ارشيف من :آراء وتحليلات
كابوس سباق التسلح النووي يتجدد
في 4 ـ 11 شباط 1945، عقد في مدينة يالطا على ساحل البحر الأسود في شبه جزيرة القرم مؤتمر زعماء الحلفاء المنتصرين (روزفلت وتشرشل) ممثلَي الكتلة الغربية و(ستالين) ممثلا الدولة السوفياتية التي قدمت اكبر التضحيات وكان لها الفضل الأكبر في تحطيم المانيا النازية والقوات اليابانية التي كانت حتى ذلك التاريخ لا تزال تمتلك حشودا ضخمة في منشوريا وجزر الكوريل وجنوب جزيرة سخالين في المحيط الهادي وبحر اوخوتسك.
"اتفاقية يالطا" المشؤومة
وتم في هذا المؤتمر عقد ما يسمى "اتفاقية يالطا". وبموجب هذه الاتفاقية تعترف الكتلة الغربية بالنفوذ السوفياتي في المناطق التي وصلت اليها القوات السوفياتية (أي المانيا الشرقية وأوروبا الشرقية، باستثناء يوغوسلافيا التي رفضت الخضوع لستالين)، فيما اعترف ستالين ببقية أجزاء العالم كمنطقة نفوذ للكتلة الغربية بزعامة اميركا. وفي هذا الجانب شذت الصين وفيتنام عن الاعتراف بمنطوق اتفاقية يالطا وتابعتا الثورة ضد الامبريالية الأميركية والاستعمار الفرنسي.
اميركا ارادت إرعاب العالم
ولكن في اب 1945 أقدمت الولايات المتحدة الأميركية على اسقاط قنبلتين نوويتين فوق مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، بدون ان تكون هناك ضرورات عسكرية واضحة.
ومن زاوية نظر تاريخية يعتبر الكثير من المحللين المحايدين ان استخدام هاتين القنبلتين، وبمعزل عن الصراع مع اليابان، كان يحمل المغازي التالية:
أولا ـ استغلال ظرف الحرب، لاجراء تجربة حية على البشر، لهذا النوع الجديد من السلاح. أي ان المدنيين اليابانيين استخدموا حينذاك كفئران تجارب لعلماء الكانيبالية الأميركية ولقيادة الجيش الأميركي التي وضع بتصرفها هذا النوع من السلاح.
ثانيا ـ كانت هذه التجربة تحمل رسالة تهديد لجميع دول العالم، بما فيها صديقة الولايات المتحدة الأميركية، بالانصياع غير المشروط للزعامة الأميركية للعالم.
وثالثا ـ كانت تحمل رسالة تهديد خاصة للاتحاد السوفياتي، الذي خرج بوصفه المنتصر الاكبر في الحرب العالمية الثانية، بضرورة اعترافه هو ايضا بالسيادة الأميركية.
ولا شك ان امتلاك السلاح النووي كان ولا يزال احد اهم الأسباب لاعتبار اميركا قطبا عالميا رئيسيا.
بداية سباق التسلح النووي
وبمشيئة اميركا وبدون مشيئتها فإن عملية القاء القنبلتين النوويتين على اليابان دشنت بداية مرحلة سباق التسلح النووي على النطاق العالمي. فجميع الدول ذات الإمكانيات المالية والعلمية والجغرافية وحتى التجسسية اخذت تتسابق نحو امتلاك هذا السلاح الرهيب. بعضها لتأكيد وتشديد نزعتها التسلطية والتوسعية والاستعمارية. وبعضها للدفاع عن انفسها. وبعضها لتعزيز مواقعها في النزاعات الإقليمية التي هي طرف فيها. وقد شذت عن هذه الأسباب فقط إسرائيل التي، بحجة الدفاع عن نفسها في النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني والعربي، حولت الأراضي الفلسطينية المحتلة التي أقيمت فوقها دولة إسرائيل، الى ترسانة أسلحة نووية كانت موجهة ضد الاتحاد السوفياتي السابق، وهي الان موجهة ضد روسيا، من ضمن الخطط الاستراتيجية لاميركا وحلف الناتو. علما انه لا اميركا ولا دول الناتو، بل هي روسيا وشعوب الاتحاد السوفياتي التي حمت اليهود من الفناء التام على ايدي الهتلرية.
