ارشيف من :نقاط على الحروف
مقاومةٌ ناعمة
"لا أجد تكملةً لما يمكن أن يحدث غدا إلا حينما أنظر في عيون الكارهين والحاقدين -وهم كثرٌ- لكنهم باتوا أكثر ذكاءً في إخفاء ما هم عليه".
ألبير كامو
في العام 1990 استعمل الأميركي جوزيف ناي تعبير "القوة الناعمة" ربما للمرّة الأولى في كتابه "خلق للقيادة "(Bound to Lead)، لم يعتقد أستاذ السياسة في جامعة هارفارد، ورئيس الأمن القومي للمخابرات الأميركية(93-94) ولا "العالم" بأسره أنَّ هذا التعبير "المدهش" سيصبح واحداً من أهم تطبيقات السياسة في القرن الذي يليه. ففكرة "القوة الناعمة" تأتي مترادفة مع استعمال "ما تيسّر" للوصول إلى هدفٍ قد لا تستطيع الوصول إليه عبر "قوتك" الصلبة، الفكرة الأصلية هذه تغيّرت وتعدّلت وحتى "تطورت" إلى المرحلة التي لم تعد تشبه أصلها كثيراً، لكنها ما تزال تؤدي الدور نفسه، بشكلٍ أو بآخر.
أسهل السبل:
لا يحتاج الأميركي اليوم أن يصل إلى مجتمعاتٍ يريد اختراقها عبر دباباته وأسلحته وصواريخه: فبنطال الجينز وجزمة راعي البقر "Texas Boots" وبرامج التلفزة الأميركية - أو المأخوذة عنها - تستطيع فعل ذلك. لقد باتت هذه "الحاجات المسالمة" جزءاً من الحياة اليومية لسكان الكوكب بأكمله.
قد يكون هذا الكلام مكرراً غير مرة، وربما عرفه الجميع وقاموا بـ "تسميعه" عن ظهر قلب. لكنه فعلياً أمرٌ واقعٌ، والمشكلة الأكبر أن أحداً لا يفعل شيئاً لدحضه أو إيقافه.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن تشاهد برنامجاً متلفزاًعلى قناةٍ عربية يتحدّث عن مجتمع لا يشبهك في شيء، أناس يتحدثون لغتك يرتدون ثياباً ليست ثيابك، ويتصرفون بأسلوب لا تتصرّفه أنت، ويقومون بكلٍ شيء عكس تربيتك وفطرتك التي فطرت عليها. كل هذا وأنت جالسٌ "تتفرج" ولا تقوم بما عليك القيام به، والأدهى من ذلك أن يصل البعض إلى ما هو أبعد من ذلك فلا يتوقفون عند التصرف فحسب، بل يبدؤون بالتبشير بما يشاهدونه. يتحوّل الفعل بحد ذاته إلى أصلٍ في تكوينهم.
فلنمشِ معاً قليلاً: من يتحدّث اللغة العربية الفصحى، سيسمع تعابير ساخرةً من قبيل: "عم تحكي مكسيكي؟" وإن لم يسمع شخصياً، فإنّ الحديث سيدور "خلف ظهره" عن كونه من الطراز الـ "قديم" والـ "متخلّف". الأسوأ من هذا كله ليس مجرد "العداء" والاحتقار لهذا الشخص، بل العداء لما يمثّله: إنه ليس "موضةً" أميركية، فالموضة لا بدَّ أن تكون "أميركية"، من طبيعتها أن تكون كذلك.
هكذا تكون صنعة الحرب الناعمة، وانتصارها. إن أي شيءٍ يربطك بحضارتك وثقافتك الأصلية هو أمرٌ محتَقر في عيون "المغرر" بهم، المتأثرين بتلك "الحضارة الزائفة".
