ارشيف من :أخبار عالمية
باب المندب بين مالح مصر وعذْبها
إسلام أبو العز
منذ اتفاقية "كامب ديفيد" شكل مبدأ عدم إرسال قوات مصرية خارج الحدود للقتال عقيدةً للجيش المصري لحماية مصالح مصر الاستراتيجية،لكن شابَ هذه العقيدة استثناء أول، وهو مشاركة قوات مصرية ضمن قوات التحالف في عملية "عاصفة الصحراء" لتحرير الكويت عام 1990، حينها صُدِّرت تبريرات ودوافع على رأسها إجماع عربي، وتأييد برلماني، وأخيراً – وهو الأهم - أن مشاركة مصر في هذه العملية العسكرية من شأنه إسقاط الديون المتراكمة عليها لدول أجنبية منذ حكم الخديوي إسماعيل، الذي استدان من الدول الاجنبية لتجميل المدن المصرية وإقامة حفل أسطوري بمناسبة افتتاح قناة السويس عام 1869، وتمويل حملات عسكرية لتأمين منطقة منابع النيل في أثيوبيا وامتداد النفوذ المصري إلى منطقة القرن الأفريقي.
تكرر هذا الاستثناء من جديد، ليؤكد على مطاطية مدلول "مصالح مصر الاستراتيجية"، حيث سوّق إعلامياً لمشاركة الجيش المصري في العدوان السعودي على اليمن بأنه يأتي لحماية مصالح مصر في باب المندب، باعتباره الممر الملاحي الحيوي لاستمرار الملاحة في قناة السويس، وأن أهميته بالنسبة لمصر تضاعفت بسبب مشروع قناة السويس الجديدة، الذي ضخّ الشعب المصري فيه من أمواله الخاصة ما يقارب الـ 8 مليارات دولار في سبيل تنفيذه، على ضوء وعود بتنمية ورفاهية ستثبت نجاح نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في أنه يختلف عن الأنظمة التي سبقته، وتعزز من شعبيته، كونه أول مشروع عملاق يَعد به نظام مصري وينفذه منذ مشروع "السد العالي"، وإخفاق مشروعي "توشكى" و"ترعة السلام".
إلا أن توقيت العدوان على اليمن، ومباركة النظام المصري له ومشاركته فيه، جاءت بالتوازي مع محاولة النظام معالجة ملف أكثر خطورة وحساسية ومصيرية من فوائد قناة السويس الجديدة، وارتباط أمن باب المندب بها؛ وهو ملف "سد النهضة" الأثيوبي، الذي عولج من جانب الدولة المصرية منذ الإعلان عنه قبل سنوات باستهتار واستخفاف، وصل إلى حدِّ إذاعة رئاسة الجمهورية لاجتماع "سري ومغلق" بين الرئيس المخلوع محمد مرسي وعدد من قادة الأحزاب والقوى السياسية، اقترح فيها أحدهم أن تعمل الاستخبارات المصرية على بث الفرقة وإذكاء النزاعات بين قبائل الأثيوبيين كورقة تهديد باقتطاع جزء من أثيوبيا كما حدث في حالة اريتريا.
باب المندب
بعد أقل من شهر من هذه الفضيحة أطيح بمرسي ونظامه، وجاء نظام السيسي ليعلن أنه على أولويات مهامه التوصل لاتفاقٍ مع أثيوبيا والسودان يجنب مصر تداعيات شُحٍّ مائيٍّ يصل إلى درجة العطش. لكن ما حدث في الأسبوع الماضي من زيارة السيسي لأديس أبابا وتوقيع وثيقة إعلان مبادئ – لا اتفاقية قانونية مفصلة تلزم أطرافها ببنود محددة- برهن على أن الخطوة اتخذت على عجل، وسط تهليل إعلامي كالمعتاد يهون من خطر مشروع سد النهضة ويشدد على أن وثيقة المبادئ من شأنها حفظ حقوق مصر في مياه النيل.
