ارشيف من :ترجمات ودراسات
لماذا وكيف سنتخلص من الوباء الأميركي
عن موقع Réseau International
25 آذار / مارس 2015
لقد دخلنا في حرب باردة جديدة يمكن فيها للدونباس أن تكون برلين الشرقية الخاصة بالحرب الباردة القديمة.
من ثورة إلى ثورة، لا بدَّ من الاعتراف أن البشرية قد خرجت من الكهوف والبيوت المتصدعة. لكنها ما تزال تأمل، وستظل تأمل، بالفردوس الموعود، وبالتالي ستحدث ثورات جديدة. إنها الحياة.
الفردوس الموعود
نحن نعيش في مرحلة انتقالية، فالعالم الحديث يمكن مقارنته بالاتحاد السوفياتي في العام 1989. من الواضح طبعاً أن ما كان سوف لن يكون كما كان. أما ما لا يزال غير واضح فهو: كيف سيكون؟ فالأكيد أن هنالك احتمالات عديدة مطروحة لاستمرار التقدم.
ما الذي تركناه وراءنا؟
نحن نبتعد عن عالم القطبية الأميركية الأحادية التي انتهت إلى أن تأخذ شكلها، بخصائصه الرئيسة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في فترة الثمانينات. هذا النموذج لا حظَّ له بالبقاء حتى ولو كان بإمكان الولايات المتحدة أن تنتصر، بشكل ما، في المواجهة الدولية. فالانتصار في الحروب يمكن أن يتم أحياناً بالصدفة، لكن أحداً لم يمتلك القدرة حتى الآن على تغيير مسار التاريخ.
تقوم مشكلة الولايات المتحدة على الجغرافيا. ولكن العادة في مثل هذه الحالة، أن لا ينتبه أحدٌ لذلك: كي تنتصر الولايات المتحدة على روسيا، عليها أن تدمر نظامها العالمي بالذات لأنها أحرقت حلفاءها أو البلدان المستعدة للتفاوض معها في ظروف هي الأكثر ملاءمة للمصلحة الأميركية.
ما الجهات التي أحرقها العدوان الأميركي على روسيا؟
لنبدأ بجورجيا ساكاشفيلي. هل صنعت الولايات المتحدة حليفاً أكثر حماساً؟ لا، أبداً، لأن ميكائيل نيكولوزوفيتش ليس أكثر من خادم وفيّ.
لقد أحرقوا أنظمة إفريقيا الشمالية المؤيدة للولايات المتحدة (تونس ومصر).
لقد أحرقوا ليبيا مع زعيمها معمر القذافي الذي كان يعتمد سياسة كلاسيكية متعددة التوجهات، وكان صديقاً لحلفاء أميركا في الاتحاد الأوروبي أكثر مما كان صديقاً لروسيا.
ويسعون إلى إحراق سوريا التي لم تحترق في النهاية لأنها تمكَّنت من الاعتماد على الدعم الروسي. ومع ذلك، كان بشار الأسد قد سحب قواته من لبنان، ما سمح للولايات المتحدة بإعادة تشكيل هذا البلد على أمل أن يكون ذلك أكثر تلاؤماً مع مصالحها. كما حدد الأسد موقعه كحاكم مستنير من الطراز الأوروبي، إضافة إلى طموحه إلى دمقرطة تدريجية للحياة السياسية والعامة في سوريا.
وها هم يحرقون أوكرانيا التي عمل حكوماتها ورؤسائها، دون إخفاء ذلك، بتوجيه من واشنطن. وكان الديبلوماسيون الأميركيون والشركات الأميركية والمنظمات غير الحكومية - وهي في الغالب أشد خطورة من أجهزة الاستخبارات – يشعرون أنهم "في بيتهم" ليس فقط في كييف، بل أيضاً في دونتسك وخاركوف وأوديسا. مؤسسات هؤلاء (شأنها شأن المؤسسات الأوكرانية التي صنعوها بأنفسهم والتي تعيش على المساعدات الحكومية) جرى تصميمها بنجاح، حتى في عهد يانوكوفيتش، عن طريق جامعات خاركوف وودونتسك والسلطات المحلية التي لم يكن لها مِن همٍّ غير إرضاء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وكل ذلك لا يشتمل على غير الحالات المؤكدة والواضحة وخلال السنوات السبع الأخيرة ليس إلا.
من جهة أخرى، يتضح لكم - فيما لو راقبتم الوضع في الاتحاد الأوروبي بانتباه - أن أوروبا هي اليوم، من الزاوية السياسية والاقتصادية، أقل استقراراً مما كانت عليه أوكرانيا قبل عامين، أو مما كانت عليه سوريا قبل خمسة أعوام. أوروبا هي في الحقيقة المرشحة المقبلة للاحتراق بفعل السياسات الأميركية. والاتحاد الأوروبي يعي ذلك جيداً، ولهذا يتصرف بعصبية.
