ارشيف من :آراء وتحليلات
أوباما - سلمان: حديث عن وئام أميركي سعودي يشطب مرحلة عبد الله
رغم الاهتمام الاعلامي بتركيبة الوفد الكبير الذي ترأسه الرئيس باراك
اوباما الى الرياض للتعزية بالملك عبد الله وتهنئة الملك الجديد سلمان بن عبد
العزيز، وما أثير حول دلالات مشاركة كبار الجمهوريين في ادارتي جورج بوش الابن
وقبله جورج بوش الاب، لا سيما المسؤولين المباشرين عن ملفي الخارجية والامن في
ادارتي آل بوش ( جيمس بيكر، برنرت سكوكرفت، كونداليزا رايس، ستيفن هادلي) وفي
الادارة الحالية (جون كيري، جون برينان، سوزان رايس، ليزا موناكو)، بحيث بلغ عديد
الوفد ثلاثين مسؤولا سابقا وحالياً، فإن النتائج التي تمخضت عنها الزيارة تحتاج الى
وقت حتى تتبين معالمها الحقيقية وما اذا كانت استطاعت تقريب المسافات في القضايا
التي تكرر الحديث عنها مؤخراً بصفتها قضايا نزاعية مستجدة في العلاقة الاميركية _
السعودية.
المحصلة الاولى التي ربما ترغب الرياض في تسويقها هي منح الحصانة الخارجية (الأميركية تحديداً) لعملية الاطاحة التي بدأها الملك الجديد بارث أخيه غير الشقيق بعيد ساعات من رحيله، وأكملها مباشرة بعيد قليل من مغادرة اوباما المملكة عائداً الى بلاده. وهو موضوع كان نائب مستشار الامن القومي الاميركي بن رودز قال للصحافيين المرافقين للرئيس الاميركي على متن طائرته انه سيبحثه انتقال القيادة في السعودية مع الملك الجديد. وقد انتهت التغييرات الجذرية الملفتة التي اجراها الملك سلمان في هيكلية السلطة الى توزيعها على شخصين من الاحفاد هما ابنه الامير محمد وزير الدفاع ورئيس الديوان الملكي ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية، والامير محمد بن نايف ولي ولي العهد ووزير الداخلية والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ثم رئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية. وهذان المجلسان هما ما ابقاهما الملك الجديد _بعد الدمج والالغاء _من اثني عشر مجلساً انشأها الملك الراحل في اطار ما سميت بخطواته الاصلاحية، ما طرح اسئلة حول المسار الاصلاحي في المملكة، وانتهت الاجابة عنه وفق اكثر من تقرير غربي رسمي وحقوقي الى ان شخصية القادة الجدد للملكة تنزع نحو المحافظة والتشدد وليس نحو التغيير، لكن الاهم وبمعزل عن الجانب الشخصي المهم ايضاً، هو ان الشأن الداخلي (السباق الى العرش) تم حسمه سريعاً جانباً لصالح تقدم الملفات الاخرى الداخلية والخارجية وهي ذات طابع أمني بحت، على ان تتكفل المليارات المئة وعشرة من الريالات السعودية في تهدئة خواطر المواطنين على هذه المكرمة الملكية الجديدة.
حلف أمني وثيق
الخلاصة الأولية ان محمد بن نايف الذي يوصف بأنه الرجل الاقوى بات يمسك باكثر مفاصل المملكة حساسية، يقدم على انه اكثر المسؤولين السعوديين قرباً من واشنطن، وفي ذلك افاضت تقارير وكالات الانباء الغربية في استحضار سيرته ودراسته العلوم السياسية في الولايات المتحدة وقربه من الادارات الاميركية، الى حد لقائه بالرئيس اوباما مرتين في واشنطن رغم انه كان في مرتبة وزير، مع الاشارة الى ان الاشهر القليلة الماضية شهدت سلسلة زيارات لعدد من احفاد العائلة المالكة الى واشنطن في سياق ما سمي حينها البحث قي ترتيبات مرحلة ما بعد الملك عبد الله.
وفي خضم هذه التقارير المتعددة المصادر التي تتحدث عن بن نايف الذي يقود شبكة الاستخبارات الداخلية والتي تجعله على علم دائم بأسرار المملكة، وانه لعب دوراً أمنياً حاسماً أيضاً في كل ملف من ملفات السعودية الدولية الحساسة، بما في ذلك التعامل مع البحرين وقطر وسوريا والعراق واليمن والفلسطينيين، فان تقريرا لصحيفة نيويورك تايمز ميز بين امرين الاول: تركيز الرجل على مكافحة الارهاب الذي يتماشى مع البيت الابيض، لكن الثاني غير المؤكد هو ما اذا كان إذا سيكون أقل معاداة لاستمرار المفاوضات بين واشنطن وإيران بشأن برنامجها النووي، أو للإشارات التي يصدرها البيت الأبيض بأنه لم يعد يرغب بالضغط من أجل الإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد.
