاحقة ولادة اسماء تنظيمات جديدة وأفول أخرى، لكن من المستبعد جداً ان يتم استئصال هذا الفكر الذي أنتجه.
فالفكر الذي تأسس على يد محمد بن عبد الوهاب والذي كان أقصى ما يطمح اليه هو اجراء تغييرات في المجتمع النجدي اولا ثم الحجازي ثانياً، وجد نفسه، وبفضل الثروات النفطية الهائلة، ينتشر خارج الجزيرة العربية من طنجة الى جاكارتا. ما يطرح سؤالاً عن إمكان وكيفية انهاء هذا النوع من الفكر التكفيري في ظل مدارس دينية ناشطة وممولة بشكل جيد.
وفي الواقع، وبمعزل عن الخلافات الدائرة بين الجماعات التكفيرية، فإن الذي يبدو ظاهراً أن هذه التيارات آخذة بالاتساع وبكسب المزيد من الأتباع.
وبالمقابل، فإن صعود التيارات التكفيرية ساهم في تحويل بعض القوى الاسلامية الوحدوية والتيارات المقاومة للهيمنة الاميركية من قوى محلية الى «لاعب اقليمي»، وعزز نفوذ دول تدعم هذه الحركات والتيارات الوحدوية ورفعت من قيمتها الاستراتيجية من مجرد «لاعب اقليمي» الى «قوة اقليمية».
إن ما أُسس ليكون عاملاً في إنهاء عصر الثنائية القطبية وتركيز عالم القطب الواحد، كان بالحقيقة زرعاً لبذور نظام عالمي جدبد قد تتعدد وتتكثر اقطابه، يصعد طرف ويضمحل آخر، لكنه في جميع الأحوال ينهي الاحادية للولايات المتحدة الاميركية.