أما الهدف الأميركي من السعي إلى إحراق كل شيء، فهو تجفيف موارد روسيا، كي يصبح من الممكن لاحقاً إلحاق الضرر باستقرارها. ولكن عجز الولايات المتحدة عن إحراق أراضٍ روسية، أو أراضٍ تابعة لحلفاء أميركا في الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر يجبرها على تركيز اهتمامها على البلدان التي تربطها علاقات جيدة مع روسيا.
الأميركيون ليسوا أغبياء أو مجانين. إنهم يعرفون أننا نعيش في عالم مترابط. وبالتالي، فإن روسيا لا بد لها من أن ترد على بعض الأحداث لأن عدم الرد يلحق الضرر بمصالحها (بما في ذلك مصالحها الحيوية). فوق ذلك، فإن الحسابات الأميركية تقوم على الاعتبار التالي: لأن أميركا تسيطر على مصادر للموارد أكثر اتساعاً، فإن روسيا ستنهار قبل أن تصل التداعيات السلبية لذلك إلى واشنطن. لكن هذه الحسابات خاطئة.
لم تأخذ الولايات المتحدة في حسابها أن ناتجها الداخلي الخام - وهو ناتج بالاسم - يقوم على أوراق تأتي عن طريق المضاربات المصرفية، لا يصلح إلا للبروباغندا.
وهي تسوغ بذلك استمرار البقاء لأداة مالية كالدولار بوصفه عملة احتياطية عالمية، علماً أن هذه العملة لا ضمانة لها أبداً. والمعروف في أوقات الأزمات العالمية والمواجهات أن الخيرات الحقيقية والملموسة، كالمعادن والنباتات والمنتجات الزراعية وغيرها، هي التي تتمتع بالقيمة. وكل هذه الخيرات هي ما حرصت الولايات المتحدة على تنميتها بقوة خلال العقود الأخيرة.
وبالطبع، فإن الرقابة على الشركة التي اخترعت "آيفون" أمر جيد، ولكن إذا ما حدث لبعض الشركاء أن رفض مبادلة ما يمتلكه من غاز ونفط وخبز بجهاز آيفون يمكن العيش بدونه، فإن صانع هذا الجهاز المتطور سيموت من الجوع. هذا أولاً. وثانياً، فإن آيفون نفسه يتم إنتاجه في الصين التي يمكنها، إذا ما حدث تطور ما، ألا تبيعه للأميركيين.
هذا مثال كاريكاتوري طبعاً، لكن المجال لا يسمح هنا بإجراء فحص مفصل لجميع الترابطات الاقتصادية المعقدة في العالم الحديث. فكي يكون ذلك ممكناً يلزمنا أن نصنف كتاباً بحجم وبقيمة كتاب كارل ماركس "الرأسمال". يكفي أن نقول أن الولايات المتحدة لا تمتلك غير خيرات بالاسم في حين أن خصومها، ومنهم روسيا، يمتلكون موارد حقيقية. ولا يمكن لواشنطن أن تغير هذا الواقع بليلة واحدة.
نتيجة لذلك، وفي كل دورة مواجهات جديدة، استهلكت الولايات المتحدة موارد تفوق ما استهلك خصومها، وأصبحت أسس مواردها أكثر فقراً بسرعة أكبر. لذا، ستحاول الولايات المتحدة إنهاء هذه الحملة التي خسرتها مسبقاً عبر إحراق المزيد والمزيد من المناطق بدأً من الأطراف (التي أظهر الأوروبيون، على مضض، استعدادهم للتضحية بها) وانتهاءً بالقلعة التاريخية الغربية المتمثلة بأوروبا.
وبقدر ما تصل النار العالمية إلى الاتحاد الأوروبي، بقدر ما يرتفع منسوب القلق عند حلفاء الولايات المتحدة ويزداد ارتيابهم بالاستراتيجية الأميركية. ففي النهاية، ومع التأخر الكبير في ذلك، بدأ الاتحاد الأوروبي، في مطلع العام 2015، يبدي مزيداً من المقاومة إزاء الولايات المتحدة. وبذلك، فقدت الولايات المتحدة سيطرتها المطلقة على موارد حلفائها الأوروبيين، وهذه الخسارة زادتها ضعفاً شأنها في ذلك شأن ناتجها الداخلي الخام بالاسم.
