ارشيف من :ترجمات ودراسات

رؤية إسرائيلية: الحرب المقبلة مع حزب الله على ضوء حرب غزة..

رؤية إسرائيلية: الحرب المقبلة مع حزب الله على ضوء حرب غزة..

أمير كوليك/ نشرة تقدير استراتيجي، عدد نيسان 2009

شعر الجيش والجمهور الإسرائيليين، من خلال عملية "الرصاص المسكوب" ضد حركة حماس في قطاع غزة، أنه انتصر، وقد يكون قد حقّق ذلك من ناحية عسكرية على الأقل. فخلال المعركة، نجح الجيش الإسرائيلي في تقليص نيران الصواريخ، بشكل كبير، المنساقة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، كما قلّص الخسائر البشرية والمادية، وكانت نسبتها ضئيلة؛ كما أن سلاح الجو نجح بالإضرار ببنية حماس التحتية في قطاع غزة، وكان الإضرار جسيماً واستطاع أيضاً تصفية نشطاء رفيعي المستوى في الذراع العسكري والسياسي لحركة حماس، أما لجهة القوات البرية في الجيش، فقد واجهت بنجاح قتالاً في منطقة مدنية مكتظة بالمدنيين ومليئة بقوات معادية، وفي الجبهة الداخلية التي تشوش فيها روتين الحياة، استطاعت سلطات الحكم المحلي مواصلة أداء مهامها، والتعاون فيما بينها وبين الجيش، وبالإجمال يمكن القول إن الوضع كان لا يقارن مع الوضع الذي ساد في شمالي البلاد، خلال حرب لبنان الثانية عام 2006.

ثمة حكمة معروفة تقول إن لدى الجيوش نزعة لخوض الحرب التالية بناء على العبر المستخلصة من الحرب السابقة. وفي كثير من الأحيان، هناك شيء من الحقيقة بذلك. خلال العملية في غزة حاول الجيش الإسرائيلي، وأحياناً بنجاح، تطبيق عدد من عِبر حرب لبنان الثانية. الضربة الفجائية الضخمة في البداية، الدخول السريع نسبياً للقوات البرية وأسلوب قتالها، وتعريف الأهداف الواضح للقطاعات المقاتلة، وتجنيد الاحتياط وتدريبهم سريعاً فور بدء المعركة، اللوجستية الناجعة وغيرها، كانت جميعها نتائج عملية لاستخلاص العبر، التي جرت في الجيش الإسرائيلي بعد صيف 2006.

التهديد الذي واجهه الجيش الإسرائيلي في غزة شبيه في ماهيته بالتهديد الذي يشكّله حزب الله: قصف صاروخي على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وقتال بري هدفه عرقلة القوات وتكبيدها خسائر بشرية ومادية. وعليه، فإن نتائج قتال الجيش الإسرائيلي في غزة من شأنه أن يقود إلى استنتاج مفاده بأن الجيش وجد، بشكل كبير، العلاج لهذا النوع من التهديدات. وبناء على ذلك، من المنطقي أن يستخدم قادة الجيش عِبَر العملية لتخطيط المعركة القادمة مع حزب الله.

تهدف هذه المقالة إلى هدفين: الهدف الأول، التحذير من خلق علاقة مباشرة بين القتال في غزة وعِبَرها، وبين قتال مستقبلي في لبنان. الهدف الثاني، هو تحليل المبادئ والعبر، على المستوى العملي، التي يمكن تطبيقها على الساحة اللبنانية، وأي منها غير ذي صلة. ومن الواضح أن العملية العسكرية ناجمة عن تعريف مصالح وأهداف قومية وإستراتيجية. وليس الهدف من هذه المقالة الانشغال بهذه المصالح وبمقدار نجاح الجيش في تطبيقها في غزة أو، مستقبلاً، في لبنان. نقطة الانطلاق، التي تقف في أساس التحليل المبين أدناه، هي أنه في كل عملية عسكرية ضد نموذج القتال الذي تضعه حماس أو حزب الله، ستكون غاية العملية العسكرية، على أقل تقدير، المسّ بقدرات الخصم، إحراز ردع وخلق ظروف لتسوية سياسية مريحة أكثر.

نموذج حزب الله في غزة

عملت حماس على بناء قوتها العسكرية بناء على النموذج الذي بناه حزب الله في لبنان. وفي صلب هذا النموذج العسكري هناك فرضية مركزية وأساسية تقوم على أن المجتمع الإسرائيلي ضعيف وغير قادر على تحمل معركة طويلة زمنياً وتقع فيها الكثير من الإصابات. على أساس هذه الفرضية، تطوَّر مفهوم قتالٍ غايته ليس إخضاع إسرائيل عسكرياً وإنما تفعيل ضغط على جبهتها الداخلية المدنية. وهذا الهدف يُفترض به أن يكون محرَزاً بواسطة نيران صواريخ على المراكز السكانية وتكبيد أفدح الخسائر الممكنة بالقوات البرية للجيش الإسرائيلي. ووفقاً لهذا المنطق، فإن عامل الوقت في الحرب يؤثر سلباً على إسرائيل. وكلما طالت المعركة وقتاً أطول، وكلما استمرت نيران الصواريخ والإعلان عن سقوط جنود قتلى، يزداد الضغط الشعبي على الحكومة الإسرائيلية، لوقف القتال.