ايران تعارض التسلح النووي
وتقول المعلومات الصحفية المختلفة ان عدد الدول التي تمتلك السلاح النووي في العالم اليوم يتراوح بين 35 ـ 40 دولة. وتورد بعض الصحف الموالية للكتلة الغربية سوريا وايران والجزائر في عداد الدول التي تمتلك هذا السلاح، وهذا بالرغم من ان ايران، مع تمسكها بحقها في امتلاك برنامجها النووي السلمي، فإن مرشد الثورة الإيرانية الإمام علي الخامنئي صرح اكثر من مرة بأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تحرم امتلاك السلاح النووي الذي يستهدف المدنيين بدون تمييز وتعتبره مخالفا للشريعة الإسلامية بحسب مفهوم الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي الاجتماع غير الرسمي الذي عقدته مؤخرا في نيويورك الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي كان مكرسا للبحث في تحريم الأسلحة النووية تحدث وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف باسم كتلة عدم الانحياز، وقال ان الأسلحة النووية تشكل اكبر تهديد لوجود البشرية باسرها.
السباق الرئيسي بين اميركا وروسيا
والان حين يجري الحديث عن سباق التسلح النووي في العالم يتبادر الى الذهن أولا السباق بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي (السابق) وحاليا روسيا.
بعد تفجيري هيروشيما وناكازاكي مرت سنوات قليلة كانت فيها الولايات المتحدة الأميركية، ظاهريا على الأقل، المالك الوحيد للسلاح النووي.
روسيا واميركا
تشرشل يطلق شرارة "الحرب الباردة"
وكان تشرشل قد قام في شهر اذار 1946 بزيارة الى الولايات المتحدة الأميركية، ودشن من هناك بداية "الحرب الباردة" بين الكتلة الغربية التي سماها "العالم الحر" وبين المنظومة السوفياتية التي سماها "ما وراء الستار الحديدي". وجاء ذلك في خطابه في الخامس من اذار 1946 في جامعة ويستمنستر في ولاية ميسوري. واعلن انه كان من الخطأ بالنسبة للكتلة الغربية وقف الحرب، وانه بعد هزيمة المانيا النازية واليابان كان على الكتلة الغربية "الديمقراطية" متابعة الحرب ضد الاتحاد السوفياتي والتخلص من النظام السوفياتي.
ومع ان تشرشل كان حينذاك زعيما للمعارضة البريطانية، الا ان تأثيره في السياسة الأميركية والغربية كان كبيرا. وقد اعتبر المراقبون المحايدون خطاب تشرشل حينذاك بمثابة تحريض للولايات المتحدة الأميركية لاستخدام السلاح النووي ضد الاتحاد السوفياتي.
مجنون... ولكن
ومع ان هاري ترومان، رئيس الولايات المتحدة الأميركية حينذاك الذي سبق وأمر بقصف هيرشيما وناكازاكي بالقنبلتين الذريتين اللتين كانت تملكهما اميركا، والذي وصفه البعض بالجنون، كان يتميز بالعداء الجنوني للشيوعية، ولكنه ـ أي ترومان وادارته ـ لم يكونا على درجة من الجنون ان يغامرا باستفزاز الاتحاد السوفياتي بالسلاح النووي، لان هذا الاستفزاز كان سيؤدي الى "خسارة" العالم القديم كله، لعدة أسباب أهمها:
1 ـ ان الاتحاد السوفياتي ليس جزيرة اليابان، وهو ـ باتساع أراضيه وصلابة شعوبه وعلى رأسها الشعب الروسي "الذي لا يُغلب" حسب تعبير نابوليون ـ لن تجبره على الاستسلام والتراجع عشرات القنابل مثل قنبلة هيروشيما وناكازاكي، وهو على كل حال ما لم تكن تمتلكه بعد الولايات المتحدة الأميركية.
