ارشيف من :ترجمات ودراسات
روسيا ومأزق التفاوض مع الأغبياء وأتباع الأغبياء
الكاتب : Finian CUNNINGHAM
عن موقع Le Grand Soir الالكتروني
16 شباط / فبراير 2015
روسيا تواجه مأزقاً : كيف يمكنها أن تعمل على تسوية سلمية للصراع الأوكراني، وأن تتجنب نشوب حرب أكبر وأشد هولاً عندما يكون عليها أن تتفاوض مع أغبياء وأتباع أغبياء، أي مع القادة الأميركيين والأوروبيين؟
المشكلة التي تطرح نفسها عند مخاطبة الأغبياء هي في عجزهم، بكل بساطة، عن رؤية كل ما هو أبعد من أرنبة أنفهم. فهم يعانون من اضطرابات عقلية، وفي الوقت نفسه، يفاخرون بها. والواقع أنهم كلما ازداد غباؤهم، يجدون من يهنئنهم على هذه "الميزة". من المستحيل أن تجعلهم يتعلمون شيئاً. لأن نظرتهم الفجة والضيقة إلى العالم تحول بينهم وبين رؤية أي أفق مختلف، حتى ولو كان أكثر صوابية. ثم إن الرعب يتملكهم بمجرد أن تحاول تصحيح نظرتهم، وهذا لا يفعل غير رفع منسوب غبائهم.
أما عندما يتعلق الأمر بالأتباع، فإن المشكلة تكمن في عدم قدرتهم على تغيير مسارهم حتى ولو احتفظوا ببعض القدرة على التفكير المستقل الذي يسمح لهم بإدراك أن ما يطرح عليهم من مقترحات هو أكثر صحة ومعقولية.
تلك هي مشكلة روسيا في علاقاتها مع واشنطن وحلفائها الأوروبيين فيما يتعلق بالصراع في أوكرانيا.
ففي المداخلة التي قدمها الأسبوع الماضي في ميونيخ، أسف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لضعف استقلالية الأوروبيين في موقفهم من التدمير المنهجي للنظام الدولي من قبل واشنطن. وكان هنالك من توجه بالعتب إلى لافروف لأنه تجرأ على قول الحقيقة، خصوصاً وأنه دعم أقواله بحجج منطقية وأدلة تاريخية.
أما الأميركيون، فإن رعونتهم تجعلهم يستبدلون الحجج العقلانية بشعارات واتهامات. فالبروباغندا التي يبثونها تعمي أبصارهم فينتهي بهم الأمر إلى تصديقها. ويبتهجون بذلك ويهتفون: "فليبارك الرب أميركا !"
الرئيس الأميركي باراك أوراما، وهو المفترض فيه أنه أحد السياسيين الأميركيين الأكثر تعقلاً، لا يمكنه أن يرى أكثر من العبارات الجاهزة في السردية التقليدية المعروفة التي تؤكد، بلا أي دليل، أن "روسيا هي المذنبة" فيما يتعلق بالصراع في أوكرانيا.
فهذا الأسبوع، قال أوباما في البيت الأبيض، وبحضور مستشارة ألمانيا، إنه ينوي إرسال أسلحة قاتلة إلى نظام كييف "لمساعدة أوكرانيا في تعزيز دفاعاتها لمواجهة عدوان الانفصاليين". كما اتهم روسيا بتغذية الصراع وبالسعي إلى "انتهاك وحدة التراب الأوكراني" بقوة السلاح.
ما الذي يجري حقاً في الواقع ؟ الأوكرانيون من أصول روسية يجري قتلهم في بيوتهم وأقبيتهم ومدارسهم وشوارعهم على يد نظام كييف المدعوم من الغرب الذي شن، منذ عشرة أشهر، حرباً عبثية في شرق أوكرانيا، حصدت حتى الآن أكثر من 5500 قتيل وتسببت بنزوح أكثر من مليون شخص. ومع ذلك، يعتبر أوباما أن العنف هو نتيجة لـ "العدوان الانفصالي"، ويريد تزويد المعتدين بأسلحة أكثر قدرة على الفتك.