الملك السعودي والرئيس الاميركي
وهنا كان لافتاً في جدول الموضوعات التي ناقشها الرئيس اوباما مع القيادة السعودية الجديدة أن الموضوع السوري كان غائباً بالكامل ولم يتم التحدث عنه فيما يتعلق بالمرحلة المستقبلية وما كان يثار سابقا من طروحات لدعم المعارضة وخطط الاطاحة بنظام الاسد وما شابه. بل ان الموضوعات التي تم تداولها تركزت على اربع: الحرب على تنظيمي داعش والنصرة، ايران، اليمن والنفط. والارجح ان ازاحة الفريق السعودي الذي كان يدير الملف السوري وفي مقدمهم بندر بن سلطان الذي شطب من المعادلة نهائيا حتى كمستشار ومبعوث خاص للملك او رئيسا لمجلس الامن القومي، فان الملك سلمان لم يكتف باعفاء بندر من جميع هذه المناصب، بل انه الغى مجلس الامن القومي من اساسه ولم يعد له وجود، مع الاشارة طبعا الى فقرات وردت في اكثر من تقرير غربي تشير الى خلافات مستحكمة بين محمد بن نايف وبندر بن سلطان بشأن كيفية التعامل مع الازمة السورية. وبالتالي فان طبيعة الاداء الذي سيكون عليه الدور السعودي تجاه الملف السوري يتسم على الاقل في هذه المرحلة بالغموض على المستوى الميداني، وان كان بقاء سعود الفيصل في وزارة الخارجية سيتكفل بتظهير الموقف المتشدد من الرئيس الاسد، ولكن قد لا يكون الزخم الميداني الداعم للمعارضات السورية وغيرها من القوى الناشطة في سوريا ضد النظام بالمستوى السابق نفسه. ويمكن توقع ان تنضبط الرياض تحت سقف المقاربة الاميركية في كيفية التعامل مع الملف السوري دون الذهاب في بناء طموحات كبيرة كما كان يفعل بندر بن سلطان ومن يقف وراءه، وبالتالي فان المسالة التي كانت تثير حنق القيادة السعودية السابقة على الرئيس اوباما بسب عدم شنه حرباً في صيف العام 2013 لاسقاط الرئيس الاسد بل ابرامه اتفاق جنيف الكيميائي قد تتراجع بصفتها نقطة خلافية. وهنا لا حاجة للافاضة في موضوع الحرب على داعش وفروع القاعدة فهي شغل محمد بن نايف الشاغل وله في ذلك مقاربة خاصة يتوقع ان تكون متطابقة بالكامل مع الاميركيين.
النووي الايراني: الامر للاميركيين
اما بالنسبة لايران التي تؤرق بال القيادة السعودية بسبب الخشية من اتفاق نووي إيراني _ غربي قريب فيبدو ان الامور تتجه نحو التسليم بالامر بالواقع بسبب حزم اوباما ورغبته انهاء ولايته وتتويجها بمثل هذه الخطوة. وفيما يقول محللون وديبلوماسيون يعرفون بن نايف حسب نيويورك تايمز إنه يجسد تحول السعودية إلى سياسة خارجية أكثر حزماً فيما يخص دعم الحلفاء وهزيمة الخصوم، ويستعيد آخرون تقارير لويكليكس من السفارة الاميركية في الرياض تظهر تشدده وهو وعمه الملك تجاه ايران وقضايا اخرى، فان هامش المناورة في هذا الامر قد لا يكون متاحاً لدى السعودية، رغم قلق الاخيرة من التقارب الاميركي _ الايراني الذي سيعزز حتما موقع ونفوذ طهران الاقليميين. وقد اعلن مسؤول اميركي ان الملك سلمان لم يبد تحفظات على المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة بهدف "كبح" البرنامج النووي الإيراني، وهو قال إنه لا ينبغي السماح لطهران بصنع سلاح نووي.
لكن من الواضح ان اوباما ليس في وارد المساومة على الاتفاق النووي الايراني حتى انه دخل في معركة مع الكونغرس على خلفية سعي بعض الاعضاء الجمهوريين الى سن قانون بعقوبات جديدة على طهران، الامر الذي انتقده الرئيس الاميركي بشدة، محذرا من انه يبرر لايران لاحقاً خطواتها المستقبلية بالانسحاب منن المفاوضات واتهام واشنطن بنسف الاتفاق في حال كانت عرقلة المفاوضات من الطرف الأميركي، وان الامور قد تذهب نحو مواجهة عسكرية، وان وجهة نظر ايران ستلقى قدرا من التعاطف على مستوى العالم مما ينطوي على احتمال تداعي العقوبات المفرضة حالياً.