2 ـ ان أوروبا كلها كانت ضعيفة ومهشمة ولم يكن يوجد فيها قوى محاربة "جدية" تستطيع الصمود بوجه السوفيات بضع ساعات، غير القوات الأميركية. في حين ان الجيش السوفياتي كان ينتشر، وهو في اعلى الجهوزية، من بحر قزوين الى بحر بارنتس، ومن القوقاز والبلقان الى شرقي المانيا. وهذا يعني ان الجيش السوفياتي كان على استعداد، في حال تعرض الاتحاد السوفياتي لاي هجوم نووي او غير نووي، لاكتساح أوروبا كلها بقفزة واحدة محطما امامه بلا هوادة أي مقاومة كانت.
3 ـ ان الصلابة الثورية لقيادة الحزب الشيوعي الصيني بزعامة ماو تسي تونغ، والانتصارات التي حققها الجيش الشعبي الصيني، ولا سيما بعد تحطيم القوات اليابانية في منشوريا في اب 1945، على ايدي الجيش الأحمر السوفياتي، ـ كل ذلك ألزم ستالين (وبالرغم من توقيعه على اتفاقية يالطا التي كانت تعتبر الصين "منطقة نفوذ" للكتلة الغربية) على التراجع عن دعمه السابق لحكومة تشان كاي شيك "الوطنية" الموالية لاميركا، وممارسة نفوذه لتقليص الدعم للثورة الصينية، وهذا ما أزال عقبة رئيسية امام التعاون السوفياتي الواسع النطاق مع الثورة الصينية. وفي حال تعرض الاتحاد السوفياتي لاي عدوان أميركي خصوصا، كان هناك خطر ان يدخل الجيش السوفياتي مباشرة في أراضي الصين المحررة، وان يتعاون مع الجيش الشعبي الصيني لتجنيد وتدريب وتجهيز عشرات ملايين المتطوعين الثوريين الصينيين، وان يتم اكتساح سوفياتي ـ صيني مشترك للقوات الأميركية في اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، وللهند الكبرى (قبل تقسيمها) بوصفها مستعمرة إنكليزية، وللهند الصينية بوصفها مستعمرة فرنسية، ولايران وبلدان غربي اسيا كلها بوصفها مستعمرات غربية.
امام هذه الاعتبارات والمخاطر الجدية، ترددت الولايات المتحدة في الاعتماد على التفرد الأميركي بحيازة السلاح النووي للاعتداء على الاتحاد السوفياتي.
الاتحاد السوفياتي يكسر احتكار السلاح النووي
ولكن في الوقت نفسه كان الاتحاد السوفياتي قد بدأ التجارب السرية لصناعة السلاح النووي منذ 1943، في اشد أيام الحرب ضد النازية، وكان يقود العمل لصناعة القنبلة النووية السوفياتية ايغور كورتشاتوف بصفته أكبر العلماء في مجال الفيزياء في ذلك الوقت. وفي 29 اب 1949 اعلن الاتحاد السوفياتي عن تفجير اول قنبلة نووية له. وبذلك انكسر نهائيا الاحتكار الأميركي للسلاح النووي.
ماك ارثر يذهب الى التقاعد
ولدى اندلاع الحرب الكورية (1950 ـ 1953) قام الجيش الشعبي الكوري الشمالي بدحر قوات كوريا الجنوبية وبتحرير العاصمة سيؤول ذاتها، فتدخل الاميركيون وحلفاؤهم ودحروا القوات الشعبية الكورية الشمالية حتى الحدود مع الصين وكانوا يزمعون اجتياز نهر يالو نحو الصين، فتدخل حينذاك المتطوعون الصينيون لمساعدة الثوار الكوريين الشماليين وارجعوا الاميركيين الى الخلف والقوهم في البحر. فاقترح قائد القوات الأميركية الجنرال المشهور دوغلاس ماك ارثر استخدام القنبلة الذرية ضد الصين الشعبية، فتم فورا عزله عن القيادة وارساله الى التقاعد. وذلك خوفا من رد نووي، سوفياتي ـ صيني مشترك، على القوات الأميركية.
بداية نظام "الردع النووي"
ومنذ ذلك الحين نشأ ما يسمى "الردع النووي" حيث تخشى كل دولة مالكة للسلاح النووي من استخدامه، خوفا من الرد عليها بالمثل.