جرى تحقيق هذه المبادئ بواسطة إقامة تشكيلَين قتاليَّين. الأول، تشكيل مدفعي صاروخي هدفه إطلاق عدد كبير من الصواريخ على إسرائيل بشكل متتابع وطوال الوقت. وبغية الحؤول دون تدمير هذا التشكيل من قبل سلاح الجو الإسرائيلي، نشر حزب الله عدداً كبيراً من منصات الإطلاق على أرض جغرافية واسعة. وبهذه الطريقة، فإن فرصة تحديد أماكن قاذفات الصواريخ قبل الإطلاق تضاءل بسبب تشتيت جهود جمع المعلومات الاستخبارية للجيش الإسرائيلي، وفي المقابل، إزاء العدد الكبير للمنصات، فإن تدمير البعض منها بعد إطلاق النار لا يقلّل بشكل مهم من كمية النار، التي يتم إطلاقها على إسرائيل. وهكذا على سبيل المثال، في صيف 2006 ، نجح سلاح الجو، خلال القتال، بتحديد وتدمير 33 منصة (50 منصة إضافيا دُمرت في ضربة البداية). وفي المقابل، فإن كمية الصواريخ التي أُطلقت إلى الأراضي الإسرائيلية لم تقلّ تقريباً، ووقفت عند معدل 200 صاروخ يومياً. التشكيل القتالي الثاني، الذي أقامه حزب الله، كان تشكيل دفاع بري ـ مرتكز على مواقع دفاع جوي، أنفاق وحقول ألغام مُعدّة مسبقاً الهدف منها كلها مزدوج: عرقلة القوات البريّة ـ "شراء وقت" لاستمرار نيران الصواريخ، وفي الوقت نفسه، تكبيد جنود الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة قدر المستطاع. وكما تبيّن في حرب لبنان الثانية، فإن تنظيم منطقة القتال بهذا الشكل وإدارة المعركة وفقاً لهذه المبادئ، قدّ قلّلت فعلاً، وبنسبة كبيرة، امتيازات الجيش الإسرائيلي وشكّلت ضغطاً كبيراً على الجبهة الداخلية الإسرائيلية.

دفع نجاح حزب الله العملاني بحماس إلى محاولة تطبيق نموذج قتال مشابه في قطاع غزة. فالعامل الأهم والأساس في "نموذج حزب الله" هو تشكيل الصواريخ. وفي الواقع، إن جزءاً كبيراً من جهود تطوير حماس كُرّست لتحسين وتوسيع هذا التشكيل. وكانت صواريخ القسام قد طُوّرت بداية الانتفاضة الثانية، وفي سنة 2001 بدأت المنظمة بإطلاق الصواريخ من غزة باتجاه مستوطناتٍ داخل إسرائيل. وبعد "الانفصال"، وبقوة أشد بعدما سيطرت على قطاع غزة في حزيران 2007، تم التعجيل في عملية بناء القوة لحماس. وأدّت حرية العمل التي حصلت عليها إلى تحسين سريع في تشكيل القسّام. وفي صلب جهود الحركة كان هناك محاولتها جمع كميات كبيرة من الصواريخ في مخازنها وكذلك إطالة مدى التهديد الفعّال لهذه الصواريخ. وفي الواقع، بعد نصف سنة من الإمساك بالسلطة في القطاع، في كانون الأول 2007، نجحت حماس في التغلب على مشكلة تكنولوجية منعتها من تخزين صواريخ القسّام لفترات زمنية مطوّلة.  وهذا الأمر أتاح لها جمع كميات كبيرة من الصواريخ في مخازنها وتحقيق الهدف المركزي للتشكيل الناري في الحرب ـ نيران مكثّفة، متواصلة ومطولة، باتجاه الجبهة الداخلية الإسرائيلية.

بدأت حماس بالتزامن مع زيادة احتياطي الصواريخ التي بحوزتها، العمل على إطالة مدى الاستهداف الفعال. وبواسطة علوم وتقنيات إيرانية، نجحت حماس بإطالة مدى القسام من كيلومترات معدودة إلى 13 كيلومتراً، وفي النصف الثاني من سنة 2007 أُطلق باتجاه مدينة أشكلون صواريخ محسّنة وصلت إلى هذا المدى. وفي الوقت نفسه، عملت حماس على تهريب صواريخ غراد عادية إلى القطاع يبلغ مداها 20 كيلومتراً وصورايخ محسنة لمدى 40 كيلومتراً. وقد أتاح تهريبها إلى القطاع توسيع تهديد الصواريخ نحو مدن إسرائيلية أخرى مثل أشدود وبئر السبع. هذا وسهّل إخلاء المحور الحدودي بين القطاع ومصر من قبل إسرائيل في أيلول 2005، إدخال هذه الصواريخ إلى القطاع. وهكذا أيضاً في آذار 2006 أُطلقت صواريخ غراد أولى باتجاه مدينة أشكلون. وصحيح أن منظمة الجهاد الإسلامي هي من نفّذ إطلاق النار، لكن حماس راكمت من تلك المرحلة وما بعدها عشرات أو مئات صواريخ الكاتيوشا في مخازنها. وقد خططت لإطلاق الصواريخ بأساليب مختلفة، تم نسخها هي أيضاً عن النموذج اللبناني ـ منصات مخبأة تحت الأرض، خلايا صغيرة، إطلاق نار بواسطة "ساعات توقيت" (timers) وما شاكل ذلك ـ. هذه التقنيات تم تطبيقها قبل المواجهة، وعلى ما يبدو جرى بالفعل تحسين عملية نجاة خلايا الإطلاق في جولات القتال المختلفة مع الجيش الإسرائيلي.