إن الفرصة الأخيرة أمام الولايات المتحدة في تجنب الهزيمة هي إحراق أوروبا في حال رفضها لمواجهة روسيا إلى جانب واشنطن، وهذا هو السبب الذي يجعلنا نأمل في أن تتمكن هذه القارة - التي يعيش فيها نصف مليار من البشر - من اجتذاب الكثير من المنتجات الروسية والصينية لإجبار الولايات المتحدة على وقف تنفيذ مشروعها وعلى الانصراف لتضميد جراحها.
إن بلدان العالم لا تنتفض ضدَّ هيمنة قوة عالمية قادرة على إرسال سفن حربية حيث تشاء إذا كان بإمكان الطبقات الحاكمة فيها أن تضمن، على الأقل، نوعاً من الاستقرار وحداً أدنى من الازدهار والاستقلال في اتخاذ قراراتها الداخلية.
ولكن، عندما ينتفي كل ذلك وتتجه القوة الساعية إلى الهيمنة نحو إحراق عالمها، فإنها تتحول إلى خطر محدِق بشركائها وحلفائها وأتباعها. فهؤلاء يريدون حياة متواضعة لكنها مستقرة في ظلِّ المالك الأكبر، في حين أن هذا الأخير يقتلهم لأسباب غامضة بالنسبة لهم.
لذا؛ فإن عالم هؤلاء سيتفكك في حال هزيمة الولايات المتحدة، وتفككه سيكون ناجماً عن كونه غير عادل وغير مقبول من قبل غالبية الناس في أغلب بلدان العالم. ولكي تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق انتصار افتراضي، فإن ذلك يظل غير ممكن إلا عن طريق قيام أميركا نفسها بإحراق عالمها بشكل كامل. وإلا، فإن أميركا لن يكون بإمكانها أن تعوِّض النقص في مواردها.
فحتى لو انتصرت الولايات المتحدة فإنها ستخرج منهكة من الحرب، وستتصدع علاقاتها التقليدية مع حلفائها، وسيختلُّ نظامها السياسي والاقتصادي الذي قاد العالم نحو الكارثة.
وفي الوقت نفسه، فإن بقية بلدان العالم ستعاني من عدم الاستقرار وستنهار بشكل لا تكفي فيه أية قوة للإمساك بالأوضاع. لقد هاجرت الصناعة من بلدان الغرب وتحوَّلت الولايات المتحدة في أيامنا إلى بلد سكانه من العاملين في المصارف والمكاتب المركزية للشركات العابرة للقارات. وبذلك لن يكون بمقدورها أن تؤمن الموارد الضرورية وإيصالها بكميات كافية، وفي الوقت المناسب إلى الأماكن الحساسة. وبوجه عام، فإن ذلك سيكون مشابهاً لانقطاع الروابط الاقتصادية خلال فترة انهيار الاتحاد السوفياتي.
وفي حال انتصرت الولايات المتحدة في المواجهة العالمية، فإن انتصارها سيقود البشرية، بادئ ذي بدء، نحو العودة إلى نظام بمستوى ما كانت عليه العلاقات الاقتصادية والتجارية في القرن السابع عشر. وللمفارقة، فإن ذلك سيكون أيضاً هزيمة للولايات المتحدة أن أي جزء من أجزاء النظام الاقتصادي العالمي لن يكون بوسعه أن يحافظ على بقائه بشكل مستقل عن الولايات المتحدة التي تشكل المركز الإداري للعالم الـ"متأمرك". وعندما ينهار النظام بأكمله، فإن مركزه الإداري (أي الولايات المتحدة) سيكون أول المتضررين. فالولايات المتحدة لا تنتج غير خدمات إدارية، وفي حال انتفت ضرورة هذه الخدمات (في ظروف انهيار النظام موضوع الإدارة)، فإنه لا يبقى للولايات المتحدة ما تنزله إلى السوق أو ما تبادله ببضائع ضرورية. وهذا هو السبب الذي يفسر معاناة اختصاصيي المستوى الفيدرالي نتيجة لانهيار الاتحاد السوفياتي، كما يفسر تحسن أوضاع المرتبطين بهم سابقاً على المستوى الجمهوري. فقد خسرت الفئة الأولى نظامها الذي كانت تقوم بإدارته، وخسرت الفئة الثانية من كانوا يقومون بإدارتها وتحول أفرادها إلى مديرين مستقلين، ولكن على مستوى نظم أصغر بكثير.