ازاء مقاربة اوباما المتمسكة بالمفاوضات النووية يبدو ان الرياض ستضطر للسير مع القضاء والقدر الاميركيين، لكن مقابل تسليمها بهذا الامر هناك الموضوع الثالث الذي كان محل بحث ونقاش ويتعلق بالتدهور العالمي في اسعار النفط، حيث يحمِّل جزء كبير من المجتمع الدولي السعودية المسؤولية عنه بسبب رفضها خفض انتاج اوبك لوقف الانخفاض الكبير في الاسعار. والخلاصة التي اذاعها مسؤول اميركي رافق اوباما في زيارته ان العاهل السعودي عبر عن رسالة مفادها استمرارية سياسة الطاقة التي تنتهجها بلاده وقال ان السعودية ستواصل لعب دورها في إطار سوق الطاقة العالمية، وانه ينبغي ألا يتوقع أحد تغييرا في موقف بلاده. واعتبرت أسواق الطاقة قرار الملك إبقاء وزير النفط علي النعيمي في منصبه إشارة إلى أن المملكة لن تتخلى عن سياستها الرافضة لخفض الانتاج مع دفاعها القوي عن حصتها بالسوق، وعدم التخلي عن حصة لصالح منتجين من خارج المنظمة مثل روسيا ومنتجي النفط الصخري بالولايات المتحدة. وفلسفة النعيمي في ذلك يلخصها ما قاله لنشرة "ميدل ايست ايكونوميك سرفي" (ميس) في ديسمبر/ كانون الأول المنصرم: "هل من المعقول أن يخفض منتج للنفط ذو كفاءة عالية الإنتاج ويستمر المنتج ذو الكفاءة الرديئة في الإنتاج؟ هذا منطق غير سليم".
صحيح ان هناك قناعة شبه مستقرة ان الولايات المتحدة لم تعد بحاجة كالسابق الى النفط الخليجي وان طفرة انتاج النفط المحلي لديها يغنيها عن الاعتماد بشكل كبير كما في السابق على صادرات السعودية، وبالتالي فان هذا قد يزحزح مكانة المملكة لدى الولايات المتحدة ودرجة اهتمامها بها، ومن هنا يفهم بعض المحللين تمسك الرياض بعدم التدخل لوقف انهيار الاسعار، رغم انها تراجعت الى مستويات لم يتوقعها المنتجون الخليجيون الرئيسيون في أوبك والحقت بهم خسائر كبيرة. لكن من غير المعروف ما اذا كانت الرياض تتقصد استخدام النفط كسلاح للضغط على واشنطن في القضايا الخلافية الانفة الذكر او قضايا اخرى يمكن ان تظهر لاحقاً، أو ما اذا كان النفط الاميركي الصخري هو المستهدف بذاته من ضمن استهدافات سعودية أخرى (روسيا وايران)، باعتبار ان كلفته العالية قد توقف استخراجه في حال انخفضت اسعاره الى درجة لا يمكن معه الاستثمار فيه من قبل الشركات المنتجة. وهذا ما حصل بالفعل يوم الاثنين (2 شباط الجاري) عندما ارتفع برميل النفط اربع دولارات ليصل الى 55 دولاراً بسبب تركيز المستثمرين على انخفاض شديد في عدد منصات الحفر الباحثة عن الخام الصخري في الولايات المتحدة وهو ما يُنبئ بتراجع الإنتاج في المستقبل كما جاء في الخبر الذي وزعته وكالة رويترز نقلا عن خبراء في مجال اسواق الطاقة.
ولكن ربما يوفر هذا الانخفاض الذي ارهق ميزانيات الدول الخليجية وغيرها بما فيها السعودية فرصة للدول الغربية والولايات المتحدة لزيادة مخزونها النفطي باسعار ممتازة حالياً قياساً بالسنوات الماضية عندما كاد برميل النفط يقترب من المئة وخمسين دولاراً.
اليمن: الى الجنوب در
هل فعلاً النفط هو نقطة نزاع اميركي _ سعودي؟ قد لا يكون الجواب متاحاً بالدقة نفسها كما هو في ملفات اخرى يسودها الغموض مثل الملف اليمني الذي يبدو ان واشنطن والرياض لا تعتنقان نفس المقاربة، او تعانيان من الارباك، او لا تزالان تحت وطأة الصدمة الناجمة عن التحرك السريع والحاسم الذي قام به انصار الله عندما قادوا ثورة شعبية جديدة اسقطت نظام الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته، ومعهما النظام الذي انتجته المبادرة الخليجية برعاية اميركية عام 2012 وتم حينها احتواء ثورة فبراير 2011.