إلى جانب تحسين تشكيل الصواريخ التي بحوزتها، حاولت حماس تطبيق مفهوم دفاع بري بناء على نموذج حزب الله، أي الاعتماد على قوة بشرية مدرّبة ومنتظمة في قالب عسكري، وترتكز على تشكيلات دفاعية معدّة مسبقاً. وهكذا، فور سيطرة حماس على قطاع غزة، أسّست أجهزتها العسكرية وبدأت بإقامة روتين عسكري تضمن تأهيلات، تدريبات ونشاط أمن جاري. كما تم تنظيم أطرها المقاتلة وفقاً لتدرج عسكري: فصائل، سرايا، كتائب وألوية. وحتى بدء عملية "الرصاص المسكوب" نجحت حماس بإقامة ثمانية ألوية. وهذه تم تأهيلها بقوة بشرية مدربة نسبياً توجهت لإجراء تدريبات في إيران أو حصلت على تأهيلها من قبل مدرّبين تم تأهيلهم لذلك في معسكرات إيرانية. وأُعدّ تشكيل الدفاع، الذي اعتمد عليه مقاتلو حماس، للعرقلة، وبالأخص تكبيد قوات الجيش الإسرائيلي البرية خسائر فادحة. وكما في جنوب لبنان، استندت حماس على تفخيخ بيوت ومحاور دخول أنفاق تحت الأرض وكذلك نيران قناصة ومضاد للطائرات، كما شرح قائد لواء المظليين، هرتسي هليفي، في ختام عملية "الرصاص المسكوب": "كان (هناك) أنفاق، كان هناك عبوات ناسفة كبيرة، أفخاخ على شكل لعب بصورة فرد من حماس، وخلفها عبوة ومدخل نفق معدّ لخطف جندي. حتى أنني تفاجأت من كمية العبوات التي انتظرتنا هناك. شوارع كاملة مشبّكة بأسلاك كهربائية مربوطة بعبوات... وكانت العبوات هناك، فعلاً، في كل مكان، حتى داخل صحون لاقطة".

مواجهة الجيش الإسرائيلي للنموذج

باستثناء قضايا أخلاقية، سياسية وغيرها ظهرت في عملية "الرصاص المسكوب" وفي ختامها، يمكن القول إن الجيش الإسرائيلي ومنظومة السلطة المحلية قد واجها بنجاح نسبي حرباً بـ"نموذج حزب الله". الأهداف التي طلبت حماس إحرازها بواسطة تطبيق هذا النموذج والطرق لتحقيقها فشلت بمدى كبير. نيران الصواريخ، التي بواسطتها أملت حماس باستنزاف الداخل الإسرائيلي وممارسة ضغط غير مباشر على الحكومة الإسرائيلية لوقف القتال، تقلّصت بشكل كبير. وتقديرات الاستخبارات الإسرائيلية قبل العملية حدّدت إطلاق 100 صاروخ في اليوم كمعدل. وواقعاً، نجحت حماس، في أيام القتال الأولى، بإطلاق ما معدّله 60 صاروخاً في اليوم، وفي مراحله الأخيرة حوالي 20 صاروخا في اليوم. علاوة على ذلك، وواصلت السلطات المحلية في الجنوب، التي كانت موجودة تحت النار، أداء مهامها؛ وكان الضرر المادي قليل نسبياً، وبفضل تقديرات مسبقة لقيادة المنطقة الداخلية وتجاوب السكان مع توجيهاتها، كانت أيضاً نسبة الأضرار البشرية ضئيلة. وبالتزامن، فإن تشكيل الدفاع لحماس أيضاً، والذي كان يفترض به تكبيد خسائر فادحة بجنود الجيش الإسرائيلي، لم يُحرز هدفه. وأنهى الجيش الإسرائيلي القتال مع عشرة جنود قتلى، وكانت غزة بعيدة عن أن تكون "مقبرة للجنود الإسرائيليين"، كما هدد أحد المتحدثين باسم حماس. وهكذا حصلت العملية حتى أيامها الأخيرة على شرعية شعبية واسعة. وأظهر استطلاع أُجري قبل وقت قصير من انتهاء القتال أن 78% من الشعب يعتقدون أن العملية في غزة ناجحة. حتى أن إعلان وقف النار قد قوبل بخيبة في الشارع الإسرائيلي، وأدى إلى التساوي بين أولئك الذين اعتقدوا بأن العملية ناجحة ومن اعتقدوا العكس. وبناء على ذلك، لم يتم، من ناحية شعبية، تقييد حرية القرار لدى الحكومة الإسرائيلية ومجال الشرعية الذي عمل فيه الجيش الإسرائيلي.

إن العاملَين الضروريين لنجاح "نموذج حزب الله" ـ نيران الصورايخ على الأراضي الإسرائيلية، وتشكيل الدفاع البري ـ قد أبطلهما الجيش الإسرائيلي بواسطة عدة طرق.

الطريقة الأولى، ضربة البداية.. وهذه فاجأت حماس من نواحي كثيرة، وعلى رأسها توقيت العملية. الهجوم الجوّي المكثّف جرى بعد عملية خداع دفعت حماس إلى خلاصة مفادها أن إسرائيل ستوافق في نهاية المطاف على تجديد وقف النار بشروط محسّنة من ناحية المنظمة. وإضافة لذلك، فاجأ الجيش الإسرائيلي باختيار الأهداف. فمنذ الطلعات الجوية الأولى تمت مهاجمة ـ إلى جانب أهداف ذات طابع عسكري وقاذفات صواريخ ـ رموز سلطة حماس، مؤسساتها ومكاتبها المختلفة. وكان يبدو أيضاً أن شدة ضربة البداية فاجأت كبار المسؤولين في حماس.

