ارشيف من :نقاط على الحروف

13 شباط 2008...ما بين الظل والنور

13 شباط 2008...ما بين الظل والنور
منار صباغ

كان صباحاً غير اعتيادي في قناة المنار، اذكر جيداً تفاصيل هذا اليوم...احداثه كما لو انها الفصل الاهم في كتاب تاريخ، خبرت وعايشت جزءا منه، وسمعت عن اجزاء اخرى... كتاب تاريخ مقاومة علمتني معنى الكرامة والعزة ومنحتني شعور الامان وانا بالقرب من عدو وحشي...

لم اكن اعرف ما حصل ليل الثاني عشر من شباط، فأنا مثل كثيرين، تابعت خبر الانفجار الذي وقع في ضاحية كفرسوسة في دمشق دون الاحاطة بالتفاصيل.

ومع ذلك بدأت بعض الاخبار تتحدث عن حدث جلل اصاب جسم المقاومة...حضرت باكراً ذاك الصباح الى القناة...سبقنا كالعادة مدير الاخبار والبرامج السياسية في قناة المنار انذاك الحاج محمد عفيف، انها المرة الاولى التي ارى فيها الرجل باكياً، لا بل ان وجهه كان مبللاً بالدموع، مكتبه مفتوح..هواتفه الكثيرة لا تتوقف عن الرنين...لم يفصح عما كان يهمس به في قاعة الاخبار، استشهد الحاج رضوان...

بعض الزملاء الشباب تحديداً، هالهم وقع اسم رضوان بوصفه معروفاً لدى جسم المقاومة بأنه قائد كبير...لم اكن من هؤلاء كما غيري من الزميلات، بفعل عدم معرفتي بالشؤون العسكرية للمقاومة، فهذا التنظيم لم يكن لينجح لولا سلاح السرية حتى ضمن العائلة الواحدة...

حتى اللحظة كانت ادارة التحرير تنتظر بيان المقاومة حول استشهاد قائدها....قائد لم يكن جمهور المقاومة يعلم من هو وماذا يفعل وهل هو موجود فعلاً؟؟

لم يطل الانتظار كثيراً، وصدر البيان، الذي اعلن استشهاد القائد الجهادي الكبير عماد مغنية- الحاج رضوان...بضعة اسطر فقط، اخرجت ساحر المقاومة من كواليس الجهاد لاكثر من عقدين الى فضاء النور...اصبح قائد المقاومة معلوماً من الجميع مع استشهاده...مرت الدقائق ثقيلة على الحاضرين، اذكر ان الزميل عبد الحسن دهيني كان حاضراً، على عجالة استعار لباساً داكناً من احد المحررين، واعطي الاذن بإعلان الخبر على شاشة المنار...وقفنا ننظر في قاعة الاخبار الى عشرات الشاشات في وسط القاعة...دقت ساعة الصفر...وما ان بدأت المنار ببث ملحقها الاخباري، حتى توحدت كلها لنقل الخبر...بكينا بحرقة ونحن بعدُ لا نعرف الرجل...الفكرة حزينة، هذا القائد الجهادي الكبير عاش عمره في الظل، والان يصبح الخبر الاول في العالم لانه غادر عالمنا شهيداً، اي تضحية تلك، من منا يستطيع ان يفعل ابسط الاشياء بصمت ودون مفاخرة، انها ثقافة المقاومة قادة ومجاهدين...

عماد مغنية شهيداً...اين صورته، من هو؟..مر وقت قليل واحضر احدهم قرصاً مدمجاً، عليه صورتين للحاج...لم نكن نعمل بمهنية يومها، بل اننا كنا نعرقل عمل الزميل المعني في قسم الغرافيكس بتحضير الصورة للبث على الهواء مباشرة...هرعنا قبله الى جهاز الكومبيوتر، وكلنا يريد ان يحقق سبقاً عاطفياً ربما، برؤية هذا القائد...لرؤية عماد مغنية...وكانت اللحظة آسرة لجيل من الشباب والشابات...ببذته العسكرية، بلحيته الموشاة بالشيب، بنظارته، بنظرته الى البعيد حيث ما بعد هذه الدنيا...نظرنا جميعاً الى صورة القائد الذي بات معلوم الاسم والرسم...