ومن زاوية نظر معينة يمكن القول ان "الردع النووي" كان يمثل الكابح الرئيسي في ما يسمى "الحرب الباردة" التي أوصلت العالم في أحيان كثيرة الى شفير الحرب الساخنة التي يمكن ان تقضي على البشرية باسرها، الا ان الخوف من الجحيم النووي كان يدفع الدول المعنية، في نهاية المطاف، الى إيجاد المخارج السلمية، ولو المؤقتة، للازمات الناشبة.
انفلات سباق التسلح النووي
ومنذ ذلك التاريخ بدأ سباق تسلح نووي مجنون على النطاق العالمي بأسره، ولا سيما بين الدولتين العظميين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي. وكانت كل دولة تسعى الى امتلاك سلاح نووي اقوى فأقوى. وأجريت الوف التجارب من مختلف الأنواع الذري والهيدروجيني، ومن مختلف الاحجام، ولمختلف الأغراض السلمية وخاصة الحربية، تحت الأرض وفوق سطح الأرض، وفي البحار، وفي الجو، وفي الفضاء.
لماذا اصبح السوفيات بعبعا لاميركا والغرب؟
وهنا علينا ان نسجل نقطة مهمة جدا وهي: ان الإمكانيات المالية والاقتصادية للاتحاد السوفياتي كانت اقل بكثير من الإمكانيات المالية والاقتصادية لاميركا، التي كان ـ ولا يزال ـ بإمكانها ان تطبع الاف مليارات الدولارات، بدون تغطية ذهبية، وترميها في السوق الدولية على حساب الاقتصاد العالمي برمته، بوصف الدولار عملة دولية معترف بها من قبل جميع دول العالم الغربي التي عقدت مؤتمر بريتون وودز في تموز 1944 بدعوة من الولايات المتحدة الأميركية. وفي هذا المؤتمر أبلغت الولايات المتحدة المؤتمر بأن الدولار هو بلا تغطية ذهبية فعلية، ولكن الدولة الأميركية تضمن معادلة كل 35 دولارا ورقيا بأونصة ذهب. وأعلنت الدول الحاضرة موافقتها على هذا الوعد الاميركي.
وبالرغم من هذا الامتياز والتقدم الاميركيين، الذي يجعل اميركا قادرة على الانفاق على التسلح بدون حساب، فإن الاتحاد السوفياتي (وروسيا من بعده) حقق (وحققت) نجاحات اكبر على نطاق التسلح، اكثر بكثير مما حققته الولايات المتحدة الأميركية. والجنرالات الروس كانوا ولا يزالون يعتبرون المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية اشبه بنزهة، في حين ان الجنرالات الاميركيين يرتعبون من فكرة المواجهة مع روسيا.
أولوية المصلحة العليا للدولة او مصلحة القطاع الخاص
والسبب هو ان الاقتصاد الأميركي (ومن ثم السياسة الأميركية عامة، والسياسة العسكرية بالذات خاصة) ينطلق من نقطة ارتكاز هي: القطاع الخاص. فهذا القطاع هو الذي تخضع له الدولة، وتعمل لاجل مصلحته الدولة. في حين كان العكس تماما في الاتحاد السوفياتي. وهو العكس تماما في روسيا اليوم. فتحت المسمى "الاشتراكي" او بدونه فإن نقطة الارتكاز في الاقتصاد الوطني السوفياتي سابقا، والروسي حاليا، هو: المصلحة العليا للدولة. والقطاع الخاص عليه ان يعمل في خدمة مصلحة الدولة، والا فلن يكون.
ففي نهاية المرحلة الرمادية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وبعد إزاحة الخائن بوريس يلتسين عن السلطة، وبعد زيارة قام بها الرئيس بوتين لبعض القواعد البحرية وبعض المستودعات العسكرية التي كانت المافيات اليهودية المرتبطة بالغرب تجمع فيها الغواصات الحربية والصواريخ العابرة للقارات لبيعها حديدا خردة، صرح بحزم ـ أي بوتين ـ ان كل الإنتاج الوطني والدورة الاقتصادية الوطنية ينبغي ان تتمحورا حول: المجمع الصناعي ـ الحربي. وكان ذلك كلاما بسيطا وواضحا جدا، ويعني ان كل فروع الاقتصاد الروسي، وحتى زراعة الفجل ذاته، ينبغي ان ترتبط بالصناعة الحربية.