أما الطريقة الثانية، والتي بها واجه الجيش "نموذج حزب الله"، فكانت نشاطاً متشابكاً من "اصطياد دبابات" من الجو وسيطرة على أرض. وقبل العملية البرية تم تركيز وسائل جمع معلومات وهجوم كثيرة فوق القطاع. ونجحت هذه بضرب تشكيل الصواريخ وتقليل عدد الإطلاقات. وبالتزامن مع دخول القوات البرية إلى القطاع والسيطرة على مناطق إطلاق الصواريخ، خصوصاً في محيط مدينة غزة، فقد تقلّص بشكل أكبر مجال المناورة لمطلقي الصواريخ، وعليه، تقلّص أيضاً عدد الصواريخ التي تسقط في الأراضي الإسرائيلية.

وكما ذُكر، إن تشكيل الدفاع البري لحماس أُعدَّ مسبقاً وهدف للقضاء على أكبر عدد ممكن من الجنود. وواجه الجيش الإسرائيلي هذا التحدي عبر تفعيل نيران بقوة عالية من الجو ومن البر. وبحسب أقوال محلل عسكري إسرائيلي، فُعّلت في العملية الأخيرة قوة نيران لم تُشاهد مطلقاً في قتالٍ للجيش الإسرائيلي داخل أرض مدنيّة. وأُعطي ترخيص لقادة الألوية باستهداف كل بيت يشتبه بأنه مفخخ. وعندما اقتحموا بيت لاهيا فإن منزلاً من كل اثنين، كمعدل، "خطف" قذيفة. وأوعزت القيادة العسكرية بتفعيل نيران مكثّفة، وهذا كان أيضاً السبب، وفقاً لأقوال قائد لواء المظليين، لضآلة الخسائر وسط جنود الجيش الإسرائيلي: "هذه القوة، التي دخلوا بها، خفّضت مستوى المصابين... القوة، التي فعّلناها في الهجوم، لم تتح لهم تفعيل الأمور التي كانوا مستعدين لها على الشكل الأفضل. وحتى ضجيج ما قبل الدخول. عندما يسمعون ضجة كهذه فإنهم لا يرغبون بأن يكونوا العدو من الطرف الثاني. لقد كانت رعدة كل الأرض. طائرات حربية، مروحيات، مدفعية، دبابات. أنا أظن أن هذا ما شعر به العدو أيضاً. وصلنا إليهم من جهات غير متوقعة وبقوةٍ كبيرة إلى درجة لم يبقى فيها المخربون حتى يشغّلوا الأفخاخ التي حضّروها لنا... القوة التي دخلنا بها دفعتهم إلى الهرب".

وإضافة إلى كل هذا، يبدو أن قسماً كبيراً من جهود إسرائيل قد وُجّهت لخلق ردع في الطرف الفلسطيني، وربما حتى وسط سوريا وحزب الله. فبعد مهاجمة مؤسسات الحكم في القطاع ونظراً لحجم الدمار الذي خلّفه الجيش الإسرائيلي وراءه، من الصعب تحاشي شعور أنه في العملية في غزة تم تطبيق، عمداً أو صدفة، ما سمّاه قائد المنطقة الشمالية غادي ايزنكوت "إستراتيجية (عقيدة) الضاحية". وبناء على هذا المفهوم، حدّد ايزنكوت قبل أشهر معدودة من العملية في غزة قائلاً: "في كل قرية سيطلقون منها النار باتجاه إسرائيل، سنفعّل قوة غير متناسبة ونوقع هناك ضرراً ودماراً هائلَيْن. من ناحيتنا، يتعلق الأمر بقواعد عسكرية".

ووفقاً لهذا المنطق، بدلاً من التركيز على اصطياد قاذفات صواريخ، يجب التركيز على خلق ردع عبر ضربة قاسية في المنطقة التي أطلقوا النار منها. وحتى الساعة، يصعب القول إن كانت إسرائيل بواسطة أسلوب العمل هذا قد نجحت "بتعليم" حماس كما نجحت "بتعليم" [السيد] نصر الله، مثلما صاغ هذا "توم فريدمان".

لبنان أمام قطاع غزة ـ المقارنة المدحوضة؟

يرى الجمهور الإسرائيلي، وعلى ما يبدو أيضاً الجيش الإسرائيلي، في العملية في غزة "تجربة مصحّحة للفشل وللإذلال الذي تعرّض لهما في حرب لبنان صيف 2006" أو حتى "خلاص من صدمة لبنان". وحتى لو كانت العملية تُعَدّ نجاحاً عسكرياً، يجب التطرق لهذا النجاح "بضمان محدود"، وبالتأكيد لا يجب المسارعة لاستنباط أن الجيش وجد كل الحلول لمواجهة "نموذج حزب الله" أو مفهوم قتال مشابه. علاوة على ذلك، الانتشاء من نجاح عملية "الرصاص المسكوب" من شأنه أن ينطوي على فشل المواجهة القادمة مع حزب الله أو مع خصم آخر يستند على نفس المبادئ. وبنظرة في العمق، يبدو أن نقطة التشابه المركزية بين غزة ولبنان هي مفهوم القتال، الذي حاولت المنظمتان ـ حماس وحزب الله ـ تطبيقه: استنزاف الجبهة الداخلية الإسرائيلية عبر نيران الصواريخ إلى جانب عرقلة وتكبيد القوات البرية خسائر من خلال تشكيل دفاع معدّ مسبقاً. وإضافة إلى ذلك، يمكن الإشارة إلى ظروف داخلية متشابهة ـ وجود جهات موالية للغرب والتي تعارض المنظمة الإرهابية  (في الساحة الفلسطينية أبو مازن وفتح، وفي لبنان معسكر 14 آذار برئاسة سعد الحريري) ـ، وما خلا هاتان النقطتان، فإن الفارق بين الساحتين أكبر من التشابه بشكل يثير التعجّب بما يخص نفس القدرة على المقارنة بينهما.