حرب الكلمات والصور
أكثر من هذا، وفي استمرارية للفكرة ذاتها: يهلل كثيرٌ من مثقفي هذا العصر للحضارة الأميركية، والقوة الأميركية، والحلم الأميركي. يعتبرون وبكل صلافة أنّ هذه الحضارة سائدة وستظل كذلك لا لأنّها الأقوى، بل لامتداد تأثيرها حتى داخل المجتمعات نفسها: أفقياً وعامودياً. يمتد التأثير بحسب هؤلاء إلى كل فئات المجتمع، من الأكثر فقراً إلى الأكثر غناً، من الطبيب إلى عامل البناء، فالجميع يستعمل الأغراض الأميركية، والتعابير الأميركية والأدوات الأميركية، لا بل إنّهم ينظرون "باعتزاز" إلى ما يشترونه من هناك باعتباره "غرضاً غير قابلٍ للتزوير" فقط لأن عليه الدمغة "الأميركية". ما يفلت من هؤلاء – كالعادة - أنهم يحتاجون وقتاً طويلاً لتبرير أفكارهم، وشرحها، وتبسيطها كي يتقبّلها أحد مَّا. فوق كل ذلك، وفي لحظةٍ رائدة يستعيد الجميع كراهيتهم المطلقة لكل ما هو "أميركي" في نشوةٍ غريبة، لا لأنهم يكرهون شعب أميركا، لكنهم بكل بساطة يكرهون كل ما تفعله أميركا في بلادهم، من أقصى الفيلبين إلى جامايكا مروراً ببلادنا التي بات "لليانكي" محط رحالٍ فيها.
حرب إرادات
يقول الكاتب البريطاني جورج أورويل: سيسعى كثيرون لمنافستك، لكن المهارة تكمن في أن تبقى أنت"، وعليه فإن هدف الحرب الناعمة أصلاً إبعادك عن "أنت" الخاصة بك... قد يبدو هذا الكلام "خُلبياً" بعض الشيء، لكنه في الإطار نفسه حقيقيٌ إلى أبعد مدى.
تتوجه الحرب الناعمة كمحدد إلى ما يجعلك "قادراً" على المقاومة، على قول "لا" بمواجهة الـ "نعم" المنتشرة بكثرة. حينما تشعر مثلاً بأنّك تتعرض لهجومٍ كونك لا ترتدي ثياباً أميركية، أو تجهد كي تمنع عقلك من متابعة برنامجٍ أميركي(أو مستنسخٍ عن أميركي وهي كثيرة هذه الأيام) يتحدّث عنه الجميع وينتظرونه بلهفة. قد تشعر في وقتٍ ما بأنها علاقة مع "الألم" فما ترفضه أنت اليوم سيحميك غداً، وكلما قلَّت علاقتك وحبك "للأميركي" وقناعاتك التامة بأنه "محور" الحياة، وأهم ما فيها فكرة "تفوقه" عليك بشكلٍ أو بآخر. ذاك التفوٌّق سيجعلك ضعيفاً في أية معركة مع ذاك "المتفوق" وسيجعل الصراع أصلاً كما يقول صن تزو (المفكر العسكري الصيني القديم): "تحدث الخسارة أصلاً في العقل قبل حصولها على أرض المعركة". أن تقاوم "غزواً" ثقافياً يجتاح بلادك ومجتمعك وحياة أحبائك، هو فعلٌ مقاومٌ عفوي حقيقي، لا يحتاج إلى كثيرٍ من المال، أو السلاح؛ ما يحتاجه فعلياً هو إرادة. وعندها تكون إرادتك مقابل إرادة "عدو"؛ وستتفاجأ وقتذاك بمقدار الكم الهائل من الطاقة والمال والجهد التي سيبذلها ذلك العدو الذي بدا عند البداية -لطيفاً مهذباً - كي "يكسرك" ويجعلك مثل الباقين. سيلجأ للسخرية منك، ومن جهدك، ومن ثيابك، وشكلك ولونك، ومن كل ما تمثّله في الدنيا. بعد ذلك سيجعل أحباءك يهاجمونك وينبذونك وحتى أنهم سيطردونك من حياتهم لأسبابٍ قد تعدّها سخيفة، لكن تصميمك على المقاومة هو ما سيحميك. سيحميك مع كل من تحب، سيحمي أولئك المغرر بهم، هكذا وبكل وضوح. هذه المرة ستكون مقاومتك "الناعمة" جزءاً من منظومة المقاومة الأصلية، فالمقاومة بالسلاح يقابلها مقاومة بالكلمة، والموقف والفعل وحتى بالقدرة على الشراء.
