ارشيف من :آراء وتحليلات
ما الذي يعنيه كلام كيري الأخير حول التفاوض مع الرئيس الاسد؟
دقت ساعة الحقيقة، ولم يبق امام الاميركيين الا خيار واحد "خيار التفاوض مع الرئيس بشار الاسد"، كلام صريح لوزير الخارجية الاميركي جون كيري لقناة "سي بي إس نيوز"، كلام مفصلي لا لبس فيه، ومهما حاول البعض تجميله او التخفيف من وطأته، فهو يعبّر عن قناعة تكونت لدى ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما منذ فترة، لكن تأخر خروجها الى العلن كان لاعتبارات تتعلق بتهيئة الظروف لتسهيل هضمها من قبل حلفاء المحور الاميركي. لكن ما الذي يعنيه هذا الكلام ولماذا قاله في هذا التوقيت؟، خاصة وان كيري نفسه أعلن قبل عشرة أيام وتحديدا في الخامس من آذار/ مارس من الرياض أن هناك حاجة ممكن أن تطرأ لـ"ضغط عسكري" لإسقاط الأسد وانه "فقد كل ما يمت إلى الشرعية بصلة".؟.
بالعودة الى مسار الامور التاريخي منذ اربع سنوات حتى اليوم، ما بين منتصف آذارَي 2011 و2015، تغيّرت الصورة وتبدلت كثيراً في السياسة لكن الوقائع الميدانية والصمود والتضحيات وحدها بقيت الثابت الوحيد على ارض المعركة، الثابت والرقم الاصعب والاقدر على تغيير مسار الامور، ورسم معالم مستقبل سوريا، على قاعدة خيارات الشعب السوري، وما يريده هذا الشعب، وليس على قاعدة ما يريده الآخرون لسوريا. فمن معزوفة إسقاط الرئيس الاسد، وفقدان شرعيته ودعوته للرحيل، تدرّج الموقف الاميركي، ووصل الى حد الاستعداد للتدخل العسكري المباشر، وبذل كل جهد في هذا السبيل، مروراً بالاعتراف بعدم القدرة على إسقاط النظام السوري، وصولاً الى الاقرار ببقاء النظام، والاعتراف بشرعيته عبر الاقرار بأهمية التفاوض معه، بل، وأبعد من ذلك، الحديث عن ان الضغط عليه هدفه اقناع الاسد بالقبول بالتفاوض.
والملاحظ ان تصريحات كيري الاخيرة توّجت سلسلة مواقف وتصريحات اميركية سبقته قبل ايام واعتبرت بمثابة احدث مؤشر على فشل السياسة الاميركية حيال سوريا ومنها :
* اعلان المبعوث الدولي الى سوريا ستيفان دي ميستورا بعد زيارته دمشق في 13 شباط/فبراير أن الرئيس السوري بشار الأسد "جزء من الحل" في سوريا.
*اقرار السفير الاميركي السابق في سوريا روبرت فورد في مقال قبل ايام في "الفورين بوليسي" بفشل استراتيجيّة الولايات المتحدة الحاليّة في سوريا واعتبارها غير مجدية، واشارته الى "خسارة الحرب فيها".
*انهاء "حركة حزم" الذراع العسكري التابع لأميركا في شمال سوريا.
*اقرار رئيس "الاستخبارات الأميركية" (سي آي ايه)، جون برينان الصريح أمام مركز أبحاث "مجلس العلاقات الخارجية"، في نيويورك بأن واشنطن لا تريد انهيار النظام السوري.
*تسريبات ديبلوماسية غربية مفادها أن دي ميستورا تبلّغ من مسؤولين غربيين كبار قبل أيام، أن باريس لم تعد تشترط "تنحّي" الرئيس الأسد قبل بدء المرحلة الانتقالية، والحديث عن اتصالات غير عدائية" بين أجهزة الاستخبارات الأميركية والسورية بعد بدء "التحالف الدولي" بشنّ غارات ضد "داعش" في شمال شرقي البلاد.
تداعيات كلام كيري
لم يفاجئ كلام كيري الاخير واقراره ضرورة التفاوض مع الرئيس الاسد محور سوريا المقاوم، انطلاقاً من معرفتهم المسبقة أن المتحكم بمسار اللعبة والذي يرسم المعادلة هو الميدان، وان من يمسك الارض يمسك زمام المبادرة ويتحكم بقيادتها، بل على العكس شكّل كلام كيري بالنسبة لهم اعترافا واضحا بانتصار محور سوريا والمقاومة واقرارا بفشل خيار مشروع تفتيتها، وأكد على صوابية ما كان ينادي به هذا المحور منذ أربع سنوات من ضرورة اللجوء الى الحل السياسي لحل الازمة السورية. فأن يأتي كيري بعد هذه السنوات من التدمير الممنهج لسوريا وقتل مئات الآلاف، ليعلن عن فشل رهانات ادارته ويقول "علينا التفاوض مع الاسد"، فإن ذلك يطرح تساؤلاً جوهرياً وهو: ألم يكن من الأجدى بكيري وادارته توفير كل هذه الدماء في سوريا والاقتناع مبكراً ان لا سبيل سوى الحل السياسي؟...