معطيات الأرض: منطقة منبسطة مقابل منطقة جبلية ومشجرة

الفارق الأبرز هو في معطيات الأرض، تبلغ مساحة أرض قطاع غزة نحو 365 كلم2، بينما مساحة الأراضي اللبنانية تتجاوز العشرة آلاف. منطقة القتال الأساس ـ جنوب لبنان ـ مساحتها نحو 300 كلم مربع. وعند إضافة منطقة بيروت ومنطقة سهل البقاع اللبناني، والذي من المنطقي أن يدور فيهما قتال بأي شكل من الأشكال، نحصل على أرض قتال تتجاوز الـ2000 كلم مربع. ولذلك مدلول كبير خصوصاً في كل ما يتعلق بقدرة الجيش الإسرائيلي على تركيز موارد استخبارية وعملانية وبذلك تجسيد امتيازاته التكنولوجية. وهكذا، ففي القطاع، وإزاء مساحته المحدودة، يمكن تشكيل تركيز موارد مرتفع، أما في لبنان فتملي منطقة القتال الكبيرة تشتيت موارد. وإلى جانب حجم الأرض، فإن معالم الأرض مختلفة هي أيضاً. قطاع غزة منبسط ورملي، بينما جنوب لبنان جبلي وفي جزء منه مشجر أيضاً. والمدلولات العسكرية لهذا الواقع كثيرة، وعلى رأسها تقييد قدرة المناورة والحركة. إن معالم الأرض في لبنان تفرض دخولاً وحركة في عدد محدود من محاور طول وعرض معلومة مسبقاً، إقامة معابر ضرورية وتعني وجود أراض غير سالكة أمام الآلية أو المدرعة. كل هذه تسهّل استعداد القوة المدافعة وتصعب الأمر على القوة المهاجمة. وصحيح أن الأرض المدنية في قطاع غزة غير مريحة لحركة قوات كبيرة وللمناورة، لكن حتى ضواحي المنطقة المبنية فإن معالم الأرض رملية ومنبسطة،، وتتيح حركة سريعة ومريحة.

فجوة في الخبرة العملانية

وإضافة إلى معالم الأرض، يبرز الفارق في الخبرة العملانية لدى المنظمتين: حماس وحزب الله. التشكيل المقاتل في حزب الله قديم وذو خبرة عملانية غنيّة. فحتى حرب لبنان نجحت المنظمة باجتياز ثلاث جولات قتال مع الجيش الإسرائيلي (1993، 1996، 2002). الفارق الزمني بين فصول القتال كان طويلاً وأعطى حزب الله ما يكفي من الوقت لاستخلاص العبر واختبارها في جولة القتال التالية. هذه العبر كانت حجارة مركزية في عملية بناء قوة منظَّمة نفَّذتها المنظمة بمساعدة وطيدة من إيران. وبعبارة أخرى، في سنة 2009 وقفت خلف حزب الله حوالي 16 سنة من بناء قوة منظّمة استندت على عبر استُخلصت من ميدان القتال. وفي المقابل، فإن عملية بناء القوة في حماس قد سارت على طريق عسكري صحيح منذ شهر حزيران 2007 فقط، بعد الإمساك بالسلطة في القطاع. وعليه، وصل الذراع العسكري للمنظمة إلى المعركة "صغيراً" و"غير ناضج" من ناحية عملانية. صحيح أنه كان في جعبته سنوات طوال من النشاط الإرهابي ضد الجيش الإسرائيلي في القطاع، لكنها لم تواز، طبعاً، التحديات التي واجهوها أثناء عملية "الرصاص المسكوب". ومن هذه الناحية، من الواضح أنه مقارنة مع حزب الله، فإن تشكيل حماس العسكري كان لا زال في القماط أثناء العملية في غزة.

فجوة في النوعية وفي الكمية

بهذا الشأن، تصعب المبالغة في فجوات القدرات بين حماس وحزب الله. وأصلاً هذا صحيح من كل النواحي، وخصوصاً بالنسبة لتشكيل الصواريخ ـ كمية الصواريخ، القاذفات والقوة البشرية الماهرة ـ. فمع بداية عملية "الرصاص المسكوب" كان بحوزة حماس بضع عشرات من الصواريخ يصل مداها إلى 40 كلم. أما بحوزة حزب الله، في المقابل، وهذا وفقاً لكلام وزير الدفاع أيهود باراك، فكان هناك حوالي 40 ألف صاروخ من أنواع مختلفة، تغطي معظم أراضي دولة إسرائيل. تشكيل الدفاع البري، الذي أعدّته المنظمتان يختلف هو أيضاً بنوعيته وكمية الموارد المخصصة له. فقد حضّر حزب الله في جنوب لبنان عشرات القرى المحصّنة والمأهولة بناشطين ماهرين نسبياً ومسلحين بسلاح حديث. وفي المقابل، في القطاع، حصّنت حماس عدة أحياء وقرى، خصوصاً في أطراف المنطقة المدنية. والمقاتلون، الذي شغلوا هذه المواقع كانت تُعدُّ مهارتهم وتجهيزاتهم أقل بكثير عما لدى زملائهم في لبنان.