هذا الاختلاف الجوهري في نقطة ارتكاز الاقتصاد الوطني والسياسة العامة للدولة بين اميركا وروسيا (السوفياتية وما بعد السوفياتية) هو الذي حتم وجود "توازن رعب" لمصلحة روسيا.
ذلك ان السلاح النووي يحتاج الى حامل ـ او وسيلة نقل ـ بعيد المدى. وترتبط صناعة القنابل النووية ارتباطا لا انفصال فيه بصناعة الحوامل.
ولكون كارتل صناعة الطيران (المدني والحربي) الأميركي هو كارتل قوي جدا، وتدعمه كارتلات أخرى (النفط والكيماويات والالكترونيات الخ) يرتبط بها، فقد ركزت الاستراتيجية الأميركية على ان يكون الحامل الرئيسي للقنابل النووية: الطائرات الحربية. تماما كما ركزت بحريتها بعيدة المدى على ان يكون عمودها الفقري: حاملات الطائرات.
في حين ان الدولة الروسية (السوفياتية وما بعد السوفياتية) لم تفكر في مصلحة هذا الكارتل الصناعي او ذاك، بل فكرت بشكل عسكري بحت وبسيط: ما هي افضل وارخص واسرع واخطر وسيلة لنقل القنبلة النووية؟ وطبعا كان الجواب: الصاروخ. تماما كما ان الغواصة لا حاملة الطائرات هي العمود الفقري للبحرية الروسية بعيدة المدى.
وهكذا في حين اعتمدت الولايات المتحدة على الطائرات الاستراتيجية، وانفقت مبالغ فلكية على انتاجها، اعتمدت روسيا على الصواريخ، التي هي اقل كلفة بكثير واكثر فعالية بكثير، ما ساعدها على تحقيق "توازن رعب" كامل، اذا لم نقل لمصلحتها، مع الولايات المتحدة وجميع حلفائها، بالرغم من تفوقها المالي والاقتصادي.
التوجهات السلمية
ويكاد العلماء من مختلف الاتجاهات يجمعون على ان التجارب النووية بحد ذاتها، بصرف النظر عن الجوانب الجيوستراتيجية والعسكرية، قد أسهمت بشكل سلبي جدا في إساءة المناخ الأرضي وفي التسبب بالأعاصير المدمرة والفيضانات، والتصحر والجفاف، وانتشار العديد من الامراض.
وفي السباق الدولي لتحقيق التفوق النووي ادرك الكثير من رجال الدولة، بمن فيهم من رجالات الدول الامبريالية والاستعمارية ذاتها، انه في حال اندلاع حرب نووية ستدخل كل الأهداف السياسية، بما فيها الاهداف الاستعمارية، في خانة العبث، حيث ان الحرب النووية الشاملة تعني انه لن يعود هناك لا مستعمِرون ولا مستعمَرون، ولا معتدون ولا معتدى عليهم.
واشتدت بشكل كبير حملات المطالبة الشعبية بوقف التسلح النووي، ووقف التجارب النووية. وانعكس ذلك بقوة على الحياة السياسية في مختلف البلدان، كما على المؤسسات الدولية كالامم المتحدة وغيرها.
أفضلية الضربة الاولى
ووصل سباق التسلح النووي الى درجة ان كلاً من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي (فروسيا) صار كل منهما يمتلك من المخزون النووي ما يكفي لتدمير الكوكب الأرضي كله بضع مرات. وصار الهدف في السباق هو على من يسبق الى تحقيق الضربة الأولى قبل الاخر. ومن هنا تأتى الرعب الاميركي المرَضي من الصواريخ السوفياتية والروسية. وهذا ما اجبر اميركا على القبول بالدخول في المفاوضات، لانها خسرت أيضا احتكار القدرة على توجيه الضربة الأولى. مع التأكيد على ان اتحاد السوفياتي، ودون التهاون في برامجه الدفاعية، كان منذ البداية يدعو الى تحريم السلاح النووي.
