ارشيف من :نقاط على الحروف
صورة المقاوم هوليوودياً: ليس مقاوماً إلا كما نريده نحن
تدور قصة فيلم "ساعي البريد"(Postman 1985) حول فكرة المقاومة، هو فيلم أميركي-هوليوودي، لاريب في ذلك، لكن فكرة "المقاومة" هي أبرز أفكاره التي يوردها. تظهر "المقاومة" كفعلٍ معاكس للمعتاد الأميركي. ولكن وبنفس الوقت يصر الأميركي دائماً على إدغام أفكاره التي لا تناسب إلا معايير مجتمعه كما هي. يمثّل ساعي البريد الدولة الفيدرالية، والدولة الفيدرالية لا تكون إلا "أميركا". إنها المنظومة نفسها، لكنها مقاومة "مقننة" كما يريد الغرب، فلا تكون أي مقاومةٍ أخرى. إنها المقاومة التي تظهر في فيلم "Charlie Wilson War"(2007): مقاتلو الحرية الأفغان الذين يحاربون الكفار الشيوعيين. تكاد تكون تلك الصورة "صفعةً" حينما تعرف ببساطة أن هؤلاء "الأفغان" أنفسهم سيتحولون أشد الأعداء بعد سنين قليلةٍ فحسب، وسيتم "صلبهم" سينمائياً بعد 11 أيلول 2001.
ماذا تريد أميركا؟
تريد أميركا حرفياً مقاومةً كما تحبها، أبطالها يرتدون الجينز، يستعملون الهواتف الأميركية الذكية (iPhone مثالاً)، يجيدون التحدّث بلغاتٍ أخرى وفوق كل هذا يتجنبون ارتداء "ثيابٍ" بلادهم الشعبية. فكل من يرتدي ثياب بلاده الأصلية يمر في الفيلم الأميركي بصفته "شريراً" سيقوم بالخطأ عاجلاً كان أم آجلاً. إنها لعبة الفيلم الهوليوودي وثيمته الدائمة. فلطالما ظهر العربي/الشرق أوسطي في الفيلم الأميركي متحدثاً الإنكليزية وإن بلكنةٍ "جافةٍ" داكنة أو لغته الأم (بلهجةٍ مصرية عادةً)، وهو أمرٌ حديثٌ على فكرة، ذلك أنَّ عاصمة السينما العالمية كانت تلجأ إلى جعل العرب متحدثين بلغةٍ غير مفهومة (راقبوا مثلاً فيلم True Lies 1994، لأرنولد شوارزنيجر). إذاً يتحدث العربي بلغةٍ إنجليزية مكسّرة أو "مصرية" بحتة، طبعاً هذا العربي تتحدد زاوية "اعتباره" بحسب نظرته إلى الغرب. فإذا كان يسعى إلى "الحلم" الأميركي، بات بطلاً يمكن استخدامه في كثيرٍ من الزوايا: مثلاً ممكن أن يقتل كي ينتقم له البطل، ممكن أن يصبح صديق البطل الأميركي القادم لإنقاذ الشعب (يمكن مراجعة الجزء الثالث من الفيلم الأشهر لسيلفستر ستالون: رامبو 1988، منقذاً الشعب الأفغاني مثالاً)، كما من الممكن أن يكون هو "الجانب المضحك" من الفيلم نفسه حتى. إذاً باختصار العربي/الشرق أوسطي في الفيلم هو حرفياً محط "شر" حتى يثبت العكس، وهو جاهزٌ وبشكلٍ كامل كي يتحول لمجرم حال احتياج المخرج/الكاتب إلى ذلك.
هوليوود
كيف يكون المقاوم هوليوودياً؟
ذلك سؤالٌ قد يعتقد البعض بأنه معقّد أو صعبٌ الإجابة عنه، لكنه في الحقيقة بسيطٌ وللغاية. يكون المقاوم حرفياً مؤيداً " بشكلٍ تلقائي" للغرب وأفكاره. يعشش الحلم الأميركي في عقله، يرغب بالذهاب إلى الغرب، يتحدث دائماً بشكلٍ "حالم" عن أميركا ونجومها الرياضيين أو الفنانين. إنه باختصار مقاومٌ لشريرٍ من بلاده، لكنه بنفس الوقت "ثائرٌ" على الطراز الغربي. قد يشير هنا بعض النقاد السينمائيين إلى أنَّ هوليوود تقوم بهذه التوصيفات كي تجذب الجمهور الأميركي إلى هؤلاء الأبطال وتجعلهم متعاطفين معهم، لكن هذه الفكرة مردودةٌ ببساطة. لطالما رسمت هوليوود شخصياتٍ "أصلية" من دون أن تعطيها صفات "أميركية"، مثلاً شخصية "غاندي" أو "مانديلا" صورتا في عشرات الأفلام ومن دون اعطائهما أي صفاتٍ " أميركية/غربية" ومع هذا استطاع الجمهور التواصل مع الشخصيتين، وحتى التواصل مع "طبيعتيهما". هكذا يمكن فهم أن نزع صفة "المقاومة" الأيديولوجية عن العربي يجعل الأمر سهلاً للغاية بالنسبة لصنّاع السينما في رسم صورته التي يريدونها.