وانهيار الحكومة اليمنية مصدر قلق للسعودية لأن بينهما حدودا مشتركة طويلة وبسبب ما تعتبره المملكة تقدماً لايران في منطقة عملها الحيوية. وقد افرطت الصحف السعودية وتصريحات رسمية عدة في الحديث عن الدور الايراني فيما يجري في اليمن، لكن اللافت انه عشية زيارة اوباما الى الرياض قال المتحدث باسم البيت الابيض جوش ايرنست إنه "ليس واضحا" لادارة اوباما ما إن كانت ايران لها سيطرة على المتمردين الحوثيين في اليمن" حسب تعبيره. كما ان هناك تصريحاً آخر للمتحدث باسم وزارة الحرب الاميركية البنتاغون جون كيربي قال فيه: "نظرا الى الفوضى السياسية، من الصواب القول ان مسؤولين حكوميين اميركيين هم على اتصال مع مختلف الاطراف في اليمن حيث الوضع السياسي متحرك جدا ومعقد جداً". واضاف: "من الصحيح القول أيضاً ان الحوثيين سيكون لهم بالتأكيد أسباب للتحدث مع الشركاء الدوليين ومع الأسرة الدولية عن نواياهم والطريقة التي ستتم فيها العملية". كما نفى كيربي وجود اية الية لتقاسم المعلومات مع الحوثيين بشأن الحرب على تنظيم القاعدة. وقال:"لا يوجد اتفاق رسمي للقيام بذلك ونحن بحاجة لهذه الاتفاقات الرسمية كي نكون قادرين على فعل ذلك". وفيما أثارت هذه التصريحات تكهنات لدى البعض عن تواصل اميركي _ حوثي فان المتحدث باسم الخارجية الاميركية جيوشوا بيكر نفى وجود محادثات مباشرة مع انصار الله، التي ترفض مثل هذا الامر بالمبدأ. ثم برز ارباك اميركي آخر تمثل بالحديث عن توقف هجمات الطائرات الاميركية من دون طيار التي تستهدف عناصر من القاعدة وتقتل ايضاً مدنيين يمنيين لغاية في نفس واشنطن، ثم اضطر أوباما الى التدخل بنفسه ليحسم الموضوع ويعلن استمرار العمليات، وتنفذ بعدها الطائرات من دون طيار عدة غارات.
على أي حال فان اليمن كان موضوعاً رئيساً بين اوباما والمسؤولين
السعوديين، ولم يعلن أي شيء يفيد في كيفية مقاربة البلدين للتطورات في هذا البلد،
والتي يتوقع ان تتخذ مساراً يطيح بكل مظاهر التدخل الدولي والاقليمي بالشأن اليمني،
وانتاج سلطة جديدة تنبثق شرعيتها من الغالبية الشعبية التي فوضت السيد عبد الملك
الحوثي من خلال المؤتمر الوطني الموسع في صنعاء لتحديد شكل وآليات السلطة
الانتقالية في حال فشلت المفاوضات بين القوى السياسية التي يشارك فيها المبعوث
الاممي جمال بن عمر. لكن الاهتمام الاميركي باليمن ووجود عدة قواعد عسكرية لهم فيه،
وايضا الشق الامني والسياسي الذي تعتبر الرياض نفسها معنية به في هذا البلد، سينبئ
ما اذا كانت ستنقل اهتمامها من سوريا الى اليمن وتجعله اولويتها الاساسية نظرا
للتداخل الجغرافي والديموغرافي معه لا سيما اذا بقيت على قناعة بأن ايران باتت على
حدودها الجنوبية كما تضج بذلك كثير من الصحف السعودية.
وهنا قد يتكرر الخلاف الاميركي السعودي في كيفية معالجة ما يعتبرونه اخطارا يمنية وما اذا كانت الرياض تريد من الادارة الاميركية تصنيف انصار الله تنظيماً ارهابياً كما فعلت هي، أو ستطلب التدخل العسكري البري لاسقاط السلطة الجديدة التي يتوقع ان تبصر النور قريباً، أو يتعايش الجميع مع الامر الواقع ويعترفوا بالمتغيرات على القواعد التي تحدث عنها السيد عبد الملك مؤخراً في رسائله للاطراف الخارجية. لكن في ظل الانطباع السائد لدى بعض الخبراء بأن الإدارة السعودية الجديدة ستكون متفقة الى حد كبير مع المواقف الأميركية فان احتمال انتاج رؤية مشتركة للتعامل مع الحدث اليمني قد لا يكون بعيداً.