اتفاقيات منع التسلح النووي
وبدأت منذ الخمسينيات المفاوضات من اجل منع التجارب النووية ومنع والحد من انتشار الاسلحة النووية، ومنع أسلحة الدمار الشامل على اختلافها، والحد من انتشار الصواريخ والطائرات الاستراتيجية واعدادها ومدياتها... الخ.
وكان العديد من هذه المفاوضات ذا طابع دولي عام. ولكن أهمها كانت المفاوضات المباشرة بين الدولتين العظميين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.
واسفرت تلك المفاوضات عن اتفاقات دولية أهمها اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية سنة 1963 والتي وقعتها حتى الان حوالى 200 دولة، وبناء عليها تأسست "وكالة الطاقة الدولية".
كما اسفرت المفاوضات الثنائية بين الدولتين العظميين عن عدة اتفاقيات أهمها اتفاقية "سالت ـ 1" التي وقعت سنة 1972، و"سالت ـ 2" التي وقعت سنة 1979، وتتعلق الاتفاقيتان بالطائرات الاستراتيجية والصواريخ وأعدادها ومدياتها. ومع التقليص التدريجي لاعداد الصواريخ البعيدة المدى توصلا الى تحريمها، حددت اتفاقية "سالت ـ 2" مدى الصواريخ المسموح بها بـ 600 كلم باعتبارها صواريخ "دفاعية".
التحايل الاميركي
ولكن من اجل التفرد بالقدرة على توجيه الضربة الأولى، التي تكون الضربة القاضية، اخذت الولايات المتحدة الأميركية، مدعومة من قيادة الناتو وبعض بلدان الاتحاد الأوروبي، تتحايل على تطبيق اتفاقية "سالت ـ 2" بطريقتين منفصلتين ـ مترابطتين:
الأولى ـ تكنوستراتيجية، وهي العمل على انشاء نظام الدرع الصاروخية، أي نظام صاروخي مضاد للصواريخ، وهو نظام راداري ـ قمداري (قمرمداري) ـ صاروخي، متكامل، مهمته اكتشاف الصواريخ المعادية لدى انطلاقها والتصدي المبكر لها وتفجيرها في الجو بصاروخ مضاد جاهز سلفا، ويتحرك ضمن اطار هذا النظام.
والثانية ـ جيوستراتيجية وهي (عن طريق المؤامرات والانقلابات المسماة "الثورات الملونة" والتعاون مع القوى الفاشستية والعميلة والتوسعية، المعادية لروسيا قوميا او ايديولوجيا او دينيا) محاولة ضم بعض دول الاتحاد السوفياتي السابق المحاذية لروسيا الى حلف الناتو، وعلى العموم محاولة نشر عناصر الدرع الصاروخية في البلدان المحاذية لروسيا او القريبة جدا منها.
روسيا لا تنام على ضيم
وقد نجحت الولايات المتحدة في ضم غالبية دول أوروبا الشرقية الى حلف الناتو بالاستناد الى الموجة المرحلية المعادية للشيوعية فيها، ولكنها فشلت فشلا ذريعا في جورجيا وأوكرانيا. وحينما نشرت اميركا شبكة صواريخ "باتريوت" المضاد للصواريخ بالقرب من الحدود التركية ـ الروسية، جاء الرئيس بوتين شخصيا الى انقرة ووجه رسالة حازمة لتركيا الزمتها بالطلب من الاميركيين سحب الباتريوت فورا وتجميعها على الحدود مع سوريا بحجة مواجهة "الخطر الإيراني" المزعوم. وحينما وافقت تشيخيا وبولونيا على نشر عناصر الدرع الصاروخية الأميركية على أراضيهما، اعتبرت روسيا ان ذلك يهدد امنها القومي، لانه يحرمها حق الدفاع المشروع عن النفس ويجعلها عرضة للضربة الأولى الأميركية دون القدرة على الرد، وقامت ـ أي روسيا ـ باتخاذ تدابير دفاعية فعالة من شأنها محو الدول المعتدية عن الخريطة، ومن تلك التدابير: ارسال صواريخ " إسكندر" الى مقاطعة كالينينغراد المحاذية لبولونيا. وهو صاروخ مداه 500 كلم (أي لا تنطبق عليه اتفاقية "سالت ـ 2") وله مواصفات تدميرية ودقيقة هائلة. وفيما لو انزلته طائرة هليكوبتر حربية عملاقة في أي نقطة في أوروبا، فإنه قادر على التدمير الهائل في دائرة قطرها 1000 كلم (حسب الطلب). فاضطرت تشيخيا وبولونيا الى اعلان التخلي، على الأقل في المرحلة الراهنة، عن مشاريع نشر عناصر الدرع الصاروخية الاميركية على اراضيهما.