باب المندب مهدد فقط من الكيان الصهيوني |
الحُجة التي يروجها الإعلام في مصر لمشاركة القاهرة في العدوان على اليمن هي حماية باب المندب، والتي غَفل القائمون عليها أن باب المندب بالنسبة لمصر غير مهدد إلا من الكيان الصهيوني، الذي عمد طيلة تاريخ الصراع مع مصر في القرن الماضي إلى إخراج المضيق كورقة ضغط مصرية عليه مثلما حدث في حرب أكتوبر حيث أغلقت البحرية المصرية المضيق أمام السفن الإسرائيلية، وهو ما جعل الصهاينة يفكرون مستقبلاً في إرساء تواجد عسكري لهم في منطقة القرن الإفريقي، يتمثل في تمركز قوات جوية بحرية في قاعدتين إحداهما في جيبوتي والأخرى في اريتريا. ناهيك عن تواجد عشرات من القطع البحرية لعدد من الدول على رأسها الولايات المتحدة في البحر الأحمر شمال وجنوب المضيق، وهو ما يفنِّد الأكاذيب الإعلامية أن حركة أنصار الله تمثل تهديداً للمصالح المصرية، حيث أولاً أن لا تواجد حتى كتابة هذه السطور للحركة في المدن اليمنية على المضيق، وثانياً لم يصدر عن الحركة وقياداتها أي تلميح بالتهديد للمصالح المصرية، بل على العكس كانت هناك طمأنة للجانب المصري تكررت غير مرة حتى بعد الضربة الجوية السعودية الأولى.
مصالح مصر
وبخلاف هذا وذاك فالسؤال هو: لماذا جاء تحرك القاهرة لحماية مصالحها المهددة الآن تحت راية العدوان السعودي؟ خاصة وأن هناك سوابق تعرضت فيها الملاحة المصرية للضرر ولم تحرك القاهرة ساكناً، كما حصل في أعمال القرصنة التي نفذها قراصنة صوماليون عندما احتجزوا سفناً مصرية مع ملاحيها المصريين في عام 2008.
المفارقة هنا تكمن في جوهر مصلحة مصر الاستراتيجية الحقيقية، التي تتمثل في أوضح صورها في التهديد المصيري لمياه نهر النيل، بسبب مشروع يشارك به تخطيطاً وتنفيذاً الكيان الصهيوني، وبين مصلحة السعودية في جرِّ مصر وجيشها إلى معركة خارج حدوده وبعيدة عن أي مصلحة مرجوة تحت غطاء إعلامي يدعى حماية باب المندب، يلح سؤال جوهري يتعلق بمدى تأثير وجود عسكري لمصر في جنوب البحر الأحمر وربما خليج عدن، فهل يساهم هذا التواجد في إشغال البحرية المصرية عن نطاق عملها الرئيس في شمال البحر الأحمر وجنوب شبه جزيرة سيناء، حيث يتواجد نفوذ للبحرية الإسرائيلية بشكل رسمي أو عن طريق شركات أمن كما هي الحال في جزر مضيق تيران، الذي – ويا للمفارقة - اعترض الكيان الصهيوني العام الماضي على إقامة جسر يربط بين مصر والسعودية يمر عبره.
بالإضافة إلى ذلك، في حال تنصُّل اثيوبيا من وثيقة المبادئ ورفض التوقيع على اتفاقية مُفصلة تضمن حقوق مصر في مياه نهر النيل، فكيف سيكون الرد المصري؟ وهل سيكون مكافئاً للاستنفار العسكري النابع من مصلحة الرياض؟ وهل ستدعم الرياض القاهرة أمام دول أجنبية متمركزة في باب المندب وعلى رأسها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني للسماح بتواجد عسكري مصري في جنوب البحر الأحمر للضغط على أثيوبيا، مثلما جاء في المباحثات التي سربتها وثائق ويكيليكس عام 2012 بخصوص مفاوضات بين الحكومة المصرية وحكومات دول القرن الأفريقي والسودان لتواجد عسكري مصري تحسباً لانسداد أفق تسوية سياسية بين القاهرة وأديس أبابا بشأن سد النهضة الذي سينتهي العمل فيه بعد عامين، ووقتها هرع القطريون بموائمة إسرائيلية للحيلولة دون ذلك.
تبقى نقطة أخيرة في هذا السياق، وهي أن التحرك المصري العسكري الأخير لو كان دافعه تأمين مصالح مصر في باب المندب المرتبطة بقناة السويس، كما يروج الإعلام في مصر، فينبغي بشكل بديهي أن يشتمل ذلك على تعاطٍ مماثلٍ مع مشكلة أكثر خطورة وإلحاحاً هي مياه نهر النيل، حيث لا يكفي ترك المسألة للنوايا الحسنة لأثيوبيا والسودان في شكل وثيقة مبادئ لا تساوي في سوق السياسة دون أوراق ضغط عسكري الحبر الذي كتبت به.