وزير الخارجية الاميركي جون كيري
اما في المقابل فلا شك ان لكلام وزير الخارجية الاميركي تداعيات على الداخل السوري وعلى مستوى المنطقة ككل، فهو يأتي في توقيت شديد الأهمية، وقبل أسبوعين فقط من توقيع الاتفاق النووي مع إيران، ما يطرح تساؤلات ايضاً حول ما اذا كان الاميركي يسدد فاتورة الاتفاق الذي تشير بعض الاوساط الى انه انجز منذ مدة ولم يتبقَّ سوى الإخراج الشكلي له من خلال التوقيع عليه.
في لبنان، البقعة الاكثر تفاعلاً بما يجري في المنطقة من تحولات، كان بادياً حجم الانزعاج من قبل فريق 14 اذار، فالمولود الجديد المسمى "مجلس وطني" أجهضه كيري قبل أن يرى النور، فلم يدم عمره أكثر من يومين، ولم يمر عليه 48 ساعة، حتى نعاه كيري ودفنه على ان تتقبل امانة سر 14 اذار التعازي به، لذا ليس مستغرباً ان يكون اول المعلقين على كلام كيري اكثرهم خشية على مواقعهم جراء رهاناتهم الخاسرة، فقبل اربع سنوات طبلوا وزمروا لرحيل الاسد وكانوا رأس حربة، حتى خرج احدهم يبشر بسقوطه خلال شهر او شهرين، وتوقع اخر عام 2012 أن يكون عام رحيل الاسد وتحدث عن "رؤوس أينعت وحان قطافها"، لكن كل توقعات هؤلاء ذهبت أدراج الرياح، بفضل تضحيات وصمود الجيش السوري وحلفائه، الذين غيروا المعادلة بدمائهم وتضحياتهم.
وبالطبع، لكلام كيري أيضاً عن الانفتاح الاميركي حيال التفاوض مع الرئيس الاسد تداعيات كبيرة على دول الخليج، من شأنها أن تبدد الأجواء المطمئنة التي تركتها زيارته قبل أسبوعين الى الرياض حينما تعمد تصعيد لهجته من هناك حيال ايران وسوريا، في محاولة لاسترضاء الحكم السعودي وطمأنته الى ان معادلة الاتفاق مع ايران وان كانت اولوية اميركية؛ الا انها لا تلغي اولوية اميركية اخرى هي الحفاظ على امن الخليج.
ما الذي يعنيه كلام كيري؟
انطلاقاً مما تقدم، فإن موقف وزير الخارجية الأميركي الأخير ليس مجرد غزل سياسي بل هو إقرار صريح بأن مرحلة إسقاط الاسد انتهت الى غير رجعة، وأن واشنطن تتجه نحو فتح صفحة جديدة مع النظام السوري، دون ان يعني ذلك انها ستهرول لاعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين او ستتخلى عن جميع اوراقها، فهي في الوقت الذي تفاوض فيه، ستحاول أن تمتلك أوراق القوة، وستعمل على ترتيب أوضاع ما يسمى بـ"المعارضة" والمجموعات السورية المسلحة في محاولة لتحصيل أكبر قدر ممكن من التنازلات من قبل النظام السوري. لذا يبدو أن الاتصالات مع نظام الرئيس الاسد والتي بدأت بحدها الادنى منذ انشاء "التحالف الدولي" مرجحة للتطور التدريجي، على ان تبقى في هذه المرحلة تحت الطاولة وفي إطار من السرية، حتى تنضج طبخة الحل السياسي كاملة.
خلاصة الأمر، إن التحول في الموقف الاميركي يعود بالدرجة الأولى الى الوقائع التي فرضها الجيش السوري وحلفاؤه في الميدان بصمودهم الأسطوري وإنجازاتهم العسكرية، ما فرض على الادارة الأميركية مراجعة سياستها حيال سوريا مع دخول الأزمة عامها الخامس، لتتكون قناعة لدى واشنطن ودول الغرب أن استمرار الحرب في سوريا سيفتح المنطقة على تداعيات لن تصبَّ في مصلحتها، لذلك بات من المُلح والضروري بالنسبة إليها أن تعمل على إيجاد حل سياسي لهذه الأزمة، ليس من اجل سوريا وشعب سوريا بل من أجل مصالحها وأمنها المهدد.