ارشيف من :آراء وتحليلات

بين هرمجيدون وأشراط الساعة

بين هرمجيدون وأشراط الساعة

كثيرة هي الاصوات التي انطلقت من اوروبا قبل احداث «شارلي ايبدو» وبعدها. اصوات دعت لاعادة النظر بقواعد « الديمقراطية» السائدة والتي يعتبرها بعضهم مجرد «خديعة» فيما اعتبرها آخرون « أداة تخفي العنصرية». لكن هذه الاصوات بقيت خافتة ومقموعة نتيجة الآلة الاعلامية التي تسيطر على العالم، والتي لا تسمح باطلاق السؤال عاليا عن سبب وصول الامور الى هذا الحد فيما يتعلق بالارهاب، وعن الدور الحقيقي للغرب في صناعته.

فرغم العدد الكبير للمتظاهرين التي شهدته العاصمة الفرنسية باريس في التظاهرة ضد الارهاب من حيث كونها التظاهرة الاكبر منذ تحرير باريس بعد الحرب العالمية الثانية (عام 1945) الا ان هذا الحشد كان مدفوعاً بهول الصدمة والرهبة المدعوم من آلة دعائية كبرى استهدفت، حسب قول احدهم، العقول «الخالية من التفكير» عند الكثيرين من مواطني « الديمقراطية».

العلمانية كأداة لتحقير الدين

تفتخر اوروبا بعلمانيتها التي جاءت على انقاض حكم كنسي ساد لعقود كان يحقر العلم ويحجّر العقول ويصادر الحريات، لكن العلمانية التي تعني فصل الدين عن السياسة تحولت الى أداة لتحقير الدين، فاضحت تمارس الدور الذي لعبته الكنيسة في العصور الوسطى.

وبنفس الانتقائية عمد الغرب الى تصنيف القضايا والمواقف. اذ يصعب التصديق ان ثمة براءة تقف خلف هذه التصنيفات مع التشوهات المعيارية فيها.
يجرّم الغرب التشكيك بحصول المحرقة النازية، والتعرض للانسان من منطلق لون بشرته او التهجم على الفرد العابر في الطريق تحت عنوان معاداة السامية والعنصرية والقدح والذم تواليا. لكنه يسمح بتحقير الاديان ومقدساته بحجة «حرية التعبير».

بين هرمجيدون وأشراط الساعة
دواعش

ولكن السؤال الملح هنا يتعلق بمدى الفارق بين الاساءات اللفظية او الكتابية والاساءات الجسدية، حتى يسمح بالاولى بذريعة الحرية وتمنع الثانية، أليس كلاهما فعلا؟ الاول فعل لفظي او كتبي فيما الثاني فعل جسدي. ولطالما كانت الافعال الجسدية تقع نتيجة الافعال اللفظية.

بهذا المعنى ما الفرق بين داعش والغرب الا كون الاول يحمل سيفاً فيما الثاني يحمل قلما؟ الاول يسفك الدماء بسيفه فيما قلم الثاني يزرع الفتن، والفتنة اشد من القتل. وبالسيف ينشر داعش الفوضى والوحشية فيما ينشر الغرب الكراهية وكلاهما فعل «ظلامي».

الصهيونية المسيحية وداعش


تاريخيا، ومنذ حروب « طريق الحرير» ساد الاعتقاد ان السياسة تحرك الحروب، فيما الاقتصاد يقف خلف السياسة. ورغم ان الدوافع الدينية كانت تظهر بانها تقف خلف الكثير من الحروب الا ان الوقائع تشير ان الدين لم يكن الا عباءة تستر الدوافع الحقيقية لاصحاب المصالح الكبرى.

لكن وبوصول الصهيونية-المسيحية برداء المحافظين الجدد الى الادارة الاميركية مع جورج بوش الابن، حصل التحالف بين الدين وهذه المصالح. ورغم تراجعهم عن المشهد الظاهري في الولايات المتحدة وخروجهم من البيت الابيض، لكن الصهيونية-المسيحية تغلغلت في صناعة القرار الاوروبي.
من هنا تعود المقاربة من جديد بين الغرب «المتصهين» وداعش. فالاول يشن حروبا دينية بانتظار معركة «هرمجيدون» و« القيامة السابعة» للمسيح، فيما يشن داعش حربه تحت عنوان «يوم القيامة واشراط الساعة».

وحتى في «التكفير» فان الغرب لا يختلف عن داعش ايضاً. لان التكفير عبارة عن اخراج «الآخر» من دائرة «الحق المطلق» الذي تحتكره «الأنا» من خلال المنظومة الفكرية التي أؤمن بها. وبهذا المعنى يصبح الغرب تكفيرياً بامتياز. من هنا نستطيع ان نتلمس ان التكفير بالمعنى الديني هو جزء من مفهوم أعم يعني الاقصائية والالغاء والتهميش.

وهكذا انقسم العالم وفق المنظور الغربي، على غرار الرؤية الداعشية، بطريقة او باخرى، الى «مؤمن» و «كافر». فالمؤمن هو الغربي ومن يحمل قيمه وهو يمثل معسكر «الخير» وفق تقسيمات جورج بوش الابن والصهيونية المسيحية ( او المحافظين الجدد)، اما المعسكر الآخر فهو «الكافر» الشرير.

وليس بعيدا عن هذا المعنى انه عليك ان تكون «شارلي» والا فانك «كافر» ايضاً لا تؤمن «بعقيدة» حرية التعبير.
هي جدلية «التكفير» ومنطق احتكار «الحق المطلق»، وجدلية السيف والقلم، يتلبس بألبسة مختلفة، تلعب فيها الحكومات الغربية دور الرجل الانيق فيما يلعب داعش دور الهمجي، وليس الاول سوى ظاهر الثاني، والثاني باطن الاول.

ما بين «هرمجيدون» و«اشراط الساعة» تتقاطع الحكومات الغربية وداعش بمشتركات كثيرة، لكن جميعها تعود الى حقيقة واحدة : أن كليهما يصنع التوحش.
2015-02-03