رقابة شاملة على أي طيران في الكوكب الارضي
ولكن الرد الروسي الأهم كان في انجاز نظام الرقابة الفضائية ــ الجوية الشاملة، الذي بدئ العمل في بنائه سنة 2011 وتم إنجازه في 2014 ويجري العمل لتطويره باستمرار. وسمي "النظام الفضائي الموحد" “single space system” ومختصره (SSS) ومهمته مراقبة الفضاء المحيط بالكوكب الأرضي وكل ما يطير ويتحرك في الجو الأرضي وفك شيفرته ومعرفة توجهه ومن اين جاء وهدفه وحمولته وقدرته التدميرية التقريبية وسرعته والإبلاغ الفوري عنه. ويتيح هذا النظام حماية روسيا من الضربة الأولى، وفي الوقت ذاته يتيح الفرصة لروسيا للكشف المسبق عن أي تحرك عدواني وتمكين روسيا من توجيه ضربة ماحقة اليه والى مصادره قبل ان يحقق أياً من أهدافه. وقد انزل هذا النظام كل نظام الدرع الصاروخية لاميركا والناتو وإسرائيل الى مرتبة الصفر.
عودة سباق التسلح النووي
وفي أجواء المجابهة الراهنة بين روسيا والكتلة الغربية، وهو ما يحدث لأول مرة بهذه الشدة منذ سقوط المنظومة السوفياتية وتفكك الاتحاد السوفياتي، تعود أجواء سباق التسلح النووي الى ما كانت عليه في اصعب أوقات الحرب الباردة بين المعسكرين السابقين. وبصرف النظر عن التصريحات المنمقة للبيت الأبيض الأميركي حول ضرورة نزع السلاح النووي، يقول تقرير للخبراء في "مجلس المعلومات البريطاني ـ الأميركي للامن" (British - American Security Information Council, BASIC) ان العالم دخل في دورة جديدة من سباق التسلح، والعديد من الدول تقوم بتحديث ترسانتها من الأسلحة النووية وحواملها، وانه لا يوجد أي دولة من "النادي النووي" تفكر بمستقبل لها بدون السلاح النووي.
ويضيف التقرير ان إسرائيل تعمل بنشاط لصناعة صاروخ باليستي عابر للقارات. وان برامج الولايات المتحدة الخاصة بالأسلحة النووية وحواملها ستبلغ في السنوات القليلة القادمة اكثر من 700 مليار دولار.
القلق الأميركي على واشنطن
وكتبت جريدة غارديان البريطانية ان الولايات المتحدة الأميركية، هي قلقة جدا من الدوريات الاكثر جرأة التي تقوم بها قرب المياه الإقليمية الأميركية الغواصات النووية الروسية القادرة على حمل الصواريخ النووية. وان هوة عدم الثقة بين البلدين قد اتسعت أيضا بسبب الصاروخ المجنح الجديد لروسيا، وهو صاروخ متوسط المدى، قادر على حمل سلاح نووي، ويطوف حول حقول البث الراداري ما يجعل اكتشافه متعذرا، ثم ينقض على هدفه من اقرب نقطة ممكنة، قبل ان يتاح لنظام الردع الصاروخي التصدي له. وتضيف الجريدة انه من وجهة نظر واشنطن فهذا يعتبر خرقا لاتفاقيات مراقبة التسلح السابقة، وهو ما يبرر لواشنطن العودة الى سياسة نشر صواريخها المجنحة في البلدان الأوروبية.