الداخل الاستراتيجي: ارتباط متصل مقارنة مع ارتباط مقطّع وإشكالي

ثمة فارق إضافي بارز وتقريباً حاسم ألا وهو الداخل الإستراتيجي، الذي يقف إلى جانب المنظمتين. استفاد حزب الله من جبهة داخلية لوجستية وعملانية عميقة بصورة إيران وسوريا. وهاتان تنقلان إلى حزب الله، على أساس جاري، وبشكل عام أثناء حرب، علوماً وعتاداً قتالياً عبر الحدود المفتوحة بين سوريا ولبنان. وبهذه الطريقة أيضاً يخرج نشطاء حزب الله بشكل دائم لإجراء تدريبات في إيران. وللارتباط المتصل مع الداخل الاستراتيجي مدلولات كثيرة، نفسية، لاسيما عسكرية، وبالأخص بما يتعلق بنوعية الوسائل القتالية، تنظيم القوة العسكرية، مهنية المقاتلين و"طول النفس" اللوجستي. وخلافاً لحزب الله، فإن ارتباط حماس بجبهته الداخلية الإستراتيجية ـ إيران، سوريا ـ مقطّع وإشكالي إزاء غياب تواصل جغرافي مباشر وإزاء عمليات الإحباط الإسرائيلية والمصرية.

الفارق في الشأن الاستراتيجي بين قطاع غزة ولبنان

ثمة نقطة خلاف مهمة أخرى تميّز بين قطاع غزة ولبنان وهي الشأن الاستراتيجي وتعاطي المجتمع الدولي مع الحكم في هاتين المنطقتين. يرى الغرب في حماس جهة غير شرعية، تشكّل عقبة أمام عملية السلام. وعليه، فإن كل هدف مرتبط بها "صالح" للهجوم. ولذلك استفادت إسرائيل من حرية التصرف في كل ما يتعلق بمهاجمة أهداف في غزة. وفي موازاة حماس، فإن الحكومة اللبنانية جهة شرعية بنظر الغرب. وصحيح أن الانتخابات القادمة للبرلمان اللبناني، والتي ستجري في ربيع 2009، قد تزيد من قوة المعسكر الموالي لسوريا، لكن نظراً لأسلوب الحكم الطائفي المتّبع في الدولة، فإن الجهات الموالية للغرب ستبقى جهة حكم ذات صلة بمقدار ما. ومن المنطقي أن لا تُعطي الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا حرية التصرف للجيش الإسرائيلي في تدمير البنى التحتية للدولة وللسلطة. فضلاً عن ذلك، لدى الدول الغربية مصالح اقتصادية، ثقافية وغيرها في لبنان. وهذه الحقيقة منعت الحكومة الإسرائيلية عن الموافقة على مهاجمة بنى تحتية لبنانية خلال صيف 2006. وهذا المعطى من المنطقي أن يبقى ذا صلة أيضاً في المعركة القادمة في لبنان.

قتال الجيش الإسرائيلي في غزة ـ ماذا يؤخذ وماذا يُترك

من كل ما قيل حتى الآن، يظهر، إلى حد كبير، أن القتال في غزة وعملية "الرصاص المسكوب" كانتا على الأكثر "ضوء لبنان" بشروط دولية مريحة. وإزاء الفوارق الكثيرة بين الساحتين، فستكون محاولة تطبيق مبادئ عملية "الرصاص المسكوب" بشكل "أعمى" في المعركة القادمة أمام حزب الله خطأً فادحاً. فرضية أن ما نجح في قطاع غزة أمام حماس سينجح أيضاً في لبنان منطقي اتضاحها بأنها مغلوطة. حجم منطقة القتال، والفارق في نوعية قوات العدو تستوجب من الجيش الإسرائيلي استثمار قوات أكبر على سطح أرض أوسع. وانطلاقاً من فرضية معقولة بأن صواريخ بعيدة المدى يمكن إطلاقها أيضاً من مناطق بعيدة مثل البقاع اللبناني، فإن التحدي، الذي يشكّله تشكيل صواريخ حزب الله أمام الجيش الإسرائيلي أكبر بما لا يقارن من ذلك الذي شكّلته حماس في عملية "الرصاص المسكوب". وعليه، فإن تطبيق "إستراتيجية السحق"  أو "إستراتيجية الضاحية" في كل مكان في لبنان تُطلق منه صواريخ، سيكون صعب التنفيذ، وسيؤدي إلى تشتيت الموارد الإسرائيلية وإلى ناتج هامشي متناقص.

وبشأن المدى الزمني في المعركة القادمة أمام حزب الله، فافتراض أنه ستوضع لإسرائيل "ساعة رملية" سياسية مشابه لتلك التي وُضعت في غزة، قد يتبين بأنه خطأ. إدارة الرئيس أوباما مختلفة جوهرياً عن إدارة الرئيس بوش. الريح الجديدة التي تهب في واشنطن بشأن الشرق الأوسط من المعقول أن تؤدي إلى ضغوط سريعة لوقف القتال. وقد تؤثر أيضاً على هذه الضغوط، ردود فعل الدول العربية المعتدلة. هذه الردود قد تكون مختلفةً عن السابق. وهذه الدول قد تستنتج أن جولات قتال الجيش الإسرائيلي أمام منظمات "المقاومة" في غزة وفي لبنان ضررها أكبر من فائدتها ـ فهي لا تؤدي إلى تصفية "المقاومة" وفي المقابل، تثير الشارع العربي وتُظهر سلطاته كأنها متعاونة مع إسرائيل والغرب. وعليه، من شأن الدول العربية المعتدلة أن تزيد ضغطها على واشنطن لتقصير فترة الحرب.

