ارشيف من :آراء وتحليلات
فرنسا وأوروبا أمام خطر الحريق الكبير
بدلاً من المراجعة الجذرية للأكاذيب الكبرى المتمثلة بدعاوى العلمانية والديموقراطية والإسلاموفوبيا ومكافحة الإرهاب، يبدو أن إصرار أوروبا وفرنسا بوجه خاص على الاستمرار في التوظيف الانتهازي لهذه الدعاوى قد دفع بالأوضاع في تلك المنطقة من العالم نحو تفجيرات أشد عتواً من الحروب التي شهدتها أوروبا خلال النصف الأول من القرن الماضي وما قبله.
قتل مسلحو باريس وقتلت معهم كل إمكانية لمعرفة الدوافع والأهداف والملابسات الكامنة وراء العمليتين اللتين نفذتا في مكاتب شارلي إيبدو وفي متجر يهودي.
تفسيرات سياسية مغرضة
وهكذا، أخليت الساحة لكل أنواع التفسيرات السياسية المغرضة إنطلاقاً من المقاربة "الموجهة" التي قدمتها الجهات الرسمية الفرنسية بالاستناد إلى معطيات من غير الممكن الجزم بأنها شاملة ودقيقة ونزيهة.
شارلي ايبدو
ملخص هذه المقاربة أن الفاعلين هم متطرفون إسلاميون على صلة بالقاعدة أو بداعش لم يتحملوا ممارسة شارلي إيبدو وعبروا في الوقت نفسه عن عدائهم للسامية من خلال الهجوم على المتجر اليهودي الذي قتل فيه أربعة من اليهود الفرنسيين .
بكلام آخر، فالعمليتان قد استهدفتا اثنين من "مقدسات" فرنسا والغرب الأساسية :
رغم "قداستها المطلقة" حرية التعبير محرمة عندما تتضارب مع مصالح الصهيونية و"إسرائيل" |
- حرية التعبير، لا بما هي حرية الارتقاء بالمعنى، بل بما هي رديف للإسفاف وتسخيف المعنى.
- وجود اليهود لا بما هم بشر كسائر البشر، بل بما هم بشر يحرم على حرية التعبير نفسها أن تمارس في الاعتراض بوجه من الوجوه على قواهم النافذة، الصهيونية والكيان الصهيوني، مهما تمادت في الغي والبغي.
كبش المحرقة
ويكون الإسلام والمسلمون، لا ما يسمى بالتطرف الإسلامي، هو ما يجب أن يكون موضع الإدانة، وفقاً لما يرمي إليه صانعو الحدث الحقيقيون، ووفقاً للفهم البدائي والغريزي للمشكلة من قبل شرائح واسعة في الشارع الفرنسي والأوروبي : رغم كل تركيز المسؤولين على أن حربهم هي ضد الإرهاب لا ضد الإسلام، سجل خلال اليوم الذي أعقب الهجمات أكثر من خمسين اعتداءً على مؤسسات إسلامية في فرنسا. وتضاعف عشرات المرات عدد المشاركين في تظاهرت درسدن الداعية إلى أوروبا -لا بلا إرهاب بل- بلا مسلمين.
وبهذا، تحقق هدف الجهة الحقيقية التي تقف وراء الاعتداءات. فقد تراجع النظر إلى المشكلة بما هي مشكلة إرهاب أسهمت فرنسا في رعايته وتنبغي معالجتها بالشكل الذي يخدم المصالح الحقيقية للشعب الفرنسي. وبدلاً من ذلك، تركز الاهتمام على مشكلة اندماج المسلمين في المجتمع الفرنسي وما يرتبط بها من إشكاليات العلمانية والإسلاموفوبيا، وهي إشكاليات غير قابلة للحل في إطار النهج الاستفزازي المتزمت الذي تعتمده السلطات الفرنسية.
وبالتالي، بات من الصعب دحض آراء العدد الكبير من المراقبين الذين يعتقدون بأن فرنسا ما قبل قضية شارلي إيبدو لم يعد بإمكانها أن تكون هي نفسها بعد هذه القضية. فنزول 150 ألف رجل أمن وجندي إلى شوارع باريس هو واحد من المؤشرات الدالة على دخول فرنسا في حالة توتر قابل للاقتراب من الحرب الأهلية.
التدحرج الممكن
الحروب الأهلية وغير الأهلية قد نعرف كيف تبدأ، لكننا لا نعرف كيف تنتهي. فإذا كان صناع الحدث الحقيقيون يراهنون على صدامات بين اليمين المتطرف الصاعد والجاليات الإسلامية في فرنسا وسائر أوروبا، فإن هذا الرهان لا يمكنه أن يستبعد إمكانية تدحرج الصدامات لتجرف في تيارها فئات أكثر اتساعاً داخل المجتمعات الأوروبية. ففي هذه المجتمعات انقسامات بين اليمين واليسار، وتوجهات انفصالية تهدد أكثر من بلد وأزمات اجتماعية ناتجة عن تدهور الأوضاع المالية والاقتصادية.
عجز أوروبا عن مواجهة مشكلاتها الحقيقية يدفعها نحو التوظيف الانتهازي في الإسلاموفوبيا |
وإلا فكيف يمكن للعلمانية المقدسة أن تتناقض مع حق الناس في الاختلاف المقدس بدوره ؟ وكيف يمكن لحرية التعبير المقدسة أن تتحول إلى قمع للتعبير يماهي بين العداء للسامية وأدنى نقد يوجه إلى الصهيونية والكيان الصهيوني؟ وكيف يمكن لبلد أجنبي هو "إسرائيل"، تحديداً، أن يفرض وصايته على "مواطنين" فرنسيين ويصل إلى حد دفنهم عند موتهم في فلسطين؟ وكيف يمكن لرموز كبرى من رموز الإرهاب أن تتصدر تظاهرة مليونية تشجب الإرهاب؟
كل هذه التناقضات وغيرها كثير لم يعد من الممكن حله من داخل النظام القائم بقواه السياسية النافذة. وعجز هذه القوى عن مواجهة الأوضاع المأزومة والخوف المعمم من المستقبل هو ما يدفعها إلى ابتداع مشكلات وهمية كالإسلاموفوبيا التي باتت جاهزة لإطلاق شرارة الحريق الأوروبي الكبير.