يبقى النفاق الاميركي حاضرا دائماً، فملف حقوق الانسان الذي طالما رفع في وجه السعودية بصورة موسمية او لاغراض الضغط سيكون من الصعب على واشنطن التعامل معه طالما ان ابرز اصدقائها (محمد بن نايف) مسؤول عنه، ويكفي التبرير النفعي الذي قدمه أوباما عندما قال في مقابلة مع شبكة "سي.إن.إن" الأمريكية إنه "يضغط على حلفاء مثل السعودية في قضايا حقوق الإنسان لكن عليه أن يوازن بين هذا الضغط وبين المخاوف المتعلقة بالإرهاب والاستقرار الاقليمي".
ما تقدم يشير الى ان توزع المواقف الاميركية والسعودية من القضايا المطروحة في قدر من الوضوح لكن يحتاج الى وقت حتى تتبلور الصورة اكثر وتحديد حجم النزعة الخلافية التي حكمت الفترة القليلة الماضية مع ترجيح بأن حاجة النظام الجديد في المملكة الى مؤازرة خارجية ستقلص من هذه النزعة الى مستوياتها الدنيا، لكن دون أن تلغيها بالكامل، لكن بما يشطب ارث المرحلة الماضية بالكامل.
المحصلة الاولى التي ربما ترغب الرياض في تسويقها هي منح الحصانة الخارجية (الأميركية تحديداً) لعملية الاطاحة التي بدأها الملك الجديد بارث أخيه غير الشقيق بعيد ساعات من رحيله، وأكملها مباشرة بعيد قليل من مغادرة اوباما المملكة عائداً الى بلاده. وهو موضوع كان نائب مستشار الامن القومي الاميركي بن رودز قال للصحافيين المرافقين للرئيس الاميركي على متن طائرته انه سيبحثه انتقال القيادة في السعودية مع الملك الجديد. وقد انتهت التغييرات الجذرية الملفتة التي اجراها الملك سلمان في هيكلية السلطة الى توزيعها على شخصين من الاحفاد هما ابنه الامير محمد وزير الدفاع ورئيس الديوان الملكي ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية، والامير محمد بن نايف ولي ولي العهد ووزير الداخلية والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ثم رئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية. وهذان المجلسان هما ما ابقاهما الملك الجديد _بعد الدمج والالغاء _من اثني عشر مجلساً انشأها الملك الراحل في اطار ما سميت بخطواته الاصلاحية، ما طرح اسئلة حول المسار الاصلاحي في المملكة، وانتهت الاجابة عنه وفق اكثر من تقرير غربي رسمي وحقوقي الى ان شخصية القادة الجدد للملكة تنزع نحو المحافظة والتشدد وليس نحو التغيير، لكن الاهم وبمعزل عن الجانب الشخصي المهم ايضاً، هو ان الشأن الداخلي (السباق الى العرش) تم حسمه سريعاً جانباً لصالح تقدم الملفات الاخرى الداخلية والخارجية وهي ذات طابع أمني بحت، على ان تتكفل المليارات المئة وعشرة من الريالات السعودية في تهدئة خواطر المواطنين على هذه المكرمة الملكية الجديدة.
حلف أمني وثيق
الخلاصة الأولية ان محمد بن نايف الذي يوصف بأنه الرجل الاقوى بات يمسك باكثر مفاصل المملكة حساسية، يقدم على انه اكثر المسؤولين السعوديين قرباً من واشنطن، وفي ذلك افاضت تقارير وكالات الانباء الغربية في استحضار سيرته ودراسته العلوم السياسية في الولايات المتحدة وقربه من الادارات الاميركية، الى حد لقائه بالرئيس اوباما مرتين في واشنطن رغم انه كان في مرتبة وزير، مع الاشارة الى ان الاشهر القليلة الماضية شهدت سلسلة زيارات لعدد من احفاد العائلة المالكة الى واشنطن في سياق ما سمي حينها البحث قي ترتيبات مرحلة ما بعد الملك عبد الله.
وفي خضم هذه التقارير المتعددة المصادر التي تتحدث عن بن نايف الذي يقود شبكة الاستخبارات الداخلية والتي تجعله على علم دائم بأسرار المملكة، وانه لعب دوراً أمنياً حاسماً أيضاً في كل ملف من ملفات السعودية الدولية الحساسة، بما في ذلك التعامل مع البحرين وقطر وسوريا والعراق واليمن والفلسطينيين، فان تقريرا لصحيفة نيويورك تايمز ميز بين امرين الاول: تركيز الرجل على مكافحة الارهاب الذي يتماشى مع البيت الابيض، لكن الثاني غير المؤكد هو ما اذا كان إذا سيكون أقل معاداة لاستمرار المفاوضات بين واشنطن وإيران بشأن برنامجها النووي، أو للإشارات التي يصدرها البيت الأبيض بأنه لم يعد يرغب بالضغط من أجل الإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد.