وكلما نزلنا إلى الأسفل داخل التراتبية التي يقف على رأسها أوباما، كلما انتقلت الأمور من سيئ إلى أسوأ. فجو بايدن، نائب الرئيس، صرح في مؤتمر الأمن الذي انعقد الأسبوع الماضي في ميونيخ بأن "الأوكرانيين يحق لهم أن يدافعوا عن أنفسهم". وبالتالي، يتوجب علينا، نحن في الولايات المتحدة، أن نمدهم بمساعدة عسكرية لمواجهة "العدوان الروسي".
العلم الروسي
ولكن، ماذا تقول يا سيد بايدن عن حق الأوكرانيين ذوي الأصول الروسية بالدفاع عن أنفسهم ؟ ألا يحق لهم ذلك ؟ أليسوا أوكرانيين ؟ أم أنكم ربما تعتبرونهم كائنات أدنى منزلة لا لشيء إلا لأنهم من أصل روسي ؟
أما المسؤول عن الديبلوماسية الأميركية، جون كيري، وهو شخص تقدمه المزاعم على أنه مهذب وعالمي ويعرف العديد من اللغات، فيردد الاتهامات اللاعقلانية نفسها وغير المستندة إلى أي أساس بخصوص روسيا ويؤكد أنها تشكل " التهديد الأكبر لأوكرانيا". وهو أيضاً يريد تزويد أوكرانيا بالأسلحة لكي تلقن روسيا الدرس الذي تستحقه.
وكذا الأمر بالنسبة لآشتون كارتر، وزير الدفاع، ولمايكل فلونوا الذي قد يصبح وزيراً للدفاع إذا ما فازت هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية عام 2016. وكذا الأمر أيضاً بالنسبة لبودي جيندال أحد المنافسين الجمهوريين الأساسيين على الرئاسة، وبالنسبة لبوب كوركر سيد السياسة الخارجية عند الجمهوريين. ولا ننسى الجنرال مارتن ديمبسي قائد هيئة أركان الجيوش الأميركية، أو أعضاء هيئة السياسة الخارجية الأميركية في معهد بروكينز ومجلس الحلف الأطلسي. ولا ننسى أيضاً لجان التحرير في وسائل الإعلام الأميركية الكبرى ومنها نيويورك تايمز وواشنطن بوست. فكل هؤلاء يرددون دون أن يرف لهم جفن المعزوفة القائلة إن الصراع في أوكرانيا سببه العدوان الروسي، وإن تزويد نظام كييف بالأسلحة هو أفضل ما يمكن فعله من أجل إحلال السلام. كلهم يجترون القصة الكاذبة والمشوهة نفسها التي تقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه "ديكتاتور من أواسط القرن العشرين" وأنه يتمتع بالنزعة "التوسعية" ذاتها شأن آدولف هيتلر وبنيتو موسوسوليني. وكل ذلك دون أن ينتبهوا إلى أن فاشية أواسط القرن العشرين لم تكن غير استراتيجية سرية وضعتها القوى الرأسمالية الغربية لضرب الاتحاد السوفياتي وأدت إلى مقتل 30 مليون روسي [خلال الحرب العالمية الثانية]. وهذه السياسة تتواصل اليوم على شكل الدعم الأميركي لنظام كييف الفاشي بهدف زعزعة روسيا.
إن الأمر الأكثر دناءة عند الأغبياء الأميركيين هو أنه لا يخطر ببالهم أنهم قد يكونون معبئين عقائدياً. إنهم في الحقيقة كائنات مستنسخة عن شخصيات أورويل التي تعتقد بأن الحرب هي السلام، والعبودية هي الحرية، والحقيقة هي ما يتم به حقن الأذهان.
السياسيون الأميركيون الذين شاركوا في مؤتمر ميونيخ أطلقوا صفة "الحماقات" على جهود كل من مستشارة ألمانيا، آنغيلا ميركل، والرئيس الفرنسي، فرنسوا هولند، وهي الجهود التي تبذل من أجل حمل بوتين على قبول التفاوض بشأن الأزمة الأوكرانية.