إرهابي دائماً
إذاً ما حكاية الشرق أوسطي/العربي مع هوليوود؟ يمكن العودة إلى فيلم "Romancing the Stone(1984)" مثالاً لفهم كيف يرى الهوليوودي العربي: إنه خبيثٌ، شرير، يخون كل من يحب لأجل حفنةٍ قليلةٍ من المال. هكذا هي صورته. هذه الصورة تنسحب على عددٍ هائلٍ من الأفلام لا يتسع المقال لذكرها، لكن إجمالاً يمكن التأكد من أن شكل العربي هو هكذا. لكن ما أضيف خلال السنوات الأخيرة هو فكرة "الإرهاب". هنا لا مكان للمقاومة: هنا المكان الوحيد هو "إرهابي". يلبس الإرهابي ثياباً أفغانية في المعتاد، يتحدث بلغةٍ غير مفهومة، يبدو قاسياً مع أهله وأحبته وأقاربه، ودائماً، دائماً، دائماً: يفجّر نفسه صارخاً الله أكبر. المشكلة الأكبر من ذلك هي أن تلك الصورة باتت تنسحب مثالاً على العربي المولود في أميركا مثلاً، على الجيل الجديد من العرب الذي قدم أهلهم قبل سنين إلى الولايات المتحدة. دفع هؤلاء ومن دون أي منطقٍ ثمن تلك الكراهية التي تبشر بها تلك الأفلام تجاه العرب/الشرق أوسطيين. ولا ريب أن جرائم الكراهية التي تحدث كل فترةٍ تجاه المسلمين والعرب مردها إلى تلك الصورة النمطية التي تفرزها هوليوود بشكلٍ دائم.
بعد كل هذا، لا يمكن لمتابع الأفلام الأميركية إلا أن يدرك شيئاً محدداً فحسب: إن صورتنا كعربٍ في هذه الأفلام قلما ستتحسن أو حتى تأخذ حيزاً أفضل، هي محدودةٌ في "رسمٍ" محركٍ بحت: إما عربي محبٌ للغرب وبالتالي مقاومٌ على طريقتهم، وإما إرهابي محضّر للقتل أو لتفجير نفسه. صورةٌ نمطية بحتة لا ترسم هوليوود دائماً غيرها، ولن تفعل ما دمنا لا نقدر وحتى اللحظة على إنتاج بدائل فنية مساوية لما يقدمه الغرب من حرفةٍ فنية، سواء لناحية المقدرة، الأداء أو حتى التقنيات.
على الهامش:
يدٌ ممدودة، ولكن!
تسعى هوليوود بشكلٍ دائمٍ لإظهار أن فكرتها صحيحة عن العرب، فتلجأ وبشكلٍ حثيث إلى مكافأة أي مخرجٍ شرق أوسطي/عربي يقدّم الصورة التي تريدها هوليوود عن العرب. ففيلم "الجنة الآن"(2005) للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، يقدّم الصورة نفسها على طبقٍ من ذهب لهوليوود وفكرتها. إنها فكرة العربي/الفلسطيني الذي يرفض الذهاب " لتفجير" نفسه، مناقشاً الفكرة بحد ذاتها مراراً وتكراراً مع نفسه ومن حوله. هنا تلعب هوليوود لعبة النقاش الأزلي: هذه ليست مقاومة، هذا "قتل نفس". من هنا يجب إيقافها. تبدو فكرة المقاومة "سخيفة" في الفيلم كما تريدها عاصمة السينما تماماً وبدقة. لهذا حصل الفيلم على الجولدن جلوب لأفضل فيلم ناطق باللغة الأجنبية، كما شارك ضمن مسابقات الأوسكار في السنة ذاتها ضمن فئة أفضل فيلمٍ أجنبي. إنها حرفة استقطاب الضحية نفسها كي تتحدث عن نفسها بذات السوء الذي يريده جلادها.