ألبير كامو
في العام 1990 استعمل الأميركي جوزيف ناي تعبير "القوة الناعمة" ربما للمرّة الأولى في كتابه "خلق للقيادة "(Bound to Lead)، لم يعتقد أستاذ السياسة في جامعة هارفارد، ورئيس الأمن القومي للمخابرات الأميركية(93-94) ولا "العالم" بأسره أنَّ هذا التعبير "المدهش" سيصبح واحداً من أهم تطبيقات السياسة في القرن الذي يليه. ففكرة "القوة الناعمة" تأتي مترادفة مع استعمال "ما تيسّر" للوصول إلى هدفٍ قد لا تستطيع الوصول إليه عبر "قوتك" الصلبة، الفكرة الأصلية هذه تغيّرت وتعدّلت وحتى "تطورت" إلى المرحلة التي لم تعد تشبه أصلها كثيراً، لكنها ما تزال تؤدي الدور نفسه، بشكلٍ أو بآخر.
أسهل السبل:
لا يحتاج الأميركي اليوم أن يصل إلى مجتمعاتٍ يريد اختراقها عبر دباباته وأسلحته وصواريخه: فبنطال الجينز وجزمة راعي البقر "Texas Boots" وبرامج التلفزة الأميركية - أو المأخوذة عنها - تستطيع فعل ذلك. لقد باتت هذه "الحاجات المسالمة" جزءاً من الحياة اليومية لسكان الكوكب بأكمله.
قد يكون هذا الكلام مكرراً غير مرة، وربما عرفه الجميع وقاموا بـ "تسميعه" عن ظهر قلب. لكنه فعلياً أمرٌ واقعٌ، والمشكلة الأكبر أن أحداً لا يفعل شيئاً لدحضه أو إيقافه.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن تشاهد برنامجاً متلفزاًعلى قناةٍ عربية يتحدّث عن مجتمع لا يشبهك في شيء، أناس يتحدثون لغتك يرتدون ثياباً ليست ثيابك، ويتصرفون بأسلوب لا تتصرّفه أنت، ويقومون بكلٍ شيء عكس تربيتك وفطرتك التي فطرت عليها. كل هذا وأنت جالسٌ "تتفرج" ولا تقوم بما عليك القيام به، والأدهى من ذلك أن يصل البعض إلى ما هو أبعد من ذلك فلا يتوقفون عند التصرف فحسب، بل يبدؤون بالتبشير بما يشاهدونه. يتحوّل الفعل بحد ذاته إلى أصلٍ في تكوينهم.
فلنمشِ معاً قليلاً: من يتحدّث اللغة العربية الفصحى، سيسمع تعابير ساخرةً من قبيل: "عم تحكي مكسيكي؟" وإن لم يسمع شخصياً، فإنّ الحديث سيدور "خلف ظهره" عن كونه من الطراز الـ "قديم" والـ "متخلّف". الأسوأ من هذا كله ليس مجرد "العداء" والاحتقار لهذا الشخص، بل العداء لما يمثّله: إنه ليس "موضةً" أميركية، فالموضة لا بدَّ أن تكون "أميركية"، من طبيعتها أن تكون كذلك.
هكذا تكون صنعة الحرب الناعمة، وانتصارها. إن أي شيءٍ يربطك بحضارتك وثقافتك الأصلية هو أمرٌ محتَقر في عيون "المغرر" بهم، المتأثرين بتلك "الحضارة الزائفة".
