ارشيف من :آراء وتحليلات
كوبا.. الجرح الأميركي الذي لا يندمل!
التقارب الكبير الذي يقوده أوباما مع كوبا هو الأكثر انسجاماً مع ما تقتضيه حالة التراجع الذي تعاني منه السياسات الأميركية في العالم. لكن الدعاة الأميركيين إلى الحرب يتعاملون مع الحدث بطريقة انتهازية متجاهلين كونه ينطوي على توجه واضح نحو إسقاط النظام الكوبي بطريقة "ناعمة".
ربما لأنها قد دخلت في طور متقدم من أطوار الشيخوخة، لم يعد من الممكن لأي حدث يتصل بالولايات المتحدة من قريب أو بعيد إلا وأن يثير نزاعاً بين القوى النافذة في الطبقة السياسية الأميركية.
استخدام انتهازي للحدث
فهذه القوى يفترض بها أن تضع مصلحة أميركا فوق كل مصلحة، لكنها ودون أي نظر متروٍّ في إيجابيات أو سلبيات ما سمي بـ "التقارب الكبير" بين الولايات المتحدة وكوبا، أعطيت الأولوية للاستخدام الانتهازي للحدث من قبل الجمهوريين، خصوم أوباما، صانع الحدث، وحتى من قبل ديموقراطيين كثيرين يجمعهم مع أوباما بيت سياسي واحد.
كوبا
روبرت ميننديز، ديموقراطي شغل حتى وقت قريب مناصب عليا في الإدارة الأميركية، رأى في التقارب تعزيزاً لما أسماه بـ "السلوك الفظ للحكومة الكوبية". أما جون بوهنر، الجمهوري الذي يرأس مجلس النواب حالياً، فاعتبره "فصلاً جديداً في سلسلة طويلة من التنازلات الطائشة لصالح نظام ديكتاتوري ’’يقتل شعبه‘‘ ...".
وعلى هذا القياس قس من اتهامات لكوبا بكل الشرور الممكنة، ولأوباما بالسذاجة ونقص الأهلية والانحناء أمام أعداء أميركا.
تانيا بروغويرا كبديل عن خليج الخنازير والغاية واحدة |
اكتفوا فقط بالتشديد على أن الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا منذ أكثر من خمسين عاماً كان يجب أن يستمر حتى سقوط النظام وتحقيق طموحات الشعب الكوبي في الحرية والديموقراطية. هكذا، ودون أي تحرج من تكرار الأكذوبة التي انطلت على شعوب كثيرة قبل أن تتحول إلى فضيحة كبرى.
تغير في الأسلوب
وإمعاناً منهم في الانتهازية، لم يكلفوا أنفسهم عناء النظر في موقف أوباما من الموضوع، والتعامل مع هذا الموقف بالحد الأدنى من المسؤولية والموضوعية. ولو أنهم فعلوا لوجدوا أن أوباما هو أشد حرصاً منهم على الانتقام من كوبا وجعلها أمثولة لكل من يجرؤ على الوقوف في وجه أميركا.
موقف أوباما هو باختصار إقرار بفشل الحصار في تحقيق أهدافه. وهو محق تماماً في ذلك. لأن كوبا ما تزال صامدة، ولم تسقط حتى في اللحظات التي اشتد فيها الرهان الأميركي على إسقاطها بعد سقوط سندها السوفياتي. كما أن صمودها لعب دوراً كبيراً في تعزيز ثقة أميركا اللاتينية بقدرتها على الوقوف في وجه واشنطون.
وإقرار أوباما هذا لا يعني أن واشنطن قد استسلمت وصار عليها أن تدفع غرامات وتعويضات لهافانا. فالتقارب هو بنظره بديل عما أسماه "مقاربة قديمة فشلت طيلة عقود في خدمة المصالح الأميركية"، ما يعني أن ما أقدم عليه هو محاولة لخدمة المصالح الأميركية بطريقة أخرى غير العداوة والحصار.
أوباما يستبدل
الحصار الفاشل بطرق يريدها أكثر انسجاماً مع مصالح واشنطن |
وفي الوقت الذي أخلت فيه واشنطن ساحات الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية وأوروبا الشرقية لحروب بالوكالة تقوم بها عوضاً عنها قوى محلية لا تمتلك حظوظاً في أكثر من نشر الفوضى مؤقتاً، اتجهت نحو الباسيفيكي بما هو، قبل كل شيء، خاصرتها الرخوة في وجه القوتين الصاعدتين روسيا والصين.
لكن منطقة الباسيفيكي نفسها، وخصوصاً في أميركا اللاتينية التي تستلهم المثال الكوبي، قد خرجت بأغلبية بلدانها من القبضة الأميركية، وبات شبح الانهيار مهيمناً على الولايات المتحدة نفسها بفعل الأزمة المالية ومشكلات اجتماعية ليس أقلها انتفاضة السود الأخيرة وتصاعد الإحساس بالهوية الإسبانيولية.
من هنا نفهم مغزى الهتاف الذي أطلقه أوباما باللغة الإسبانية، عندما قال في معرض دفاعه عن تقاربه مع كوبا : "نحن كلنا أميركيون".
إنها محاولة لكسب أو تحييد ما يمكن كسبه أو تحييده من الجيران الأقربين بالتوازي مع العمل لضربهم باساليب لم تعد جديدة : تحقيق ما لم يحققه الغزو أو الضغط الخارجيين عن طريق تفجير البلدان المستهدفة من الداخل.
في هذا الإطار، ينبغي أن تفهم التحركات التي تقودها، بعد أقل من أسبوعين على الشروع برفع الحصار عن كوبا وبدفع مؤكد من أعلى سلطة في أميركا، الفنانة الناشطة تانيا بروغويرا، بما هي تحركات تهدف بشكل واضح إلى إطلاق ثورة ملونة في الجزيرة الجميلة التي يحلم حيتان السياسة الأميركية بإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الثورة التي قادها فيدل كاسترو وتشي غيفارا عام 1959.