الملك السعودي والرئيس الاميركي
وهنا كان لافتاً في جدول الموضوعات التي ناقشها الرئيس اوباما مع القيادة السعودية الجديدة أن الموضوع السوري كان غائباً بالكامل ولم يتم التحدث عنه فيما يتعلق بالمرحلة المستقبلية وما كان يثار سابقا من طروحات لدعم المعارضة وخطط الاطاحة بنظام الاسد وما شابه. بل ان الموضوعات التي تم تداولها تركزت على اربع: الحرب على تنظيمي داعش والنصرة، ايران، اليمن والنفط. والارجح ان ازاحة الفريق السعودي الذي كان يدير الملف السوري وفي مقدمهم بندر بن سلطان الذي شطب من المعادلة نهائيا حتى كمستشار ومبعوث خاص للملك او رئيسا لمجلس الامن القومي، فان الملك سلمان لم يكتف باعفاء بندر من جميع هذه المناصب، بل انه الغى مجلس الامن القومي من اساسه ولم يعد له وجود، مع الاشارة طبعا الى فقرات وردت في اكثر من تقرير غربي تشير الى خلافات مستحكمة بين محمد بن نايف وبندر بن سلطان بشأن كيفية التعامل مع الازمة السورية. وبالتالي فان طبيعة الاداء الذي سيكون عليه الدور السعودي تجاه الملف السوري يتسم على الاقل في هذه المرحلة بالغموض على المستوى الميداني، وان كان بقاء سعود الفيصل في وزارة الخارجية سيتكفل بتظهير الموقف المتشدد من الرئيس الاسد، ولكن قد لا يكون الزخم الميداني الداعم للمعارضات السورية وغيرها من القوى الناشطة في سوريا ضد النظام بالمستوى السابق نفسه. ويمكن توقع ان تنضبط الرياض تحت سقف المقاربة الاميركية في كيفية التعامل مع الملف السوري دون الذهاب في بناء طموحات كبيرة كما كان يفعل بندر بن سلطان ومن يقف وراءه، وبالتالي فان المسالة التي كانت تثير حنق القيادة السعودية السابقة على الرئيس اوباما بسب عدم شنه حرباً في صيف العام 2013 لاسقاط الرئيس الاسد بل ابرامه اتفاق جنيف الكيميائي قد تتراجع بصفتها نقطة خلافية. وهنا لا حاجة للافاضة في موضوع الحرب على داعش وفروع القاعدة فهي شغل محمد بن نايف الشاغل وله في ذلك مقاربة خاصة يتوقع ان تكون متطابقة بالكامل مع الاميركيين.
النووي الايراني: الامر للاميركيين
اما بالنسبة لايران التي تؤرق بال القيادة السعودية بسبب الخشية من اتفاق نووي إيراني _ غربي قريب فيبدو ان الامور تتجه نحو التسليم بالامر بالواقع بسبب حزم اوباما ورغبته انهاء ولايته وتتويجها بمثل هذه الخطوة. وفيما يقول محللون وديبلوماسيون يعرفون بن نايف حسب نيويورك تايمز إنه يجسد تحول السعودية إلى سياسة خارجية أكثر حزماً فيما يخص دعم الحلفاء وهزيمة الخصوم، ويستعيد آخرون تقارير لويكليكس من السفارة الاميركية في الرياض تظهر تشدده وهو وعمه الملك تجاه ايران وقضايا اخرى، فان هامش المناورة في هذا الامر قد لا يكون متاحاً لدى السعودية، رغم قلق الاخيرة من التقارب الاميركي _ الايراني الذي سيعزز حتما موقع ونفوذ طهران الاقليميين. وقد اعلن مسؤول اميركي ان الملك سلمان لم يبد تحفظات على المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة بهدف "كبح" البرنامج النووي الإيراني، وهو قال إنه لا ينبغي السماح لطهران بصنع سلاح نووي.
لكن من الواضح ان اوباما ليس في وارد المساومة على الاتفاق النووي الايراني حتى انه دخل في معركة مع الكونغرس على خلفية سعي بعض الاعضاء الجمهوريين الى سن قانون بعقوبات جديدة على طهران، الامر الذي انتقده الرئيس الاميركي بشدة، محذرا من انه يبرر لايران لاحقاً خطواتها المستقبلية بالانسحاب منن المفاوضات واتهام واشنطن بنسف الاتفاق في حال كانت عرقلة المفاوضات من الطرف الأميركي، وان الامور قد تذهب نحو مواجهة عسكرية، وان وجهة نظر ايران ستلقى قدرا من التعاطف على مستوى العالم مما ينطوي على احتمال تداعي العقوبات المفرضة حالياً.