هذا، ويعتزم القادة الثلاثة القيام خلال هذا الأسبوع بمتابعة المباحثات الطويلة التي بدأوها في عطلة نهاية السبوع الماضي، وذلك في اجتماع ثان سيعقد في مينسك، عاصمة بيلاروسيا. وليس من الأكيد أن يتوصل بوتين وميركل وهولاند إلى إقناع نظام كييف بالانضمام إلى هذه المباحثات والجلوس إلى الطاولة التي يجلس إليها المنشقون المؤيدون لروسيا في أوكرانيا الشرقية. لكن الأكيد أن أجلاف واشنطن سيفعلون كل ما بوسعهم من أجل إفشال الحوار قبل أن تبدأ ثماره بالنضوج.
فعلى العكس من الأميركيين الشديدي الاندفاع، بدأ الأوروبيون يدركون أن مد أوكرانيا بالمزيد من الاسلحة لا يشكل حلاً، وأن من الضروري تجنب ذلك بأي ثمن، وأن طموحات الانفصاليين إلى الحكم الذاتي هي طموحات معقولة وتستحق أن تؤخذ في الاعتبار.
لا شك بأن الأوروبيين لم يتراجعوا، علناً على الأقل، عن السردية المشوهة التي تعتبر أن روسيا هي التي تسعى إلى زعزعة أوكرانيا بجيشها مباشرة أو بدعمها غير المباشر للانفصاليين. غير أن موسكو تنفي هذه الاتهامات بشكل قطعي. ولكن يبدو أن الأوروبيين يتمتعون بما يكفي من الرهافة الفكرية التي تجعلهم يدركون أن الاتهام الهستيري الموجه لبوتين هو غير منتج وأن من الممكن ألا يكون هنالك غير تفسير واحد للوقائع.
من هنا، ينبغي الاعتراف بأن أنغيلا ميركل قد صمدت في وجه الضغط الأميركي الهادف إلى رفع مستوى التدخل العسكري في أوكرانيا. فقد نفت خلال الأسبوع الحالي في واشنطن أنها توافق على فكرة إرسال أسلحة إلى أوكرانيا. كما أن معارضتها للمشيئة الأميركية عرضتها للهجوم من قبل الأعضاء الرئيسيين من جمهوريي مجلس الشيوخ الأميركي الذين اتهموها بأنها تسعى إلى "تهدئة" بوتين، وقارنوها بشامبرلان وهتلر في مؤتمر ميونيخ عام 1938.
التفاوض مستحيل إذن مع مثل هؤلاء الأميركيين الأغبياء. فهم يعيشون في عالم ذهني مختلف عن عوالم معظم الآخرين. عالمهم هو مزيج من البروباغندا التي لا تعير أي اهتمام للوقائع التاريخية ومن المسلكيات الفظة التي تجعل من الحوار والتبادل والتفكير السقراطي أموراً غير ممكنة بالمرة. أما عنجهيتهم وصلفهم الفارغ والغبي فيشكلان عوائق أمام التواصل الحقيقي والتفاعم المتبادل. وكل هذا هو من فعل بوتين ! وكله يأتي من هذه القطعان الروسية المرعبة! إنه زمن عودة إمبراطورية الشر السوفياتية. إنقلاب غير شرعي لتغيير النظام في كييف وعلى حكومة منتخبة ومدعومة من الولايات المتحدة، أم نظام مدعوم من قبل الأميركيين ويشن حرباً على ذوي الأصول الروسية في شرق أوكرانيا ؟ ويقولون : هل أنتم مجانين يا أيها البلهاء الذين يمتدحون بوتين ؟
كيف يكون التفاوض ممكناً مع أمثال هؤلاء ؟ ذلك مستحيل تماماً.