وحتى سياسة مهاجمة الأهداف معرّضة لأن تكون مختلفة بسبب الفرق بين الشرعة الدولية المعطاة لسلطة حماس وبين تلك المعطاة للحكومة اللبنانية. وهذا إضافة إلى الظروف الدولية الجديدة، التي تشكّلت مع تسلّم الرئيس أوباما منصبه. وفي ظروف دولية على هذه الشاكلة، ستواجه إسرائيل صعوبة في مهاجمة أهداف بنى تحتية مدنية وحكومية في لبنان كما فعلت في غزة. وبالمقدار نفسه، فإنه حتى عملية برية معدّة للاستيلاء على أرض لتقليص كمية إطلاق الصواريخ كالتي قام بها الجيش الإسرائيلي في القطاع من شأنها أن لا تكون فاعلة في لبنان بسبب مناطق الإطلاق البعيدة، وبسبب تشكيلات حزب الله الدفاعية الكثيفة وبسبب احتمال أن تكون الفترة الزمنية، التي ستُعطى لإسراإ? قصيرة بشكل جوهري.

إن تطبيق "مبادئ غزة" في المعركة القادمة في لبنان قد تُقلّص كمية الصواريخ المطلقة، لكن بسبب مجالات النيران الكبيرة، التي يُتوقع أن يشكّلها حزب الله، فإن تقليصاً بنسبة 60% للنيران على شاكلة ما أُحرز في عملية "الرصاص المسكوب"، سيترك أيضاً التجمعات السكانية في إسرائيل تحت مطر يومي من الصواريخ. ومن هذه الناحية، فإن 300 حكمها كحكم 30 [صاروخا]. أضف لذلك، على افتراض صحة المعلومات حول امتلاك حزب الله لصواريخ تغطي معظم أراضي الدولة الإسرائيلية، فإن شلّ المركز السياسي ـ اقتصادي ـ منطقة "غوش دان" - متاح حتى بواسطة صواريخ معدودة في اليوم. ومع كل هذا، ما الذي يمكن أخذه من العملية في غزة إلى المعركة القادمة أمام حزب الله أو أخصام آخرين يقاتلون بحسب نفس النموذج؟

يمكن مواجهة "نموذج حزب الله" بنجاح

العبرة الأساسية ـ وربما الأهم من بينها ـ هي إدراك أنه يمكن النجاح في الحرب ضد "نموذج حزب الله". بعد حرب لبنان الثانية ساد في إسرائيل، وعلى ما يبدو في الجيش الإسرائيلي أيضاً، شعور بأنه ليس هناك طريقة ناجعة لمواجهة تهديد يجمع قتالاً برياً ونيراناً مكثّفة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية. وأثبتت العملية في غزة، على الرغم من الظروف المختلفة بين الساحتين، أنه حتى ولو لم يجد بعد الجيش الإسرائيلي الصيغة الكاملة لمواجهة "نموذج حزب الله"، فبحوزته "طرفي خيط" لحل المشكلة. حرب ضد هذا النموذج، كالذي جسّدته العملية في غزة "بصورة مصغّرة"، يجب إدارتها بعدة مستويات، كل واحدة منها موجّهة لإحراز هدف مختلف.

فتح معركة بشكل مفاجئ وخلق صدمة

يبدو أن أحد مفاتيح النجاح هو عنصر المفاجأة. وكما جرى قبل عملية "الرصاص المسكوب"، يجب إعداد خطة خداع تخلق وسط الخصم مفاجأة أساسية. وهذه المفاجأة يجب أن تكون مستغَلّة لضربة بداية عظيمة القوة، جوّية أو غير ذلك، أولويتها تحييد كبار مسؤولي القيادة السياسية والعسكرية لحزب الله وكذلك ضرب قدراتهم الإستراتيجية.

المستوى العملاني: إفساد خطة الخصم القتالية - تركيز الجهد البري

بسبب كبر ساحة المعركة في لبنان وانتشار العدو، يجب تركيز النشاط العسكري الإسرائيلي في المناطق الأكثر تأثيراً على الخصم. وعلى الرغم من أن حزب الله أحياناً يُقدَّم كمنظمة مفرَّقة حيث أن لكل إطار مقاتل حرية عمل مطلقة، إلا أن حرب لبنان الثانية أثبتت العكس. يستخلص تحقيق أجراه باحثون أميركيون، حلّل قتال المنظمة في صيف 2006، أن حزب الله قاتل كمنظمة عسكرية منظّمة أكثر من منظمة عصابات متفرّقة. التشبّث بالأرض، الانتشار في مواقع معدّة سلفاً، إدارة معارك مواجهة من مدى قريب، تركيز القوات، استغلال حالة الأرض من أجل التمويه، إدارة مواجهات محلية، وغير ذلك.. وكلها تثبت أن قتال حزب الله أقرب إلى قتال جيش تقليدي من قتال منظمة إرهابية أو عصابات. وبنظرنا، تظهر أهمية خاصة لنقاط أساسية في التحقيق:

الأولى: أن حزب الله أدار الحرب بواسطة تشكيل قيادة وسيطرة تسلسلي ومنظّم اتّخذ قرارات في الوقت الحقيقي

الثانية: أن حزب الله نظم ساحة القتال بحسب منطق متميّز كان هدفه عرقلة قوات الجيش الإسرائيلي عن الوصول إلى مناطق الإطلاق المركزية في الجنوب

الثالثة: ضبط النار، التي جرت، بناء عليها، المنظمة والتي بواسطتها نجحت في جدولة صليات صاروخية واسعة النطاق إلى داخل الأراضي الإسرائيلية وكذلك مساعدة قواتها بالنار.