ازاء مقاربة اوباما المتمسكة بالمفاوضات النووية يبدو ان الرياض ستضطر للسير مع القضاء والقدر الاميركيين، لكن مقابل تسليمها بهذا الامر هناك الموضوع الثالث الذي كان محل بحث ونقاش ويتعلق بالتدهور العالمي في اسعار النفط، حيث يحمِّل جزء كبير من المجتمع الدولي السعودية المسؤولية عنه بسبب رفضها خفض انتاج اوبك لوقف الانخفاض الكبير في الاسعار. والخلاصة التي اذاعها مسؤول اميركي رافق اوباما في زيارته ان العاهل السعودي عبر عن رسالة مفادها استمرارية سياسة الطاقة التي تنتهجها بلاده وقال ان السعودية ستواصل لعب دورها في إطار سوق الطاقة العالمية، وانه ينبغي ألا يتوقع أحد تغييرا في موقف بلاده. واعتبرت أسواق الطاقة قرار الملك إبقاء وزير النفط علي النعيمي في منصبه إشارة إلى أن المملكة لن تتخلى عن سياستها الرافضة لخفض الانتاج مع دفاعها القوي عن حصتها بالسوق، وعدم التخلي عن حصة لصالح منتجين من خارج المنظمة مثل روسيا ومنتجي النفط الصخري بالولايات المتحدة. وفلسفة النعيمي في ذلك يلخصها ما قاله لنشرة "ميدل ايست ايكونوميك سرفي" (ميس) في ديسمبر/ كانون الأول المنصرم: "هل من المعقول أن يخفض منتج للنفط ذو كفاءة عالية الإنتاج ويستمر المنتج ذو الكفاءة الرديئة في الإنتاج؟ هذا منطق غير سليم".
صحيح ان هناك قناعة شبه مستقرة ان الولايات المتحدة لم تعد بحاجة كالسابق الى النفط الخليجي وان طفرة انتاج النفط المحلي لديها يغنيها عن الاعتماد بشكل كبير كما في السابق على صادرات السعودية، وبالتالي فان هذا قد يزحزح مكانة المملكة لدى الولايات المتحدة ودرجة اهتمامها بها، ومن هنا يفهم بعض المحللين تمسك الرياض بعدم التدخل لوقف انهيار الاسعار، رغم انها تراجعت الى مستويات لم يتوقعها المنتجون الخليجيون الرئيسيون في أوبك والحقت بهم خسائر كبيرة. لكن من غير المعروف ما اذا كانت الرياض تتقصد استخدام النفط كسلاح للضغط على واشنطن في القضايا الخلافية الانفة الذكر او قضايا اخرى يمكن ان تظهر لاحقاً، أو ما اذا كان النفط الاميركي الصخري هو المستهدف بذاته من ضمن استهدافات سعودية أخرى (روسيا وايران)، باعتبار ان كلفته العالية قد توقف استخراجه في حال انخفضت اسعاره الى درجة لا يمكن معه الاستثمار فيه من قبل الشركات المنتجة. وهذا ما حصل بالفعل يوم الاثنين (2 شباط الجاري) عندما ارتفع برميل النفط اربع دولارات ليصل الى 55 دولاراً بسبب تركيز المستثمرين على انخفاض شديد في عدد منصات الحفر الباحثة عن الخام الصخري في الولايات المتحدة وهو ما يُنبئ بتراجع الإنتاج في المستقبل كما جاء في الخبر الذي وزعته وكالة رويترز نقلا عن خبراء في مجال اسواق الطاقة.
ولكن ربما يوفر هذا الانخفاض الذي ارهق ميزانيات الدول الخليجية وغيرها بما فيها السعودية فرصة للدول الغربية والولايات المتحدة لزيادة مخزونها النفطي باسعار ممتازة حالياً قياساً بالسنوات الماضية عندما كاد برميل النفط يقترب من المئة وخمسين دولاراً.
اليمن: الى الجنوب در
هل فعلاً النفط هو نقطة نزاع اميركي _ سعودي؟ قد لا يكون الجواب متاحاً بالدقة نفسها كما هو في ملفات اخرى يسودها الغموض مثل الملف اليمني الذي يبدو ان واشنطن والرياض لا تعتنقان نفس المقاربة، او تعانيان من الارباك، او لا تزالان تحت وطأة الصدمة الناجمة عن التحرك السريع والحاسم الذي قام به انصار الله عندما قادوا ثورة شعبية جديدة اسقطت نظام الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته، ومعهما النظام الذي انتجته المبادرة الخليجية برعاية اميركية عام 2012 وتم حينها احتواء ثورة فبراير 2011.