13 شباط 2008...ما بين الظل والنور
الحاج رضوان ...ما بين الظل والنور

اذكر انني كلفت بالذهاب الى مجمع القائم...كان الخبر قد انتشر بصورة كبيرة، ولكن الاجواء كانت عائلية الى حد ما هناك، في احدى الغرف كانت والدة الشهيد الحاجة ام عماد ومعها بعض النسوة، ومنهن زوجة النائب علي عمار وهي من المقربين جداً الى العائلة...لم تكن الحاجة ام عماد قد خرجت الى لقاء المعزين في القاعة العامة في مسجد القائم...اذكر تماماً انني رأيتها تبكي..نعم اقوى الامهات واشجعهن كانت تبكي...وأي بكاء!!.." تأخرت يا عماد بس نلت اللي بليق فيك يا ماما"، الحمد الله لم يمت بحادث سيارة...ولدي مات شهيداً...قالت وهي تبكي...لم نكن اقوياء مثلها، هي التي عرفته منذ ان كان جنيناً في احشائها كانت اقوى منا، نحن الذين شاهدنا صورته منذ دقائق وعرفنا بإسمه...

اذكر انها بدأت تغرف من ذاكرتها وتروي...تحدثت عن طفولته عن مراهقته عن شبابه عن اخلاقه عن اطباعه وعن وعن ....لم تمل، وكأنها تحاول التعويض عن ربع قرن من الصمت، وما اصعب على الام ان لا تجاهر بأمومتها لبطل مثل عماد مغنية...

اذكر انني اصريت على اجراء حديث معها، حديث رتبته بعد ساعات الحاجة جمال علي عمار...على صعوبة اللحظة العاطفية، كان على العقل ان يعمل..هناك في قاعة العزاء التي كانت تعج بالنساء بكل الوان الطيف اللبناني...اقتربت بالميكروفون وسألتها سؤالاً، اشعر انه كان بلا معنى:" ماذا تقولين عن الحاج رضوان وعن شهادته؟"، يومها كانت تجيب وكنت ابكي بلا توقف، كيف لا وانا اسمعها يومها تعتذر من السيد نصر الله، لانه لم يعد لديها ابناء لتقدمهم للمسيرة، فعماد انضم الى جهاد وفؤاد....لم تكن تعلم ام الشهداء مغنية انها ستستعين بالاحفاد بعد سنوات...

قالت ام عماد ما قالته، علمت ان في جعبتي اقوى اطلالة لام شهيد في العالم، اطلالة تليق بقائد مثل عماد مغنية، اطلالة توازي عظمة الحدث وترقب العدو قبل الصديق لرد فعل عائلة الشهيد الصغرى والكبرى وقيادة المقاومة...

اذكر انني كتبت نصي بصعوبة...وبدأت بالمونتاج بصعوبة اكبر، وعندما انهيت العمل، لم يكن احد بعد يعلم في غرفة الاخبار ما قالته ام عماد في المقابلة... حضر مدير الاخبار ورئيس التحرير لمشاهدة التقرير...كلاهما لم يستطع اكماله، فقد غالبتهما الدموع في حضرة ام عماد...

اذكر كيف بدأنا نسأل بنهم عن الحاج رضوان، اردنا ان نختصر ربع قرن بنصف يوم، ما قاله السيد نصر الله عن الشهيد القائد عرفنا  عليه اكثر عليه...امتدت الايام والاشهر والسنوات..ومع كل انتصار وانجاز للمقاومة كنا نعرف عماد مغنية اكثر...
2015-02-13