وإن كان الوضع كذلك، فالعمل البري لإسرائيل يجب أن يكون محصوراً في مناطق معيّنة ومن منطلق تفعيل قوة برية وجوية عالية على طراز "الرصاص المسكوب". وبدلاً من الاستيلاء على أراضٍ وضرب الخصم، يجب أن تكون أهداف العملية تحييداً سريعاً لتشكيل القيادة والسلطة ووصولاً إلى مناطق الإطلاق المركزيّة، انطلاقاً من فرضية أن انهيار سلسلة القيادة في حزب الله سيجلب معه تقليصاً جوهرياً في إطلاق النار نحو الأراضي الإسرائيلية. وفي هذا الشأن، فإن الجيش الإسرائيلي ملزم بالالتفات إلى عملية برية بأي حجم كانت في العمق اللبناني والاستعداد لها، لاسيما بغية تحييد القيادة العليا لحزب الله وكذلك قدرته على إطلاق صواريخ بعيدة المدى إلى "غوش دان" أو أهداف إستراتيجية أخرى في إسرائيل.

المستوى الاستراتيجي: تعزيز الردع وإطالة فترة الإصلاح، ضرب البنية التحتية التنظيمية ـ المدنية

أحد الأهداف المركزية للجيش الإسرائيلي في المعركة القادمة أمام حزب الله يجب أن يكون خلق ردع ومسّ بقدرة الإصلاح لدى حزب الله بعد الحرب. وهذا الهدف يمكن إحرازه، ليس عبر ضرب مؤسسات الحكم ومنشآت بنى تحتية مدنية مثلما حصل في عملية "الرصاص المسكوب" وإنما، بشكل أكثر نجاعة وبثمن دولي أقل، عبر استهداف البنية التحتية المدنية والاقتصادية لحزب الله نفسه. وعملياً، هذه البنية التحتية هي ممتلك إستراتيجي للمنظمة، وصحيح أنها أصيبت في حرب لبنان الثانية، إلا أن هذه الإصابة كانت فقط نتيجة فرعية لمهاجمة البنية التحتية العسكرية. وفي هذا الشأن، يجب أن تكون المراكز الشيعية الكبيرة في الجنوب، البقاع وبيروت هدفاً مركزيّاً. والمقصود بذلك ليس إجراء حرب إبادة ضد الطائفة الشيعية وإنما توجيه ضربة قاسية للأجهزة، التي بواسطتها يقيم حزب الله الارتباط بالطائفة والتي بواسطتها يجند مواردها لصالحه. وهذا إضافة إلى استهداف بنيته الاقتصادية المستقلة في لبنان.

المستوى السياسي: تقليص فترة المعركة بواسطة فك الرابط بين العملية العسكرية وبلورة آلية تسوية

وكما قيل، إن إسرائيل ملزمة بالالتفات إلى أنه من الممكن أن يكون المدى الزمني في المعركة القادمة في لبنان مختلفاً بالكامل، ويمكن أن تُعطى للجيش فترة زمنية أقصر بكثير مما أعطي في حرب لبنان الثانية، أو أثناء عملية "الرصاص المسكوب". وعليه، يجب أن تكون المعركة مصمّمة قبل كل شيء لإحراز إنجاز أقصى في أقصر فترة زمنية، وعدم استبعاد أن يتعلق الأمر بأسابيع من القتال. وإحدى الطرق لتقليص مدة القتال هي إقامة جزء من النشاط الدبلوماسي، قبل الخروج إلى المعركة، الهادف لإيجاد آلية إنهاء. وعلى الأغلب، يبدأ نشاط من هذا النوع بعد عدة أيام من اندلاع الحرب. ويعتمد إيقاف عملية الجيش الإسرائيلي، بقدر كبير، على نتيجة الجهود الدبلوماسية، بدلاً من اعتبارات عملانية. وفي لبنان، مبادئ التسوية واضحة ويمكن بحثها مع الجهات ذات الصلة قبل المعركة. ولا يهم ما الذي ستكون عليه نتيجة القتال، إذ على آلية الإنهاء أن تتضمن حلاً لإغلاق أكثر نجاعة للحدود بين سوريا ولبنان، منع نقل وسائل قتالية من إيران، إقصاء تواجد حزب الله من الجنوب إلخ. هذه المبادئ وغيرها، إلى جانب تفاهمات عامة بين الشركاء العتيدين في آلية التسوية، يمكن بلورتها حتى قبل المعركة، وبذلك جعل العمل الدبلوماسي المتوقع أكثر نجاعة وصرامة. وبهذه الطريقة، يمكن، وبنسبة كبيرة، تقليل الاعتماد الموجود بين إنجاز آلية تسوية وبين مدة القتال.

خلاصة

يبدو أنه بالخصوص من ناحية عسكرية ـ عملانية وتكتيكية ـ كانت العملية في غزة ناجحة. وفي الوقت نفسه، فإن أي محاولة للتوصل إلى استنتاجات بعيدة المدى في عملية "الرصاص المسكوب" ضد حماس بما يخص المعركة القادمة أمام حزب الله قد يتبين أنه خطأ مرير. الفوارق بين ساحتي القتال وبين المنظمتين نفسهما كبيرة وجوهرية بحيث من الواضح أن الصحيح هنا قد يتبين بأنه خطأ هناك. وقد يكون للتطبيق الأعمى لمبادئ "الرصاص المسكوب" وللنشوة بنجاحاتها نتائج خطيرة سواء على بناء القوة أو على تفعيلها في المعركة القادمة أمام حزب الله؛ وفي جميع الأحوال، إن كان ثمة أمر ممكن ويجب تعلُّمُه من العملية في غزة بخصوص لبنان، فهو أنه من الممكن مواجهة نوع التهديد الذي يشكّله "نموذج حزب الله" بنجاح ومن المناسب، بهذا الشأن، التطلع لتخطيط معركة تقود إلى انتصار حاسم وواضح. وفي الوقت نفسه، يجب القيام بذلك بحكمة انطلاقاً من احترام الخصم وفهم حدود القوة الإسرائيلية.

المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية ـ العدد91

2009-07-10