وانهيار الحكومة اليمنية مصدر قلق للسعودية لأن بينهما حدودا مشتركة طويلة وبسبب ما تعتبره المملكة تقدماً لايران في منطقة عملها الحيوية. وقد افرطت الصحف السعودية وتصريحات رسمية عدة في الحديث عن الدور الايراني فيما يجري في اليمن، لكن اللافت انه عشية زيارة اوباما الى الرياض قال المتحدث باسم البيت الابيض جوش ايرنست إنه "ليس واضحا" لادارة اوباما ما إن كانت ايران لها سيطرة على المتمردين الحوثيين في اليمن" حسب تعبيره. كما ان هناك تصريحاً آخر للمتحدث باسم وزارة الحرب الاميركية البنتاغون جون كيربي قال فيه: "نظرا الى الفوضى السياسية، من الصواب القول ان مسؤولين حكوميين اميركيين هم على اتصال مع مختلف الاطراف في اليمن حيث الوضع السياسي متحرك جدا ومعقد جداً". واضاف: "من الصحيح القول أيضاً ان الحوثيين سيكون لهم بالتأكيد أسباب للتحدث مع الشركاء الدوليين ومع الأسرة الدولية عن نواياهم والطريقة التي ستتم فيها العملية". كما نفى كيربي وجود اية الية لتقاسم المعلومات مع الحوثيين بشأن الحرب على تنظيم القاعدة. وقال:"لا يوجد اتفاق رسمي للقيام بذلك ونحن بحاجة لهذه الاتفاقات الرسمية كي نكون قادرين على فعل ذلك". وفيما أثارت هذه التصريحات تكهنات لدى البعض عن تواصل اميركي _ حوثي فان المتحدث باسم الخارجية الاميركية جيوشوا بيكر نفى وجود محادثات مباشرة مع انصار الله، التي ترفض مثل هذا الامر بالمبدأ. ثم برز ارباك اميركي آخر تمثل بالحديث عن توقف هجمات الطائرات الاميركية من دون طيار التي تستهدف عناصر من القاعدة وتقتل ايضاً مدنيين يمنيين لغاية في نفس واشنطن، ثم اضطر أوباما الى التدخل بنفسه ليحسم الموضوع ويعلن استمرار العمليات، وتنفذ بعدها الطائرات من دون طيار عدة غارات.
محمد بن نايف الذي يوصف بأنه الرجل الاقوى بات يمسك باكثر مفاصل المملكة حساسية، يقدم على انه اكثر المسؤولين السعوديين قرباً من واشنطن |
وهنا قد يتكرر الخلاف الاميركي السعودي في كيفية معالجة ما يعتبرونه اخطارا يمنية وما اذا كانت الرياض تريد من الادارة الاميركية تصنيف انصار الله تنظيماً ارهابياً كما فعلت هي، أو ستطلب التدخل العسكري البري لاسقاط السلطة الجديدة التي يتوقع ان تبصر النور قريباً، أو يتعايش الجميع مع الامر الواقع ويعترفوا بالمتغيرات على القواعد التي تحدث عنها السيد عبد الملك مؤخراً في رسائله للاطراف الخارجية. لكن في ظل الانطباع السائد لدى بعض الخبراء بأن الإدارة السعودية الجديدة ستكون متفقة الى حد كبير مع المواقف الأميركية فان احتمال انتاج رؤية مشتركة للتعامل مع الحدث اليمني قد لا يكون بعيداً.
يبقى النفاق الاميركي حاضرا دائماً، فملف حقوق الانسان الذي طالما رفع في وجه السعودية بصورة موسمية او لاغراض الضغط سيكون من الصعب على واشنطن التعامل معه طالما ان ابرز اصدقائها (محمد بن نايف) مسؤول عنه، ويكفي التبرير النفعي الذي قدمه أوباما عندما قال في مقابلة مع شبكة "سي.إن.إن" الأمريكية إنه "يضغط على حلفاء مثل السعودية في قضايا حقوق الإنسان لكن عليه أن يوازن بين هذا الضغط وبين المخاوف المتعلقة بالإرهاب والاستقرار الاقليمي".
ما تقدم يشير الى ان توزع المواقف الاميركية والسعودية من القضايا المطروحة في قدر من الوضوح لكن يحتاج الى وقت حتى تتبلور الصورة اكثر وتحديد حجم النزعة الخلافية التي حكمت الفترة القليلة الماضية مع ترجيح بأن حاجة النظام الجديد في المملكة الى مؤازرة خارجية ستقلص من هذه النزعة الى مستوياتها الدنيا، لكن دون أن تلغيها بالكامل، لكن بما يشطب ارث المرحلة الماضية بالكامل.