ومن ابرز علامات القلق الأميركي انه خلال الاحتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة، قام الجيش الأميركي بتجربة فوق واشنطن بالذات لنظام جديد للتصدي لهجوم بالصواريخ المجنحة. ولم تحدد "هيئة اركان القوات الجوية ـ الفضائية" (المسماة اختصارا "نوراد") طبيعة التهديد المتوقع، ولكن التدابير المتخذة كان قد شرع بها قبل تسعة اشهر، حينما اعترفت "نوراد" بأن البنتاغون قد اصطدم "ببعض التحديات المهمة" في ما يتعلق بالتصدي للصواريخ المجنحة، اخذا بالاعتبار التهديد المتأتي من الغواصات الحربية الروسية، كما تشير الجريدة البريطانية. وهي تضيف ان هذه الغواصات تقوم بغارات مفاجئة في المحيط الأطلسي، وهي مسلحة بصواريخ مجنحة قادرة على حمل شحنات نووية. وانه على ضوء ما سمته الجريدة "الخطاب العدواني" لموسكو وانقضاء مهلة الحد من التسلح، بناء على الاتفاقيات السابقة، فإن واشنطن غير متأكدة فيما اذا كانت هذه الصواريخ لا تحمل رؤوسا حربية نووية.
ويتم تصعيد التوتر الحالي في وقت فقدت فيه جهود الرقابة على التسلح زخمها السابق. وفي السنة الماضية ازداد عدد الرؤوس الحربية النووية التي نشرتها كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا.
روسيا تتجه نحو التحديث الكامل للتسلح النووي
وعلى خلفية الحرب الإقليمية في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية وسياسة العزل والتطويق والتهديدات التي توجهها الكتلة الغربية ضد روسيا، تركز إدارة الرئيس بوتين على السلاح النووي بوصفه الضمانة الرئيسية للامن القومي الروسي.
غواصة نووية روسية في القاعدة الحربية في مورمانسك في بحر بارنتس في اقصى الشمال
وفي هذه الأجواء عقد في 19 كانون الأول الماضي اجتماع موسع لجميع الهيئات المرتبطة بوزارة الدفاع الوطني الروسية، برئاسة القائد العام للقوات المسلحة الروسية الرئيس فلاديمير بوتين، للبحث في الاخطار التي تكتنف البلاد. وفي هذا الاجتماع حذر بوتين من ان روسيا ستدافع عن امنها القومي بثبات وشدة. وعلى ضوء ذلك وضع الرئيس امام المؤسسة العسكرية في البلاد خمس مهمات رئيسية.
غواصة نووية روسية
أولها: وضع البرنامج الدفاعي للبلاد للسنوات 2016 ـ 2020، على ان يطرح للتصديق عليه في كانون الأول 2015.
ثانيها واهمها: تطوير جميع مكونات القوات النووية الاستراتيجية، ولهذه الغاية ان يتم قبل سنة 2021 التحديث التام لأسلحة القوات النووية ذات القواعد البرية، والتجديد والتحديث الكامل لحظيرة الثلاثية النووية الجوية (القواعد الصاروخية النووية البرية، القاذفات الاستراتيجية حاملة الصواريخ النووية، الغواصات حاملة الصواريخ النووية).
ونظرا للضخامة الاستثنائية لهذا المشروع، واخذا بالاعتبار انخفاض مداخيل الدولة بسبب الانخفاض الكبير لاسعار النفط، ادلى بعض الخبراء بآراء تقول انه لن يمكن تنفيذ مشروع برنامج تحديث السلاح النووي الروسي بأكثر من 70%.
وقد رد على ذلك دميتريي روغوزين، المسؤول الأول عن المجمع الصناعي ـ الحربي، وبالاستناد الى تقارير الهيئات العلمية والاقتصادية والعسكرية المرتبطة بالمجمع، وقال: ان مشروع برنامج الرئيس بوتين للتحديث الكامل والشامل للسلاح النووي سيتم تنفيذه 100 بالمائة.