ارشيف من :نقاط على الحروف
الليبرالية بنسختها العربية: خدمة الملكية الخاصة
تتضخم الشعارات في عالمنا العربي، وتنحرف الأسماء عن المسمّيات، وتتحوّل التوصيفات إلى زخارف بلا معان، بل يمكن أحياناً أن ينقلب الوصف إلى نقيض الموصوف، دون أن يحاسِب أحد، أو يعترض.
كمثال على ذلك، يمكن الحديث عن الليبرالية والليبراليين.
في التعريف المعتمد عالمياً لليبرالية أنها "فلسفة سياسية أو نظرية عالمية تقوم على قيمتي الحرية والمساواة"، و"عموم الليبراليين يدعون في المجمل إلى دستورية الدولة، والديموقراطية، والانتخابات الحرة والنزيهة، وحقوق الإنسان، وحرية الاعتقاد والسوق الحر والملكية الخاصة".
ومن هنا، فإن الليبرالي، الذي يُطلق على نفسه هذه الصفة، أو الذي يعتقد فعلاً أنه ليبرالي، ينبغي عليه أن يؤمن بهذه المبادئ، وأن يعمل من أجل تحقيقها، لا بل أن يقاتل ويعادي من يقمعها ويعاديها.
هذا يحصل تقريباً في كل مكان من العالم، في حين يحصل عكسه تماماً في عالمنا العربي.
الليبرالية
فالليبرالي في منطقتنا لا يجد حرجاً في أن يطلق الشعارات الكبيرة، ويدبّج المقالات ويصدر الكتب ويملأ الصفحات في شرح أهمية دستورية الدولة، في حين أنه في الواقع يقوم بتقديم فروض الطاعة لدولة لا دستور لها، وتُحكم بطريقة المشيخة والقبيلة، ثم لا يتورع عن مدح هذه الدولة ونظام حكمها وحكمة قيادتها.
والليبرالي العربي يعظّم الديموقراطية ويقدّسها، ويجد من ينشر له مطوّلات في الحديث عنها، بينما هو لا يرى مانعاً من عبادة أسرة حاكمة لا تعرف من الديموقراطية اسماً ولا رسماً ولا تطبق حرفاً واحداً من حروفها ومعانيها.
والليبرالي المتنوّر في عالمنا يهجس بالانتخابات، ويصرّ على وجوب أن تسود كطريقة لاختيار القيادة، ويصرّ على أن تكون حرّة ونزيهة، فهذا من متطلبات الليبرالية ومن أبرز محدداتها. ولكن هذا الليبرالي نفسه شغوف بدولة لم تعرف معنى الانتخابات ولا تؤمن بها، لا بل إن مؤسستها الدينية تكفّر من يدعو إليها وتطالب برأسه، وتبيح دمه.
والليبرالي هنا تهمّه جداً حقوق الإنسان، وينادي بها، لا بل يجعل وجوب تطبيقها أوجب من أي شيء آخر على ظهر الكون، ثم تجده ساجداً على أعتاب زعماء أعتى الدول في انتهاك حقوق الإنسان وامتهان أبسطها، واحتقار أكثرها بداهةً، وصولاً إلى منع المرأة من قيادة السيارة، أو حتى الحصول على بطاقة هوية (إلى ما قبل سنوات فقط من الآن)، وبالرغم من ذلك يبقى مصراً على أن تصفه بالليبرالي.
أما بالنسبة لحرية الاعتقاد، فحدّث ولا حرج عن التناقض بين ما يؤمن به هذا الليبرالي المنفتح على كل العقائد والإيديولوجيات والخيارات الدينية، وصولاً إلى الإلحاد وما بعده، وبين انسحاقه تحت أقدام أنظمة أحادية العقيدة، متحجرة الإيديولوجية، عديمة الرحمة في التعامل مع أي مخالف لما تروّج له من فهم للدين، حتى ولو كان من الدين نفسه، أو حتى من المذهب ذاته.
كل هذه المبادئ والقيم هي مجال اختلاف وتناقض بين الليبرالي العربي وبين الدول والمشيخات التي يواليها ويمشي في ركابها ويبذل ماء وجهه وصفوة كرامته في الدفاع عنها وفي تبرير ما ترتكبه من جرائم وفظائع وانتهاكات، ولكنه بالمقابل يتوافق معها في مبدأ واحد أو مبدأين من مبادئ الليبرالية، وهما " السوق الحر والملكية الخاصة".
ولنغضّ النظر عن السوق الحرّ قليلاً، فهذا أمر لا يعني صاحبنا كثيراً، بل كل اهتمامه يتركز على الملكية الخاصة، فهي قدس الأقداس، التي يرى في المسّ بها قتلاً لليبرالية وقضاءً على كل قيمها.
وليس المقصود هنا طبعاً، ملكية الناس الخاصة، فهذا موضوع لا يهمّه أيضاً، ولا داعي للدفاع عنه في وجه ممالك الشر وأنظمة التخلف وزعماء عصابات اللصوص الذين يفرضون أنفسهم كقيّمين على اقتصاديات الدول العربية وكمتصرفين مطلقي الصلاحية بكل مقوماتها، وبكل ما هو موجود في هذه البلاد من ثروات وخيرات وطاقات، دون أن يحاسبهم أحد أو يضع لهم قيوداً أو حدوداً.
صاحبنا الليبرالي يفتش عن الملكية الخاصة التي تعنيه هو، أي ملكيّته الخاصة، وبمعنى آخر ما يحصل عليه من منح وعطايا ومن خِلَع وهبات، من هؤلاء الملوك والأمراء والمشايخ، طالت أعمارهم أو أعمار من سيخلفهم، مقابل المهمة التي نذر نفسه لها: مدافعا عنهم، محاميا يبرّر جرائمهم، إعلاميا يغطّي كل ارتكاباتهم، مهندسا لحملاتهم الدعائية في وجه الشعوب، طبيب تجميل لكل القبائح التي تعتري وجوههم وأخلاقهم وأفعالهم. وكلّما ازدادت الدفعة ارتفع الصراخ واحتدّ الخطاب وتدفقت العبارات وسال الحبر وكثر الكلام، دفاعاً عن "طويل العمر".
الليبرالية تعني ـ بأحد وجوهها ـ الحرية، وصاحبنا الليبرالي حرّ، حرّ في أن يتحرر من كل شيء، حتى من مبادئ الليبرالية نفسها، خدمةً لولي النعمة وصاحب السلطان.