وإلى كل هذا، تضاف مشكلة أخرى. الأوروبيون ليسوا أحراراً في التصرف وفقاً لما يمليه عليهم تفكيرهم. فالواضح أن ميركل وهولاند والعديد من القادة الأوروبيين الآخرين باتوا يدركون أن المشروع الأميركي الهادف إلى إغراق أوكرانيا بالمزيد من الأسلحة الأكثر قدرة على الفتك هو مشروع كارثي من شأنه أن يفجر حرباً عالمية ثالثة. ومن الواضح أن أوروبيين كثيرين يعتبرون أن العقوبات المفروضة على روسيا ليست مجدية، ولكنها سياسة عدائية رعناء تلحق الضرر بالعمال والمزارعين وسائر القطاعات الاقتصادية في أوروبا مثلما تلحق الضرر بروسيا.
تكمن المشكلة في كون الدول الأوروبية مجرد دول تابعة للولايات المتحدة. إنها مجبرة على اتباع الخط الذي تمليه عليها واشنطن مهما كانت الإملاءات غبية وحمقاء. إن ألمانيا هي محرك أوروبا ورابع قوة اقتصادية في العالم. ومع هذا، فإنها -على ما يذكرنا به الخبير السياسي الألماني كريستول ليهمان- لم تتمتع باستقلالية سياسية منذ الحرب العالمية الثانية. وهي لا تمتلك دستوراً من النوع الذي تستحقه دولة حديثة. كما أنها ما تزال محتلة من قبل جيوش الحليفين "المنتصرين" الأميركي والبريطاني. ألمانيا، على ما يقوله ليهمان هي في الواقع مستعمرة للولايات المتحدة. فبموجب القانون الأساسي الذي أقر في ألمانيا عند نهاية الحرب، يمكن في أية لحظة للقوات الأميركية أن تتولى إدارة ألمانيا بصفتها، بالمعنى التقني والحقوقي، بلداً خاضعاً للاحتلال وتابعاً.
إن التجسس الأميركي الذي تقوده وكالة الأمن القومي على المستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل والذي كشف النقاب عنه إدوارد سنودن عام 2013، هو مجرد مثال من الأمثلة. والأكثر غنى بالدلالات هو أن ميركل لم ترد، بما يكفي من القوة، على هذا الانتهاك الفاضح لـ "السيادة" الألمانية. لقد تقبلت هذا التدخل باستسلام واضح بوصفه تعبيراً عن الهيمنة الأميركية في حقبة ما بعد الحرب.
ويؤكد ليهمان أن الولايات المتحدة وحليفها البريطاني قد عارضا بقوة كل التطلعات الألمانية نحو بناء سياسة خارجية مستقلة، وخصوصاً كل سياسة قد تفضي إلى التقارب مع روسيا. ويقول بهذا الصدد : "لقد لمسنا أن جميع الجهود التي بذلها المستشاران ويلي برانت وغيرهارد شرودر من أجل تحسين العلاقات مع روسيا قد جرى نسفها من قبل واشنطن ولندن".
ولهذا، فإن المقاومة البطولية التي أبدتها ميركل هذا الأسبوع ضد النزعة العسكرية الأميركية في أوكرانيا جديرة بالاحترام. فمعارضتها هذه قد تحدث شرخاً في العلاقات الأميركية-الأوروبية. لقد تجاوزت ميركل واحداً من خطوط واشنطن الحمراء الأساسية التي تفرض على الدول الأوروبية، وخصوصاً على ألمانيا، عدم الاعتراض على الهيمنة الأميركية وعلى سياسة العداء الطويلة المدى إزاء روسيا.
ربما يكون كل من هولاند وميركل قد سمعا أخيراً رسالة ملايين المواطنين العاديين في الاتحاد الأوروبي ممن يعارضون من كل قلبهم السياسة الحربجية التي تعتمدها الولايات المتحدة إزاء روسيا وعلى حساب الأوروبيين. لكن، وبما أنه يصعب على الأتباع الأوروبيين للحمقى الأميركيين أن يلقوا نير التبعية لواشنطن عن أعناقهم، يظل من الصعب أن نعرف ما إذا كان سيتم تحقيق اختراق هام نحو السلام. فالقيادات الأوروبية ما تزال تتخبط بين مخالب واشنطن. لكن الجماهير الأوروبية قد بلغ بها القرف حداً قد يحملها على إجبار قياداتها على إلقاء هذا النير العبثي.