حرب الكلمات والصور
أكثر من هذا، وفي استمرارية للفكرة ذاتها: يهلل كثيرٌ من مثقفي هذا العصر للحضارة الأميركية، والقوة الأميركية، والحلم الأميركي. يعتبرون وبكل صلافة أنّ هذه الحضارة سائدة وستظل كذلك لا لأنّها الأقوى، بل لامتداد تأثيرها حتى داخل المجتمعات نفسها: أفقياً وعامودياً. يمتد التأثير بحسب هؤلاء إلى كل فئات المجتمع، من الأكثر فقراً إلى الأكثر غناً، من الطبيب إلى عامل البناء، فالجميع يستعمل الأغراض الأميركية، والتعابير الأميركية والأدوات الأميركية، لا بل إنّهم ينظرون "باعتزاز" إلى ما يشترونه من هناك باعتباره "غرضاً غير قابلٍ للتزوير" فقط لأن عليه الدمغة "الأميركية". ما يفلت من هؤلاء – كالعادة - أنهم يحتاجون وقتاً طويلاً لتبرير أفكارهم، وشرحها، وتبسيطها كي يتقبّلها أحد مَّا. فوق كل ذلك، وفي لحظةٍ رائدة يستعيد الجميع كراهيتهم المطلقة لكل ما هو "أميركي" في نشوةٍ غريبة، لا لأنهم يكرهون شعب أميركا، لكنهم بكل بساطة يكرهون كل ما تفعله أميركا في بلادهم، من أقصى الفيلبين إلى جامايكا مروراً ببلادنا التي بات "لليانكي" محط رحالٍ فيها.
حرب إرادات
يقول الكاتب البريطاني جورج أورويل: سيسعى كثيرون لمنافستك، لكن المهارة تكمن في أن تبقى أنت"، وعليه فإن هدف الحرب الناعمة أصلاً إبعادك عن "أنت" الخاصة بك... قد يبدو هذا الكلام "خُلبياً" بعض الشيء، لكنه في الإطار نفسه حقيقيٌ إلى أبعد مدى.
تتوجه الحرب الناعمة كمحدد إلى ما يجعلك "قادراً" على المقاومة، على قول "لا" بمواجهة الـ "نعم" المنتشرة بكثرة. حينما تشعر مثلاً بأنّك تتعرض لهجومٍ كونك لا ترتدي ثياباً أميركية، أو تجهد كي تمنع عقلك من متابعة برنامجٍ أميركي(أو مستنسخٍ عن أميركي وهي كثيرة هذه الأيام) يتحدّث عنه الجميع وينتظرونه بلهفة. قد تشعر في وقتٍ ما بأنها علاقة مع "الألم" فما ترفضه أنت اليوم سيحميك غداً، وكلما قلَّت علاقتك وحبك "للأميركي" وقناعاتك التامة بأنه "محور" الحياة، وأهم ما فيها فكرة "تفوقه" عليك بشكلٍ أو بآخر. ذاك التفوٌّق سيجعلك ضعيفاً في أية معركة مع ذاك "المتفوق" وسيجعل الصراع أصلاً كما يقول صن تزو (المفكر العسكري الصيني القديم): "تحدث الخسارة أصلاً في العقل قبل حصولها على أرض المعركة". أن تقاوم "غزواً" ثقافياً يجتاح بلادك ومجتمعك وحياة أحبائك، هو فعلٌ مقاومٌ عفوي حقيقي، لا يحتاج إلى كثيرٍ من المال، أو السلاح؛ ما يحتاجه فعلياً هو إرادة. وعندها تكون إرادتك مقابل إرادة "عدو"؛ وستتفاجأ وقتذاك بمقدار الكم الهائل من الطاقة والمال والجهد التي سيبذلها ذلك العدو الذي بدا عند البداية -لطيفاً مهذباً - كي "يكسرك" ويجعلك مثل الباقين. سيلجأ للسخرية منك، ومن جهدك، ومن ثيابك، وشكلك ولونك، ومن كل ما تمثّله في الدنيا. بعد ذلك سيجعل أحباءك يهاجمونك وينبذونك وحتى أنهم سيطردونك من حياتهم لأسبابٍ قد تعدّها سخيفة، لكن تصميمك على المقاومة هو ما سيحميك. سيحميك مع كل من تحب، سيحمي أولئك المغرر بهم، هكذا وبكل وضوح. هذه المرة ستكون مقاومتك "الناعمة" جزءاً من منظومة المقاومة الأصلية، فالمقاومة بالسلاح يقابلها مقاومة بالكلمة، والموقف والفعل وحتى بالقدرة على الشراء.