من هنا، فإن العالم الذي نعرفه محكوم عليه بالتعطل أياً كانت نتيجة المواجهة العالمية. ولكن الولايات المتحدة هي التي ستكون الخاسرة في المستقبل المنظور (على المدى المتوسط). وهنا يطرح السؤال: من هم الرابحون المحتملون الذين سيكون عليهم أن يعيدوا بناء ما تهدم؟
المستقبل
الإجابة مخيبة للآمال في الوقت الراهن، فكلُّ ما تم التوصل إليه اليوم مع البريكس أو الاتحاد الأوروبي، وكل ما تسعى الصين وروسيا - أو أولئك الذين يعملون لصالح الولايات المتحدة - إلى تقديمه للعالم على مستوى إيجاد بنى بديلة عن الولايات المتحدة، كل ذلك يقوم على الأساس نفسه. فبدلاً من صندوق النقد الدولي، أنشأوا بنك البريكس. واليوآن يحاول بنجاح أن يحتل مكان الدولار كعملة احتياط عالمية. أما الروبل وعدد من العملات الصعبة الأخرى، فتصارع من أجل الاحتفاظ بحقها في البقاء إلى جانب اليوآن. دول البريكس تحاول السيطرة على الأسواق التي طردتهم منها الولايات المتحدة بالطريقة نفسها التي اعتمدتها الولايات المتحدة من أجل السيطرة على الأسواق.
حتى الآن، لا يهدف الصراع إلى إيجاد نظام جديد بدلاً من النظام الذي عفى عليه الزمن، بل فقط إلى استبدال الجهة التي تدير النظام. والجهة الوحيدة التي تدير النظام (أي الولايات المتحدة) سيتم استبدالها بفريق من المديرين. لكن المشكلة لم تكن أبداً في سوء الإدارة الأميركية للنظام، بل في موت النظام وعجزه عن البقاء في صورته الأولى. ببساطة، لم تكن الولايات المتحدة قادرة، لأسباب موضوعية وذاتية، على إصلاح النظام وتجديده بهدف الاحتفاظ بدورها المسيطر في العالم الجديد.
وهكذا، فإن المهمة التي لم تنجح فيها الولايات المتحدة بمفردها رغم امتلاكها لجميع مقدرات النظام ورغم الخضوع الإجباري، أقله (حتى العام 2012) على مستوى التصريحات، من قبل جميع المنافسين المحتملين، لن تكون (المهمة) أكثر قابلية للنجاح في ظل قوة مهيمنة جماعية ورثت نظاماً شائخاً يتلف الموارد ويهدرها في مواجهة عالمية. وفوق ذلك، فإن استبدال الولايات المتحدة بقوة مهيمنة جماعية سيقلص القدرات الإدارية، كما أن الكثير من المسائل لن يصار إلى حلها بالسرعة الضرورية بسبب ضرورات التوفيق بين المواقف المتضاربة والمصالح الخاصة للقوى الفاعلة الجديدة ولمجموعات الدول في بعض الحالات.
من أجل وقف عدم الاستقرار الذي يعاني منه العالم منذ عدة عقود، من الضروري تقديم فكرة نظام حقيقي جديد يكون بديلاً عن النظام الذي أصبح فاقداً للصلاحية. ولإيضاح الفكرة أقول: الجديد لا يعني أنه عادل. فقد تغيرت نظم كثيرة في تاريخ البشرية. وفي كل مرة، كان الناس يتوهمون أن النظام الجديد سيكون عادلاً وإنسانياً، وأن نظاماً جديداً ورائعاً قد ظهر في العالم. وفي كل مرة كانت خيبة الأمل بانتظارهم.
الواقع أن تحرير القوى الاجتماعية الفاعلة كان يشكل مهمة كل نظام سياسي واقتصادي جديد. وعلى هذا الأساس كانت المهمة أيضاً إعطاء دفع جديد لتنمية العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. في المرحلة الأولى، كانت احتياجات المؤسسة، وإقامة النظام الجديد وتشغيله، هي ما يزيد بشكل كبير في الحركية الاجتماعية العمودية والأفقية. وهذا ما كان في أساس الإحساس بوجود مجتمع أكثر عدلاً من الناحية الاجتماعية وأكثر قدرة على فتح إمكانيات جديدة. ولكن النظام كان يعتريه السكون والجمود في غضون عشرين أو ثلاثين عاماً، بقدر ما كانت النخب الجديدة تعزز مواقعها كقوى هيمنة، ما كان يؤدي إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق.
ليس ذلك بالأمر الجيد ولا هو بالأمر السيء. إنها خاصية كل نظام. ذلك أمر لا محيد عنه. وفي نهاية المطاف، يأتي التغيير التدريجي للنظم البالية واستبدالها بنظم واعدة هي السبب في كوننا لا نعيش اليوم في الكهوف والبيوت المتصدعة.
مشكلتنا اليوم ليست في النقص النظري على مستوى العدل، ولكنها مع علمنا بما لم نعد نريده، لم نعرف بعد ما الذي يجب علينا إيجاده. وبانتظار العثور على ما علينا إيجاده، لا نفعل غير التيه في الصحراء لأربعين مع حلمنا بفردوس موعود هو في الواقع قريب منا.